السبت، أغسطس 28، 2010

براك


ليس في قريتنا عائلة ـ بل ولا فرد ـ بدون لقب، إن اللقب في قريتنا هو اسم الاسم، وليس من قبيل التنابزـ وإن كان في بعض الأحيان كذلك ـ وإنما لضرورة هي التحديد والتمييز،أي إعادة التسمية، ففي قرية مثل قريتنا يقيم بها عددٌ ممن يسمَّون محمّداً لابدّ من تقليد كهذا، ليعرف السامع أَيَّ محمد يقصد المتحدّث، محمد الفقيه؟ أم محمد بوحوش؟ أم محمد الكرهبجي؟ ، ومعلوم أن لكلّ لقب حكاية.


فعائلة الفقيه تنتسب إلى رجل كان إمام مسجد أو طبيبا شعبيا، وعائلة بوحوش هم أحفاد رجل اتخذ بيتا من الحجر والطوب سكنا بناه بيديه وسط خيام النجع، أما عيت الكرهبجي فجدّهم هو أوّل رجل امتلك سيارة وقادها على مستوى القرية والقرى المجاورة على مدى سنين، فإذا وفدتَ جديدا على القرية، فلا بدّ أن تهيأ نفسك لتقبّل لقبك الخاص المميّز، الذي يجب أن تسمعه بلا حرج، وتسلّم به، سواءً أعجبك لقبك أم لم يعجبك، فإن لم تفعل فسيحدث لك ما حدث لمحمود "براك"، أنظر ! ها أنا أجد نفسي ـ عفواً ـ أذكر الرجل بلقبه لا باسمه مجردا .


محمود "براك" هو محمود محمد علي، رئيس عرفاء في القوات المسلحة، حلَّ بالقرية منذ سنتين بعائلته، ليكون قريبا من مقرّ عمله الجديد، أشهر قليلة وصار يعرف في القرية بهذا اللقب، ولقد نال محمود هذا اللقب كثمرة من ثمرات رغبته في أن يكون فردا من أفراد القرية بحق، يجالسهم ويسامرهم ويقف إلى جانبهم في أفراحهم واتراحهم، ويمدُّ جسرا طويلا عريضا متينا من العلاقات الحميمة معهم، تلك الثمرة لم يقطفها ولم يقدّمها له أهل القرية البدو بكرمهم وترحابهم بكل ضيف وحالٍّ جديد وحسب، وإنما ساهم هو في ينعها، بتكيّفه السريع مع أهل القرية، تلك المهارة التي اكتسبها من خبرته في التنقّل من قرية إلى أخرى، ومدينة إلى سواها بسبب طبيعة عمله .


أما قصة تلقيبه فتبدأ من ذلك اليوم الذي بلغ فيه محمود حبُّه للقرويين وارتياحُه واندماجه ذروتَه، ولم تشفع له عندهم هيأته الوقورة في زيّه العسكري الأنيق، المحلّى بالأشرطة الأربعة على عضده، ولا خيط الصّافرة المضفور الزّاهي، ولا لمعان حذائه، ولا حتى عارضاه الشائبان تحت قبّعته المميّلة بقصد وعناية ناحية حاجبه الأيسر، وكان ذلك حين دخل على بعضهم رمضان الماضي أحدَ الدكاكين، وقد بدا عليه أنه على عجلة وسأل :


ـ بكَمْ لبراك ؟.


كان يريد أن يقول بِكم السّلق ؟، ولكن ربّما لحبّه الشديد لهذه الأكلة الرمضانيّة أفلت منه التعبير، وحدث ما حدث، وقهقه القوم في الدكان، وحانت ساعة تقليده لقبا سينادى به ما أقام في هذه القرية الطيّبة ـ كما وصفها و وصف أهلها ذات يوم ـ وقهقه معهم محمود قهقهة حارّة مكتومة، مداراة للحرج، وزحزح قبعته إلى الأمام فإلى الوراء، ثم خرج ناجيا من الحرج، وبعضهم يصيحون وراءَه باسمه الجديد .لقب وانبعث في دكان في قرية .


عند الغروب كان اللقب يُتداول في البيوت حول موائد الإفطار، وفي الليل على طاولات الكارطة، في الصباح كان ملءَ آذان أبنائه من أفواه التلاميذ، بعد أيّام صرتَ تسمع الأمهات يقلن لأولادهن :


ـ عدّي سلم وليدي العيت براك جيبلنا منهم ملح .


والأولاد يشتكون لأهلهم :


ـ يا باتي فكني من عويل عيت براك .


في البداية انزعج محمود من هذا اللقب، لا لمجرد أنه لقب، بل لشعوره بأنه لقب غريب عنه وكريه، فراح يحدّث نفسه


ـ يعني ما لقيوش إلاّ ها النقب !، ليش ما نقبّونا بعيت الشاويش محمود ؟، ولاَّ عيت محمود العسكري في لخّرْ بلْكلْ ؟ .


ثم ضاق به ذرعا، وصار إلى عزلة عن أهل القرية ومجالسهم، بعد أن وجد أن شيوخ القرية هم الآخرين يخاطبونه به، وشرع في بناء متراس داخليّ في مواجهة هؤلاء القوم الهمّازين اللّمازين. إلى أنْ جاء ذلك اليوم عندما كان عائدا من عمله مرهقا، يشق الأزقة في قيلولة الثانية والنصف الرمضانية، وإذا بطفل يشاكسه :


ـ براك، أَوي ! براك، براكه ! يا براك ! .


فنهر الطفل، ثم وهو يقف كلّ مرة لم ينتبه إلى أنه صار يسبُّ الصغير الذي وجد متعته التي كان يبغي في هذه اللعبة، فلاحَقَ العسكري ولاحقه و لاحقه ، فإذا بمحمود ينقض على الطفل ويمسك به بين يديه، فأصاب الطفل ذعر شديد وهلع جعله يصيح


ـ خلاص خلاص، يا سي براك، والله ما عاد نقول لكْ براك ياسي براك، وراس عويلتك يا سي براك ...


ليصبّ وقودا على النار، وليجد محمود نفسه التي كُبحت طويلا تنفلت من خلال لسانه ويديه ورجليه معا، فيشبع الطفل شتما وصفعا وركلا، إلى أن تدخّل بعضهم وفض الشجار، الذي خرج منه محمود بشرخ دامٍ في جبينه.


أُقتُِرح "مسار" طارئ استثنائي لردّ اعتبار محمود محمد علي، الذي هو أحد أفراد العائلة الكبيرة القرية، وليس غريبا عنها كما عبّر الشيوخ، استجاب والد الطفل وبعض أصدقاء محمود، وحملوا "شاه" و "مصرف"، فيما بعد ظهر نفس اليوم إلى بيت الرجل ليطيّبوا خاطره ويفطروا معه، أعدّت زوجة محمود الإفطار بملاحظة منه تجنّبا للحرج، جيء بالإفطار، حطّ الضيوف عيونَهم على الآنية الخالية من "لبراك"، تبودلت النظرات في استفهام وسخرية مكتومة، دارت الهمهمات والأحاديث المتقطّعة أثناء الأكل بعيدا عن الموضوع الذي اجتمعوا من أجله، رُفعت آنية الطعام، غُسلت الأيدي، وبعد ها غُسلت الصدور بتقديم الاعتذار، قَبِل محمود الاعتذار، إلاّ أنه اشترط شرطا ؛ هو أن يوعد بضمان عدم سماع هذا اللقب مرّة أخرى، لم يعبّر الضيوف لمحمود إلاّ عن شعورهم بأن ذلك لن يتكرّر أبدا، جئ بالشَّاي، شُربت الشاي، تململ بعض الضيوف إيحاءً بالرغبة في الانصراف، وقفوا، لكنّ أحدهم بقصد أو بغير قصد قال :


ـ سفرة دايمة يا سي براك .


اهتزّ محمود واستفزّ، وحدج الرجل بعينين تقدحان شررا، و وجهٍ يكاد يشتعل من الاحمرار، برهةً، وانفلتت منه قهقهة عالية، وخبط كفَّه بكفّ الرجل، وقهقه الجميع .


وجد محمود مخرجا، هو الرضا باللقب، ومن ساعة ذاك استحق أن يكون فردا من أفراد القرية الأصليين.

الثلاثاء، أغسطس 24، 2010

حكاية ونص حكاية



ذات ليلة من ليالي رمضان الكريم الشتائية، وكان قد انقطع التيار الكهربائي عن القرية، وكنت حينها في العاشرة تقريباً، اكبر أخوتي، وكان أبي قد اشترى لنا أول جهاز تلفزيون أبيض أسود، وكان ذلك هو أول رمضان تكون فيه عائلتنا قد اقتنت هذا الجهاز، الذي امتلأت خيالاتنا نحن الصغار بما حدثنا أبناء جيراننا، عن أبناء خالتهم في المدينة عن الرسوم المتحركة والأفلام وأبطالها، ووجوه المطربين والمطربات الذين نسمع أصواتهم في الراديو.


خفت أمي إلى المخزن لاستخراج الفنارات، ونحن متعلقين بأذيال ردائها في ظلمة المخزن، ونقرقر ويخوف بعضنا البعض كلما تلاشت محتويات المخزن الفوضوية، كلما انطفأ عود كبريت في يدها، وأذكر أن أحد الصغار صاح:


- بشكليطتي ! بشكليطتي ! بشكليطتي !.


ثم بعد أن لم تبال أمي صاح متباكيا في العتمة:


- نبّي بشكليطتي.


عدنا بفوضانا المفتعلة، وجلودنا التي اقشعرت بما صورناه لأنفسنا وصدقناه، من أغوال بأنياب ولصوص مكممين وعفاريت شعث.شملنا دفء البيت وأنسه، وتحلقنا حول أمي التي شرعت في تنظيف أول الفنارات، مستعينة بقطعة قماش تتفل فيها، وتولجها داخل المرشه وتدوّرها مرات، وهي تناغي، في الوقت نفسه، أخي الأصغر الذي راح يبكي في الظلام، علاوة على ما ترميه إلينا من كلمات ناهرة ناهية عن الفوضى.


صاح الصغار، عندما تراقصت على أول ضوء الفنار الأول، ظلالهم كبيرة على الجدران، واندفعوا إلى كل الجهات يلطخونها بها، في صخب صار أعلى، بينما الصغير يتملص من حجر أمي في اتجاه اللهب، ووجدتني أتدخل فدعوتهم للعبةٍ فاستجاب بعضهم فأجلستهم قربي، وقربت يديّ من الفنار أصنع بهما أشكالاً ما، وأشير إلى الظل وأسألهم عنها، هذا كلب. هذه نعجة. هذا جمل. هذه أرنب. لكن أحدهم طلب مني أن أرسم دراجة، فهربت من هذا الطلب الإشكاليّ بنظرة إلى باقي الأولاد، الذين كانوا قد تجمعوا في زاوية - وهم يعلقون أحداقهم في المصباح الميّت المتدلي، الذي صار له ظل خفاشي هو الآخر، واقترحوا - لعبة رأيت أنها ذكية لانتظار النور، وذلك بالعد إلى العشرة كل مرة، مساحة لحظ كل واحد منهم، فشجعت من معي للانضمام إليهم، وللخلاص من شقاوتهم، وامتدت اللعبة لتجربة حظوظ آخرين من أطفال الأقارب في البر والمدينة والجيران وزملاء المدرسة، وأطفال صهرنا قارئ العدادات الكهربائية بالقرية، ولكن اللعبة آلت إلى العبث بنظامها، بالشجار حول حصصهم وأدوارهم فيها.


اضطررت وأمي معاً إلى زجرهم، فأفسحوا حلقتهم وانتشروا بين الجدران والزوايا، وعمّ صمت وسوس فيه براد الشاي فوق الكانون، وتقاطعت فيه نظرات الأحداق المشاكسة، وسرّب أحدهم ضحكة مكتومة من خيشومه، إلا أنّ نهيقا تناهى من بعيد هدّ جدار السكوت، ووجدتني رغماً عني أشاركهم القهقهة، فأفقد السيطرة عليهم، وبتقطيبة تشوبها ابتسامة فشِلتُ، حتى تداركت أمي الموقف حين قالت بلهجة مغرية:


- أيش رايكم في الخراريف؟.


فهرعت مع الصغار إليها، وتزاحمنا حولها كصحافيين حول شخصية نجمة، أو كنحلات حول زهرة وحيدة، وقبل أن ينشب شجار مجدداً على المواقع على مدار الأم بادرت بالقول:


- قيسكم ما تبّوش الخراريف؟.


فصاحوا وأنا معهم أيضاً:


- لا لا لا نبّوا نبّوا.


فقالت:


- أما لا سكتوا واصّنتوا.


وبعد هنيهة من الصمت مرت اختباراً للصمت عادت تقول:


ـ مرة يا سيدي بن سيدي فيه هاذك الذيب تلاقى هو وهاذك القنفود(*):


- مرحبه بوجوه القنافيد.


قال الذيب.


ردّ القنفود:


- مرحبتين بوجوه لذياب.


تنحنح الذيب وقال للقنفود:


- أيش رايك انخشوا في هالسانيهْ؟.


ردّ عليه القنفود وقال:


- انخشوا؟!، لكن عندك ادباره نطلعوا بيها؟، أوقات نحصلوا ياوجوه لذياب، راه خوك القنفود ما عنده إلا ادباره ونص ادباره.


شوي قال لهْ الذيب:


- لا، كون هاني، كان عالدباير عندي منهن أكثر من ما عندي من مشاكل(**)، قول عندي علي عدّ ما علي ظهرك من صيص وأكثر.


اوخشوا السانيه، انكلاّ من عمكم الذيب تمّ امبرغط في هاذَك الدلاع والبطيخ والعنب، أما عمكم القنفود تم ياكل ويقيّسْ، ياكل اشوي ويقيّس روحه في الفجوة اللي خشـّوا منها، اوهم علي هالحال امعا جيّة صاحب السانيه.


مرة أخرى صاح الصغار بعد أن ملأ السقيفة نور الكهرباء العائد، وهرعوا إلى التلفزيون الذي قدحت شاشته الكحلية، تاركين أمي التي نظرت إليّ بدهشة مشوبة بخجل، ثم أفلتت منها ضحكة، وبينما هي تهم لتحمل الصغير الذي نام في حجرها إلى حجرتها التفت إليها أخي الصغير أمام التلفزيون وقال بعجل:


- إن كان انقطع الضي مرة أخرى توّ اتخرفيلنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هل من أحد لا زال يحتفظ بالنص الأصلي كاملاً لخرّافة الذيب والقنفود؟.


** من أمثال الشعوب.

الاثنين، أغسطس 23، 2010

الحاوية


لم يكن عمران سليل تجّار؛ فوالده كان طبيباً شعبياً وجدّه كان إمامَ مسجد، لكن لعل العرق الدساس ربطه بالتجارة فقد أفادته خالته بأن جدّ أمه كان تاجراً جوّالاً على حمار، فقد عاش عمران زبوناً مستهلِكاً دُوِّن اسمه كثيراً في سجلات دكاكين القرية، كما لم يكن له رأس مال، ولا رأس تجاري ولا صدر رحب ولا مزاج صافٍ حتى يخوض معركة التجارة.


لكنه دون أن يتكلّف عناء التفكير في ذلك؛ وجد نفسه في الأسبوع الأول من رمضان في دكان أو بالأحرى في حاوية؛ حاوية حديدية سوداء، في طرف من القرية لا يسمح حتى لو بنيت بيوتها ودكاكينها من مغناطيس بجذبها إليها، في مكان ـ رأى هو أنه ـ موقع مناسب إلى حد طيب لممارسة البيع.


صَفّ في الحاوية ألواحاً وبراميل وبقايا هياكل غسّالات وثلاجات كطاولات، وكدّس عليها حُزم خضروات رمضان، وقد بذل قصارى جهده وذوقه ليجعل المحل المتواضع نظيفاً منسّقاً، من أجل إغراء عيون الزبائن المضببة من أثر الصيام.



ولم يكن هناك ما نغّص عليه فكرة تحقيق المشروع؛ فقد رتّب الأمر بخصوص الحاوية مع صاحبها بعد سويعة من هبوط الفكرة عليه، وإن خطر له هاجسان: أحدهما فقأه في عينه بإعداد رقاقة كرتون حليب كرنيشن كتب عليها (الدين ممنوع والزعل مرفوع)، وثانيهما الحرس البلدي الذين قد يداهمونه سائلين عن الترخيص والشهادة الصحية أو أو أو...الخ، لكنه استطاع بحق أن يطمئِن نفسه بأن رجال الحرس البلدي ليسوا بملائكة على كل حال؛ فَهم مواطنون يصومون ويسهرون يلعبون الكارطة وينامون إلى وقت متأخر، ثم إن القرية نائية والمكان منزوٍ، وفي النهاية هاجس الحرس البلدي هاجس وسط كلون بِدَلاتهم يمكن وضعه في الحسبان بنفس القدر الذي يمكن فيه اللامبالاة به، ثم ما قيمة عمل بلا مغامرة ؟، وعزّز مشاعره ببيت شعر من محفوظاته الابتدائية القديمة (ومن لايحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر).


وبقي هاجس نغّصه حق التنغيص فأرقه؛ هو عدم تفريقه بين الكسبر والمعدنوس، الذي زوغ منه كثيراً حتى قطع دابره من كيفه أو بقدرة قادر أثناء ترتيبه للخضروات، حيث جعل الكسبر معلقاً في الجانب الأيسر والمعدنوس في الجانب المعكوس ( لا موش حنتلخبط إن شاء الله). اتخذ كرسيّاً بلاستيكياً استبقاه بركةً وتذكاراً من سهرية جدّته، وقد دعمه بوسادة ليرتفع قليلاً إلى مستوى الطاولة ومستوى التاجر، غير ذلك فالقلم مثبت بأمان على أذنه؛ والكراس سجل المبيعات والحسابات في الظل الأصفر الخفيف للميزان؛ ولَرْباع ولنَْصاص في الدرج؛ وشبكة عنكبوت ناجية في إحدى الزوايا، والنعاس في عيني عمران مدجج بأرق ليلة برحت وإرهاق رحلة الفجر إلى الفندق على حين فترة من الحركة.


سحب الأوراق النقدية وراح يبلل سبّابته بلعابه ويعدها محدثاً نفسه (هالدوّة موش خير لك يا عموره من اسهرانك مع الكبّيْنية لا عند لفجور؛ والنوم لا عند المغرب؛ وحتى وقت ما تصليه في وانه، لعنة الله عالكارطة) ردّ الأوراق النقدية في الدرج ( أوّل دار سقيمة والتجارة مباركة والحركة بركة عالأقل يكونن لفلوس ديما في جيبك؛ الفلوس ناموس الراجل؛ صدق جدي الله يرحمه؛ لفلوس يديرن لك طريق فالمالح، لولا قِلْ الفلوس راك متزوّز من زماااااااان )، ثم نهض لمكافحة النعاس وراح يرش الماء بيده من كأس على الخضروات لتبدو ندية ثم جثم على صندوق الطماطم وأخذ يمسح الحبات حبّة فحبة لتبدو براقة، فهكذا رأى التجار العريقين يفعلون، كل ذلك وهو يدندن (ياصباح الخير ياللي معانا) سعيداً باستعادته المشاهد والمسامع التي سرقتها منه الكارطة والسهر طوال سنوات: أسراب الحمام المتراقصة حول أكداس القمامة، جعجعة الشاحنات على الطريق العام البعيد، صياح الدّيوك، صدى خطى ونحنحات العمال المبكرين، التلاميذ المرحون في صخبهم في طريقهم إلى المدارس، الضباب الذي يهرع بين الأزقة، يطيّب (الكرموس ) ويحجب المباني وتمتصه الملابس على حبال الغسيل وجذوعُ الأشجار وأعمدةُ الكهرباء الخشبية، وأثر دبيب الدود وأقدام الزرازير على التراب؛ وحتى لسعات الذباب الكسول الخَدِر الثقيل في الصباح... قطع عليه حزمة تخيلاته ودندنته صوت يحييه صاحبتْه عتمة خفيفة في جو الحاوية فهَبّ رادّاً التحية :


ـ خير خير؛ خير ومرحبه.


- أووّ، ووهْ مبارك مبارك ما شا الله !


قال الرجل وهو يقلب طرفه في أنحاء الحاوية فيما خفّ عمران إلى الكرسي ثم أضاف:


ـ انهنّيك والله؛ الواحد عالأقل يوفر المرتب، واللي يحصلها مالدكان من اخضَيْرة بركة، الشي تما غالي حتى خاطي رمضان، نار شايطة يا ولد بوي.


ثم تقدم الرجل ومدّ يده وجاس بها خلل الخضروات فيما قال عمران بينه وبين نفسه (الكسبرْ أيسرْ عاليسار...) لكن الرجل سأل:


ـ كيف ما نكش جايب دحي!؟ .


فأجاب عمران:


ـ دحي؟. دحي ، لا والله، اليوم نسيناه لكن بكرة إن شاء الله إنـ....


لكن الرجل أعتم بقامته جو الحاوية مرة أخرى ، و فيما هو يولي بظهره مغادراً قاطع عمران بقوله:


ـ كيف ياراجل ! غلطان اللي ما جايب الدحي، الدحي عليه طلب واجد في رمضان، هيا السلام عليكم .


وتركه يعاتب نفسه على إغفاله جلْبَ البيض، فشرع يسجل أسماء سلع أخرى قد تطلب منه اليوم أو غداً، بل فكّر لو أن له معاوناً يستبقيه ويذهب هو فوراً لتوفيرها، ورغم الخيبة التي خلّفها أول زبون وحاولت ترجيح كفة الفشل والكسل والنعاس إلا أن عمران تململ وحدث نفسه بأن العمل قد ابتدأ، وانتظر.


ـ خير! خير !.


ردّ عمران على الصوت الذي نبهه، كان طفلاً.


ـ تعال جاي تعال، جَرِيْ جَرِيْ، أيش تريد؟.


فاقترب الطفل وقال:


ـ يسلم عليك باتي.. وقالت لك أمي صرّف لنا هذين.


ومدّ الطفل وهو يشرئب ورقة نقدية.


ـ حاضر!.


قال عمران قبل أن يبصر التشوه في الورقة فلا يستلمها، تردد برهة ثم مد يده إلى الدرج:


ـ واحد، اثنين، ثلاث، أربعة، وهاذين خمسة، أمسك كويّس راهن يطيحن منك.


و ولّى الطفل هو الآخر مخلفاً عمران يعاني تفاعلات كظم الغيظ لئلا يخسر أحداً قد يغدو زبوناً مهماً في قادم الأيام رغم كل شيء.


وبينما كانت الحاوية قد بدأت تزفر ما امتصته من حرارة شمس القيلولة الساكنة في كبد السماء، وفي الطنين المتواصل للسكون الشامل، كان رأس عمران قد بدأ يتضخم ويثقل مثل حاوية؛ فيخفق فينتبه فيدرك أنه نعس زمناً ما، فيتململ فينتبه لكلب يتشمم المحتويات فينهره (شر ! يامسنور).


ثم يخفق فينتبه لقطيع ماعز كاد لولا صياحه وقرقعة أرجله أن ينكث المحتويات فيصيح (أخخخخ يامقزرات أخ) ، فيخفق فينتبه لمرور زوبعة فيتمتم (تكي عللي ما يزكي. تكي عللي ما يزكي)، ثم أخفق مع تقاطر أناس كثيرين من القرية يعرفهم؛ رجال ونساء وشيوخ وعجائز وأطفال، منهم السائل عن البيض وطالب الصرف؛ وكان بينهم رجل حرس بلدي، وازدحمت الحاوية بلزبائن في هرج وجلبة واضطراب، وهم ينكبون على صناديق الخضروات ويتدافعون تحت حزم الكسبر والمعدنوس يقطفون منها، ويجأرون أمام الميزان، وعمران ذاهل يسأل نفسه (نا نحلم ولاّ أيش؟)، مرتبك لا يعرف كيف يحقق رغبة كل واحد منهم في وقت واحد، وكيف ينسق حركته بين الميزان واستلام النقود وعدّها، حتى لفت انتباهه رجل غريب بعينين تقدحان شرراً قال:


ـ قيسكْ ما اتحقّش فينا يا عميرينا !. مالصبح ونحنا قدّام وجهك. توزن للعالم.. ونحنا.. مانكش سايل فينا. طبعاً عمن عيونك لفلوس.


فرد عمران:


ـ وسّعْ بالك يا خوي، رمضان كريم راه، أنت شايف الزحمة بروحك، وبعدين اللي يعطيه ربه ما يحسده العبد.


فصاح الرجل:


ـ وسع بالك؛ وسع بالك، لاعند أمتى بالله، ولاّ تحسابني متسلّي بالتصْبايه في هالحاوية المصدية اللي باقية اتقول شيللة.


وحينها تدخل الحرس البلدي:


ـ كنكم ياجماعة ؟؛ صلو عالنبي؛ راكم صيّام.


فبادر عمران بالصلاة والسلام على النبي وقال:


ـ ما فيش مشكلة يا فندي، والله ما عنده مشكلة يا فندي، الزبون ديمة علي حق.


ثم مد كفة الميزان للزبون وقال له:


ـ تفضل حط خضرتك ما يهمك شي.


لكن الزبون أجاب:


ـ نا ما عندي مانوزن.


فقال الحرس البلدي:


ـ باهي وشنو المشكلة؟.


فرفع الزبون كيسا إلى وجه الحرس البلدي وقال:


ـ النبي شوف؟!.


فاستفهم الحرس البلدي:


ـ شنوهذا ؟. أيش فيه؟. معدنوس!.


فأجاب الزبون:


ـ وقلتـّـا ! معدنوس!. عشر رباطي!. كلهن معدنوس. إيدهمهن للعيل اللي دازينه علي كسبر ومعدنوس. طبعاً المعدنوس واجد عنده ويبي يتخلص منه، غش يعني .


فبادر عمران:


ـ والله ماني قاصدها. ولا نذكره العيل اللي تحكي عليه.


ومرة أخرى تدخل الحرس البلدي:


ـ برضو مازال مافيش مشكلة؛ غيّر لهْ.


ومد بالكيس للزبون:


ـ امسك هـَيّ !.


فقال عمران:


ـ حاضر انغير له؛ بس بيش ايصدقني الأخ هذا، وتصدقني حتى أنت يا فندينا، نبي نقول لكم كان تبو تضحكو علي، راني والله ما انفرق بين الكسبر والمعدنوس، إلدرجة إني حاط الكسبر عليسار والمعدنوس عليمين. تو هذا هو المعدنوس؟.


فعلق الزبون:


ـ باهي افهمها إمّالا، إذا أنت بطولك وعرضك مانكش عارف الكسبر مالمعدنوس، كيف يبي يعرفه عيل اصغير؟.


فرد عمران:


ـ أيـّن عيـّل اللي تحكي ...


فقاطعه الحرس البلدي:


ـ خلاص ما قلنا مافيش مشكلة؛ عليكم بحسن النية عالأقل في رمضان.


ثم وجه كلماته للزبون:


ـ عدي غيـّرْ خضرتك وتوكل على الله.


فرد الزبون:


ـ والله حتى نا ما نعرفن من بعضهن!؛ الولية هي اللي فطنتني عليهن، أيش رايك؟.


فابتسم الحرس البلدي وقال:


ـ عادي عادي.


ودعاهما بحركة حكم يجري القرعة بين رئيسي فريقين:


ـ تعالو جاي، أقربو؛ أقربو، ريتو توا؟ موش قلتلكم عليكم بحسن النية ؟ ثم راح يبحث في جيوبه الأمامية والخلفية؛ وأخرج حافظة "كارطة" فيما الرجلان المختلفان صارا متفقين في التعجب والتساؤل، استخرج من بين الأوراق ورقة فردها أمام أعينهما وسأل:


ـ هذي ورقة شنو؟.


فقال الزبون:


ـ كارطة.


أما عمران فقد قال:


ـ بسطوني.


فقال الحرس:


ـ صح. بسطوني.


فقال الزبون:


ـ والله البسطوني والسباطة ما نعرفنش من بعضهن.


فبادر عمران:


ـ شوف !؛ قدر الظروف وحط روحك في مكان صاحب دكان كارطة؟.


فرد الزبون:


ـ تي نا الكارطة حتى اللعب ما عمري لعبتا لا بال انبيعها.


فبادر الحرس البلدي:


ـ غير صلو عالنبي بس وخلوني انكمل كلامي.


فانصت الرجلان وواصل الحرس البلدي:


ـ زمان ونا اصغير ياما كليت من طرايح وهزايب ابسبب قل التفريق بين الكسبر والمعدنوس، نين يوم كان جاينا خالي، فقال الهم خلوه عنكم، وقال لي تعال هن؛ شوف ! لما يدزوك اتخضر خوذ معاك ورقة كارطة بسطوني؛ واللي تلقاه يشبهلها راه هو المعدنوس.


فاندهش عمران للفكرة التي لم تخطر له ببال هو الذي طالما لعب الكارطة، ولطم جبينه ببطن كفه حتى ـ وقبل أن يعرب عن امتنانه لخطة الحرس البلدي المتسامح ـ أفاق مع أذان المغرب، أو ربما صوت ولد يستبق أذان المغرب.

الأحد، أغسطس 22، 2010

السجين


كنت وحدي ـ وفي خيالي شاحنة خالي ـ أتزحلق على الجدار المنخفض المائل وراء بيتنا، عندما قطع علي هناءتي تلك رجل البوليس على حصانه، يتبعه رجل بدوي فتي مكتوف اليدين بحبل طويل موصول بيد العسكري، كان البدوي مثل ثور أسباني، يحرث الأرض بقدميه، ورجل البوليس ينهره ويحذره مغبة تلكؤه، فيما هو مرتبك بينه وبين الحصان الذي جن جنونه فراح يصهل ويشب وينتر برأسه المجرس، عندما لاحت له رؤوس خيول الإسطبل، وفي لحظة حدجني البدوي ثم قال للبوليس بلهجة ملحة :


ـ أهو يا شاويش أهو، غير دزهْ بس .


فشملني خوف كبير، ولكن رجل البوليس وقد سيطر على حصانه برهة قال لي :


ـ اسمع يا صغيرْ، عدي كلمْ باتكْ، قول لهْ قال لكْ الشاويش سليمان طقْ في في المركز .


ففررت بأقصى سرعة إلى البيت، أصيح قبل الوصول بمسافة كبيرة :


ـ يا باتي يا باتي يا باتي، يبيكْ العسكري .


لم أجد أبي في المربوعة، فخرجتْ أمي التي استفزها صياحي، فأخبرتها بما رأيت وما قيل لي، ولكنها لم تبال، بعكس ما كنت محتاجا، وإذ لم تقدم لهلعي أي مساعدة، وخوف أن تكلفني بواجب بارد، انسللت من حضرتها ودخلت المطبخ، الذي كان يعبق برائحة "لبراك"، واستخرجت كسرة خبز غطستها في طنجرة الشربة، ورحت انفخها هي والحادثة الصاخبة في رأسي، وبعد طوفان بلا هدف في البيت الصغير حملتني قدماي في خفة إلى زاوية خلف البيت المقابلة لمركز البوليس، ولكنني لم أر سوى الشرطي يقف بباب المركز يسوي هندامه ويثبت قبعته، وأحسست أنه يركز نظراته علي فدق قلبي، وتوترت في انتظار أن يناديني أو يسألني، إلا أنه نظر إلى ساعته والتفت وراءه ورمى بكلمة لأحدهم داخل المبنى، واتجه ممسكا برسن الحصان يقوده إلى الإسطبل.كان أصيلا رمضانيا آخر خريفي، ألقى على واجهة المركز البنية المصفرة ضوءً تغربله الكافورة الضخمة، التي بدأت تضج وتصخب بشقشقة طيور "أم بريم".


حادثة كتلك لم تكن لتمر بهذه السرية لو لم تكن في تلك الساعة الأخيرة قبل المغرب من شهر رمضان، حيث كان كل الناس في بيوتهم، إلا ذاك البدوي المسكين، الذي فكرت أن إفطاره بعيدا عن أولاده لن يكون سوى كسرة خبز يابسة مرطبة في ماءٍ بارد، يمدها له البوليس في ماعون مطعج من تحت الباب الحديدي للحجرة المظلمة دائما، كنت حزينا حزنا زاده أو شاركني فيه صمت القرية وغبش الغروب المذرور على ذرى المباني والأشجار، وتلك النسمة اللاسعة، وخلاء الشبابيك من أي حركة بعد أو ضياء، وكان في طرف واجهة المركز كوة صغيرة سوداء خيل لي من خلالها ومن على ذلك البعد عينا البدوي السجين .


في مثل تلك اللحظات كنت عادة ما أسمع أمي تصيح في أن أتنصت إذا كان المغرب قد أذن، ولم يخرجني من خواطري إلا الأذان، فألقيت نظرة أخيرة إلى الكوة. عند عتبة البيت وجدت جارتنا عائشة تواسي أمي، التي كانت وهي تعد الفنارات تبكي، خجلت أمام جارتنا أن أعبر عن ضيقي وألمي من بكائها الذي لم أعرف سببه، وإن فهمت من خلال كلماتها أن السجين من أقاربنا، وأن ثمة رجلا آخر من أقاربنا أيضا في المستشفى، وأن حالته خطيرة، وعبرتْ أمي عن أسفها على مصير امرأة اسمها كثلوم وأولادها، ولكن جارتنا عائشة ـ وفيما هي تحني قامتها لتجتاز من خلال البوابة الواطئة بين بيتها وبيتنا ـ قالت أنها لم تنزل الإفطار من على النار بعد، ثم بصوت أعلى أضافت:


ـ لا تخافي يا حنة، إن شاء الله ما يكونْ الله إلا الخير .


فردتْ عليها أمي :


ـ هو وين الخير، فرقتْ والله الخير يا مينه، وحياتك ما عمره واحد اضرب عالمصيرع ونظر خير، اسم الله يا بوي اسم الله .


وكنت أنتظر لأتأكد هل أمي تتحدث عن البدوي، ومن أين لها بهذه المعلومات، وما هو المصيرع، إلا أن أبي جاء داعيا بنحوٍ آمرٍ ضيفا تأخر وراءه :


ـ تفضلْ، تفضلْ، تفضلْ، قدمْ تعال جاي .


ولم يكن الضيف سوى البدوي، مددت له يدي لكنه مسح على رأسي بشدة دون كلمة واحدة، وسلمتْ عليه أمي وعاتبته قائلة :


ـ ليش يا باتي ؟، أيش زر كمْ علي ها الدوه ؟، لرض لله وتبقى لله يا بو مراجع .


فقاطعها أبي بلهجته الساخرة :


ـ إي خرف والله، أنت غير عدي جيبي لنا فنار ، وسقدينا بالفطور .


فأكملتْ حديثها في المطبخ بنفس الحرارة والحرص.تقدمتها إليهما بالفنار، وتلون الجدار بظل البدوي حتى السقف، وجلست للعشاء معهم، وكنت طوال الإفطار معلقا بصري بوجه البدوي، كان حاجباه مداريي الرسم بينهما نقطة وشم، وعيناه كبيرتين، كان يأكل بنهم وتختفي الملعقة في فمه، وأسنانه تصدر سكسكة، وصدغاه ينبضان مع المضغ، وسنان من فكه العلوي تتوسدان شفته السفلى كلما ازدرد لقمة، وكان طوال الوقت ينظر إلي نظرات خاطفة متساوية الزمن، وكانت رائحة قدميه طاغية.


بعد تناول الإفطار تراجع جارا نفسه إلى الجدار، وأشعل لفافة، وفي الصمت الذي لم يدر فيه حوار بين الرجلين ، قرقعت الأواني تحت الغسيل في المطبخ، وتناهى نباح الكلاب، حتى سمعنا أحداً يصيح، فهب الضيف واقفا، وعند عتبة البيت جلس يرتدي حذاءه، ثم نهض في العتمة قائلا :


ـ هيْ السلام عليكم .


وجاء صوت أمي :


ـ أنتو خلوا الراجل نين يشرب شاهيهْ ، الشفاعة يا رسول الله !.


فرد أبي وهو يستلقي ويضع ساقاً على ساق :


ـ الساعْ يشربها في دار خالتهْ .

الأربعاء، أغسطس 18، 2010

امّـيّـه حلوة


مبتسماً ابتسامة بلهاء خرج مومن مقتنعاً أنه أقنع زوجته التي استوقفته وسألته:


- ما تقوليش ماشي اتجيب في أميه حلوه حتى السنة ؟.


وذلك عندما أجابها:


- ياستي غير خليها بيني وبينك، قبل ما نريدش نحكيها حتى لك أنت، الفقيه اللي مشيت له لثنين لولي قال لي راها الكتاب طرا لك أميّةْ معطن تشربها أنت وهلك طول رمضان ملهلال للهلال، نين كان هناك شي طعمه ولاّ سحر اسّاع يمتحى .


أما سؤال ابنه الذي جاء أكثر وضوحاً وتعجباً:


- يا باتي عليش اتعّب في روحك لا عند الجبل و أميّةْ النهر الصناعي في الشيشمات!.


فقد أجاب عنه دون توقف:


- تمشي معاي؟، ندّهوروا، وتو نعطيك تسوق الكرهبة.


دربك البرميل البلاستيكي في صندوق الداتسون، ثم أحدث بابُها أصواتاً أبعد ما تكون عن أصوات أبواب سيارة تفتح أو تغلق، وبإحساس ونظرات مقدِمٍ على عمل مريب دوّر المفتاح، فغنغن المحرك غنغنة عميقة واهنة، وومضت مربعات أضواء (الكوادرو) جميعاً وميضاً ضعيفاً، سرعان ما شحب وانطفأ.


- أوف !! زكرييي.. . قال وصفَق (الطبلوني) حتى أثار غباراً، ثم أضاف مشدداً وهو ينظر إلى الولد الذي بدا في عينيه رعب جرو:


- اسمع!، أقربْ جاي !، زِيد، أقربْ جاي حطّكْ في ناي، اتحقْ في المربعات هذين ؟، أهنْ ؟ .أجاب الولد:


- آآآء . فصاح به- اتحق فيهن ولاّ لا؟


فأكد الولد:


- آ انحق فيهن .


فأضاف مومن متنهداً:


- لما يضوي المربع هذْ، الحمر اللي كيف زروط الرقبه قول لي، باهي؟.


فأجاب الولد: ـ باهي .


فأكد مومن:


ـ الضوايا لخرات ما اتعدلش عليهن، فاهمُ؟ .


- فاهم . أجاب الولد.


دفع مومن الباب بكتفه بقوة عدة دفعات ونزل، وعند مقدمة السيارة راح يعالج (كرينتوّات) قيد (الكوفنو) ثم قشعه فأرسل طقطقات متكسرة، وبعد انهماك وعبثٍ بيديه في أمعاء المحرك جاء سؤاله:


- ضُوَتْ و؟.


فرد الولد:


- لا .لا .


برهة ثم برز برأسه من الزاوية الحادة بين (الكوفنو والبرافنقو)


- هـا؟، ضُوَتْ و؟


ورد الولد:


- لا مازال مازال .


فصاح مومن بأعلى صوته:


- ضوتْ. لا مازال. ضوتْ. لا مازال. ضوت. لا مازال.، كله من أمك عطها ملاّل، خلتنا اتقول نلعبو في وابيس، الوليه هذْ لازم كل ما اتحقني متسقد متوكل علي ربي اتعيّطْ وراي، متمني بس ياربي شي مرة نبلط مالحوش قبل لا تفطن لي، آه هَهْ غير بس أيش خلّطْ رحيلي عليْ رحيلها .


- ضوتْ ضوتْ ضوتْ ياباتي .


جاءت صيحات الولد، فاستفهم مومن:


- الحَمْرَهْ؟.


فرد الولد:


- آ الحمره .


فقال مومن:


- باهي باهي، وطـّي حسكْ راك اطفّيها وشرع يُنزّل (الكوفنو) ببطء، فكشف عن وجهه فصدره فكرشه، وبحذر شديد أعاد شبْك (الكرينتوات)، ثم باحتراس سعى إلى كرسي القيادة، ثم بهمس أمر الطفل:


- إزّاحا غادي،غادي، وانزلْ بشويش.


فاستفهم الولد:


- موش قلت لي تو اتسوق؟.


فرد مومن بالصياح معضوضاً عليه:


- تو ما انسوقك إلا ابكفّ، اتحق فيه وقت سواقه توا؟، انزل دفّ معاي، امغير إن شا الله تولع هالقرباعة هيْ لوّله، انزل سقدْ روحك.


ولم يكادا يضعان أكفهما على جسم السيارة لدفعها حتى توالى المنجدون يدفعون ويكتـّون وهم يصلون على النبي، وينشز وسط ذلك صوت أخن ألثغ قائلاً:


- بالـتم غاها بنزينه ياعغب، السياغة اللي لا توّا ما ولعت تقغيباً ما تبقى إلا بنزينه.


لكن السيارة الهالكة ولعت، وكأنما رداً على سوء تقديره، وجعجع محركها جعجعة قوية من (مراميته) كلها خروق، وتركته والمنجدين وسط الشارع، مشكورين ضمناً، مدعوّاً لهم برحمة الوالدين بتلويحة من ذراع مومن، تلك الذراع التي ما إن خلصتْ السيارة من زحام الحي إلى فضاء البر، حتى أسند مرفقها على حافة نافذتها وراح يرسل أنين غنّاوة علم عن العطش، تناهبها ضجيج المحرك وتدفق الرياح من الشبابيك والفجوات، وفواصلُ من تنبيهاته وتحذيراته لابنه، وإجاباتُه العالية لبعض أسئلته عن اسم هذه القرية أو ذلك المبنى أو تلك الطريق أو نوع تلك وتلك وتلك السيارة التي اجتازتهم.


ولمّا بلغ بعد تعثر ولأي ٍ مشارفَ الغناوة، لاحت له التبّة الرمادية للبئر الذي اعتاد منذ ما يعادل أكثر من نصف عمره من رمضانات، أن يشرب ماءَها، أو منذ الساعات السعيدة الأولى لشرائه الداتسون من الدّار جديدة( نووف) بالكمبيالات إلى تاريخ حرمانها حتى من الحديث عنها باسمها.


انعطف عن الطريق الى (البيستا) دون (فريتشه)، فور أن فكّ (المارشهْ) كزناد طراز بندقية قديم، وراح وهي تقرقع يدكُّ "الفرينـّو" المرتخي العضلات، ثم صعّد بها التـّبة، فعلِقتْ، فأمر الولد:


- اقربْ جاي، اسمع، شوف، اتحق في لفرينـّو ؟، أهو هللي في النص؟، هللي واطي عليه نا بيدي بكراعي، اعرفه حتى هو، مانك تريد اتعلم السواقة !، توّا لمّا نا بيدي انحوّلْ كراعي حط أنت كراعك عليه عَلَيْ طول، وما اتحوّلَشْ نين انجيك، وبكراعك ليمين ابقى شَرْيِلْ شريل شريل، أهو الشرياتوري !، رد بالك، اتوقف شَرْيِـلَهْ تطفا القرباعة، اتحوّلْ كراعك تدردح الخاربة، فَرد بالك، مع إني امدرسّـا عليْ علوَهْ لكن لحتياط واجب، هَيْ .


ودار مومن حول السيارة وسحب البرميل دون أن يكف عن تحذير الولد، ثم اتجه نحو البئر وانحنى عليه وكشف غطاءه وأدلى دلوه وراح يملؤه، خَليّ البال من همّ السيارة مدندناً بأغاني الأجداد الرعاة السقاة وقتـاً، ثم رجع يترنح بالبرميل الثقيل، ورفعه إلى الصندوق وأحكم ربطه، ثم آخرُ تحذيرٍ للولد، ثم أعاد عليه ذات خطته في المحافظة على الدورة الكهربية لمحرك السيارة، ثم انطلق بسعادة ليس بوسعها أن تعرب عن نفسها إلا من خلال بريق في عينيه، غير أنها كانت سعادة مشوبة بقلق وتشاؤم من تجارب شتى سابقة، مع الحلوتين "الميّهْ" والداتسون .


من أشهرها رحلته الوحيدة والمغايرة لسنته، إذ عاد من الجبل الأخضر تلك العشية الرمضانية، مواجهاً الشمس ومغالباً النعاس ومجاهداً الصيام ومكافحاً آلية الداتسون، عاد بجلّوني لبن، تلذّذ عميقاً حتى ناوش حرمة الصيام بتصوره نفسَه يعبّ منه كوبين على الآذان، ثم كوبين فور الإفطار، ثم كوبين مع كسرة "خبزة تنور" على جلسة شاي ما بعد التراويح، ثم كوبين في السحور، ثم كوبين على حافة الإمساك، إلا أن امرأة وصِبْية لاحوا على جانب الطريق يعزلون عنزاً ثم يحاصرونها وتتقرفص البدوية لحلبها، مشهد أغراه بإيقاف الداتسون للفرجة، حتى انتبهت له المرأة بعد الأولاد فدعته:


- تفضل يا ترّاس، بالك راك تريد حليب؟.


فقال في بطنه:


- "واللهِ....، لكن ما تلطمش يا مومن" .


وحليب الماعز شيء آخر غير اللبن"صحيح اللبن خيرهْ، ما معاه لا عطش لا جوع، وطفّاي لحرار المحشي، ومسّاح لدهان الطواجين، بس مشكلته يخليك طول النهار مغير تصبغ في الوضو"واضطر بعد أن لم يجد وعاءً آخر إلى سكب اللبن في كيس بلاستيك وربطه في مقبض الباب"لكن حتى حليب المعيز!، هابا عليْ حليب المعيز!، دوا ما كيفه دوا، لاجل كلّه من أفواه الغابة، وبعدين عيب وليّة بدوية وعزمتْ عليك، لا تحرمها شي ملأجر في هالشهر الفضيل"واستلم جلوني الحليب وهو يردّد:


- كثّرْ درّهنْ واذهبْ شرّهن، يا اللهْ يا البهايم اجعل خيركن دايم .


وبرمج كما اللبن حليبَ الماعز على فترات وكوبين كوبين على جرعات.


ثم إن أحد أمرين قد حدث : إما أن العصر قد حان، وإما أن الراعي الذي كان عند بئر يسقي أبقاره قد لاح له، فعرّج ليتوضأ ويؤدي فرضه على صفا مرقشة بالأشنات تحت قبة السماء مباشرة، ومن ثَم راح - وهو يسبّح - يراقب انسكاب أغنية الماء من شفة الدلو المطاطي في ذهب ضياء العصر، فإذا به ينهض ويتجه إلى الداتسون ليمزج شيئاً من حليب الماعز ببقية من اللبن في الكيس، وملأ جالونيّه بـ الميّه الحلوهْ- "حط الحليب عاللبن، مو اللبن أصله حليب، والحليب صيّوره لبن، وعَـبِّي جالونيّك أميةْ معطن ، راه الملح كلا مصارينك ".


بعد تلك التعريجة لم تتقدم الداتسون إلا بعض الأمتار، وجد بعدها مومن نفسُه نفسَه يتقدم إلى وسط الطريق، ملوّحاً بالجالون للسيارات طلباً للبنزين.


كان هذا في تلك الرحلة، أما في هذه فإن مومن لم يصل الشارع حتى كان عداد البنزين كما يتمنى مومن أن يكون عداد الحرارة، وعداد الحرارة كما يتمنى مومن أن يكون عداد البنزين، أما البرميل الذي صبّ وصبّ وصبّ منه كثيراً في (رادياتوري) الداتسون، طوال طريق الإياب، فكان خالياً إلا من بعض لتر؛ دفعه مومن إلى جوفه على عتبة البيت مع ارتفاع الأذان.

الاثنين، أغسطس 16، 2010

تحولات اليوم الأول

أفقتُ وروائح الكسبر والمعدنوس والبصل والبن والبهارات معاً؛ تعبق بها أجواء حجرتي، ناسياً استعدادي الروحيّ ليلة البارحة لشهر الصيام، همست بيني وبيني بتلذّذ (ارمضان!)، فيما أرسل الراديو - الذي نمت عنه - تلك الموسيقى لبرنامج من عُمْر ِ رمضان، فرددت ابتسامة لم أجد من أعرضها في وجهه؛ فسَرَتْ في صدري ففي أطرافي؛ فنهضت بسعادة من طابت لهم ذكريات رمضان.


عَبَرْت سقيفة البيت بفردة شبشب واحدة؛ وحيّيت نساء عائلتنا الكبيرة في المطبخ :


- (مبروك صيامكم؛ وكل سنة وأنتو طيّبين).


ردَدْن جميعاً معاً مزيجاً من التحية والتهنئة، وهنّ منهمكات وأطفالهن في إعداد الإفطار حول السّفرة المستديرة، وقد جعلن للراديو مكاناً وسطها، يقرّضن بسكاكينهنّ اللحم والخضروات؛ وبألسنتهن ما أسعفتهن المناسبة من مواضيع، ولا واحدة تنصت إلى الأخرى؛ ولا إلى الراديو الصائم هو الآخر؛ إلاّ عن صخب يكاد يفجّر مكبر صوته في بطنه.


- (وطّنْ هالراديو شوي)، واستدرتُ متجهاً إلى الحمّام؛ فيما لاحقني صوت أختي الملحاح :


ـ (راه العويل نسيو إيجيبو لنا الكستردا يا أسعيّد، والله ما شحتناه من عيت عزيزة إلا شحته).


ـ (شعيرة من شعائر شهر الصّيام، ما عندهمش حق ينسوها والله).


- (شنو؟).
- (شي. شي. شي.)، وعرّجتُ على المربوعة فوجدتها منظمة مرتّبة وأنيقة؛ أو هكذا بدا لي (كلّ شيءٍِ يتجمّـل في رمضان)، أردت أن أهنئ أخي الجاثم قربَ زاويتها، وقد ألقت شمس العصر أشعتها الصفراء على مقدمة السجّادة عبر أضلع النافذة، الرّافع كفّيه عالياً جدّاً، وكان كعادته كلَّ رمضان مرتدياً قميصاً " عرْبياً " و"معرقه" .


انتظرت قليلاً، لكنه لم يلتفت إليّ، استدرت و ولجت إلى الحمّام، قابلني وجهي المنتفخ العينين في المرآة، بدا لي وسيماً :


- (ارمضان .. عامنوّل .. صمت .. في .. المعسكر ..) توضّأت بكسلٍ لذيذ ودلكٍ ومضمضة مركـّزين؛ وأنا أتذكـّر أول يوم خرجت فيه من المدرسة مستعجلاً؛ لأطبّق درس الوضوء(إلى الكوعين ابتداء باليد اليمنى)، تأسّفت أسفاً خفيفاً على تأخّري عن الصلاة في المسجد؛ أولَ يوم في رمضان، عكس رمضانات سابقة، رجعت إلى المربوعة لأجد أخي ساجداً:


- (تي هضا فيش إيصلي ؟)، تأخّرت عنه قليلاً وكبّرت، وجمعت الفجر والصبح والظهر بالعصر، وسلّمت، كان أخي لا يزال في موقعه كنُصب تذكاريّ للسّاجدين، لملمت السجّادة و وقفت مختصراً ناظراً إليه، ظلّ ساجداً:


- (كلّ عام وأنت طيّب أيّها الأب الطيّب)، وخرجت.


داهمتني رغبات : أذهب إلى مطلوب؟ أم إلى السوق؟ أم أتابع التلفزيون؟، أم...؟، قرّرت أن أنظف السيّارة، رحت أذرع البيت وأنا أصيح:


ـ (وين اللمامة؟).


ـ (اللمامة ؟ آآآه، في الدار الجوّانية).


ـ (ولسفنجة؟).


- (مدكوكة فالمشربيات).


- (والصابون السّايل وين نلقاه إن شاء الله ؟).


- (خطّر عليك الخير، بيش اتجيبه لنّا حتى هو)، كانت دمائي بدأت تطالبني بالنيكوتين هي الأخرى، ففررّت ناجياً بما جمعت من عدّة، لكن صوت أختي لاحقني:


- (ما قتلكش يا سعيد ! نبي نشترك في مسابقة "وين وليش وكيف؟" هالعام، بيش اتساعدني، بالك انحصّل الجائزة الكبرى).


فأجبتها من وراء شمس وعصافير حديد النافذة :


- (وين وليش وكيف ... وامتى عمرهم عطو جوائز!).


- (لا هالمرة الموذيع اعتذر وقال الجوائز مؤكدة وكبيرة).


- (إنشا الله، او تبقى عريس هالمرّة)، وعاجلاً جاءني ردّها :


- (لا عالخبر قالوا ساعة منبّه، اتوعّي حتى الميّت).


لكنني في طريقي إلى الباب الخارجي سمعت جعجعة تنبعث من مكان ما، حسبت للوهلة الأولى أنها أزيز مولّد المياه، ثم أدركت ماهي(معقولة رحى؟ رحى؟؟؟)، خففت - وقد سقط بعض ما بيدي - إلى المخزن؛ الذي وجدت أن مدخله قد ضاق بـتنـّور وكوم حطب، وقفت مستنداً إلى الباب بذراعي، كانت أمي وحولها حفيدتاها؛ وأعينهن عصافير تحطّ أو تطير بين الرحى وشفتيْ جدتهما المدندنة، وقد ثنت ساقاً ومدّت أخرى، وانحنت على الآلة وسط المخزن المكتظّ بالأروقة المطوية والبراميل وأكياس العلف والآلات الكهربية المعطلة وصناديق القازوزة، وعشرات الأشياء.نبّهها ظلّي إليّ :


- (آ آ آ هذا انت ! نوم العافية يا مودير)


- (كل سنة وانت طيبهْ يا ابدويّهْ)، وانحنيت ورحت أتحسّس الرحى :


ـ (وهذي وين القيتيها ؟، ويش خطّرها عليك ؟)


- (لا يا باتي؛ ما تظلمني؛ هذا بوك؛ غابي في تحشيشاته كل ارمضان ؟، هالمرّة جاته عالتنّور والرحى، حلف ما ناكل إلا خبزة تنور، او شعير اخرى زاد).


ـ (إيوا نلقاها اني عارفه ما إيديرها إلاّ هو، وماني خايف إلا تحشيشه من تحشيشاته اتجي فوق روس وحدين)، فردّت بضيق مفتعل:


- (غير حيد ايدك، حيد غادي يا الهبل، عدي، عدّي كمّلْ نومك).


وشرعتْ في تدوير الرحى، فتراقصت البذور كأنما للخلاص، ودخلت أمي في أغنيتها، فقرقع وتماوج في الشعاب رعد بعيد؛ من أقاصي الذاكرة؛ فوق سحب كحلية فوق سقف أكحل لبيت ٍ أروقته مزركشة بفلذاتٍ مربعاتٍ ومثلثاتٍ؛ من قفاطين وسواري وسروايل وأردية أولى؛ وخرجتُ بفكرة، هي أن أخصّص مفكـّرة اثبت فيها بيانات عن هذه الآلة التراثية؛ وأجزائها؛ وأغنياتها؛ وما إليها.


لكن الفكرة طارت مع السحيباب العبقة لـ (بواخ) الشربة.

السبت، أغسطس 14، 2010

أم التنانير


في بيت مبنى من الطين كالتنور؛ تقيم صانعة التنانير، هي وابنتها المطلقة أبدا منذ كنت طفلا، بسبب شؤمها ـ كما يقال ـ حيث ترملت بعد ثلاثة أيام من الدخول بها، بيت حالت بركة أم التنانير ـ كما يقال من ناحية أخرى ـ دون هدمه مثل بقية بيوت القرية القديمة، وذلك حين أعطبت جرافة البلدية قبل أن تمس البيت،فبقيت إلى اليوم أمام بيتها شاهدا على ذلك، وقد اتخذتها العجوز قنـّا لدجاجها، وبقى البيت وحيدا معزولا نائيا في طرف القرية فريدا تزركشه خطوط الطين النحيلة، وتتدلى على جوانبه أعشاب الخبيّز والحرّيق النابتة على سطحه، جليلا كضريح ولىّ وساكنا كمخزن لمعدّات البدو الموسمية، وكأن لا بشر فيه، وقد اتخذت عصافير الدوري من بين شقوقه أعشاشا لها؛ فكان صخبها في الصباح والأصيل بمثابة ساعة تصحو عليها القرية وتنام، واتخذ الأطفال من ظله الرطب ساحة آمنة لألعابهم؛ إذ لو حدث- ونادرا- وخرجت أم التنانير عليهم إثر؛ سقوط كرة أو عصا في فناء بيتها لتحلقوا و وعدوها، حالفين لها بجدها أن لا يعودوا إلى لعبهم، حتى إذا أدبرت عادوا.


بيت مثل هذا وفيه امرأتان؛ إحداهما شاخت والأخرى يئست، مخلوقتان كأنهما من جنس ثالث؛ لا إلى الإناث ولا إلى الذكور، فعكفتا فيه مثل راهبتين في دير بسيط، راضيتين شاحبتين متنهدتين أبدا، وهما متقابلتان تنفشان الصوف أو تغزلانه أو تمشطان النطوع أو تفليان بعضهما، في شمس فناء وسط البيت العاري، وقد يقطع عملهما نواح طارئ خافت مثل أنين الريح في فجوات بيتهما في غروبات الخريف، أو قرقرات ضحكات قليلة متقطعة، وأحيانا شجار كشجار زوجيْ حمام لا يؤذى ولا يدوم، وهما تنتظران ولا تنتظران أيّ شيء؛ أي خبر أي حادث مهما يكن : دعوة لحضور مناسبة صاخبة من المناسبات التي تتخطى منذ سنين بيتهما إلى بيوت الجيران والقرية، أو صراخا يشرئب كعلامة استفهام (من اللي مات؟)، أو نبأ توزيع سلعة معمّرة في الجمعية أو طرقات على الباب بيد طفل يحمل صنفا من الطعام أو تحية حلوة هامسة (خير ياصاحبات الحوش) من زينب الدلاّلة، أو سكسكة فرامل سيارة قد تكون تقلّ الخال فرج القريب الوحيد في زيارة مفاجئة.


هكذا، ولا شيء آخر مختلف أو جديد في رتابة زمن هذا البيت، وعمر صاحبتيه معظم العام لاشيء. لاشيء. لاشيء، حتى يهل شهر شعبان ؛ فإذا بأهل القرية – الذين يكونون قد تحدثوا كثيرا عن رمضان – استبشارا به أو تهيئة لنفوسهم له – قد عزموا الأمر بلا اتفاق بينهم؛ ولا بينهم وبين أم التنانير، على اقتناء تنانير للتلذذ بخبزها الأسمر الشهي، قليل منهم صادقو الرغبة في ذلك، وأكثرهم مجاراة للآخرين، وإذا بذلك البيت الطيني الحقير المعزول موضوع اهتمامهم وقبلة خطواتهم، فيرسلون أولادهم :


ـ (عدّى يا ليد لمّ التنانير وقول لها تسلم عليك امى وقالت لك ديرى لى تنور بوعشرين فرده)

ـ ( اسمع ياولد مااتقوللهش يمّ التنانير؛ ردّ بالك، قوللها يا حنـّى كامله، باهى؟)

ـ (عدى أنتِ يا وليه خير وقولى لها نريدو تنور طفله؛ موش تنور طين كيف اللى عمنوّل)


وقد تذهب بعض الأمهات بأنفسهن إلى البيت الذي صار مصنعا ، فيبلغن أم التنانير أن تنو ر العام الماضي لم يكن متينا أو أن طينه كان يلتصق بالعجين.


وكما تستجيب العصافير – مخلوقات الفطرة تلك- إلى نداء الطبيعة الخفيّ، فيراها القرويون طائرة مشقشقة، حاملة في مناقيرها أعوادا وريشا وخيوطا؛ لتبنى أعشاشها ، كذلك تستجيب أم التنانير لنداء تقليدها الموسمي المحبب الذي صار سـرّ حياتها : صناعة التنانير ، وكما يرى القرويون البزّاق في أواخر الخريف يتسلق أفرع السدر والزيتون جارّا قوقعته، فيتفاءلون بأن العام مطير، كذلك يحسّون وهم يلمحون أم التنانير رائحة غادية حاملة على رأسها أنصاف جوالات التراب المندلقة البطون على كتفيها، فيحييّها بعضهم :


ـ (الله يعاون الله يعاون).ـ (راكى تنسينا مالتنانير!)


وكما أرسل الناس أطفالهم أو ذهبوا بأنفسهم، إلى بيت أم التنانير دون إذن مسبق أو إعلان ـ فإن أم التنانير تعرف ذلك- فبلا إعلان أيضا تكون هي قد شمّرت عن ذراعيها المتهدلي اللحم الباهتي الوشم، وفيما تروح ابنتها الأرملة تدكّ وتركل بقدميها خليط الطين وشعر الماعز والتبن والملح؛وعقودها تخشخش كدفوف الأطفال، تكون العجوز محلقة بخيالها بعيدا وراء أهزوجة شجيّة بعيدة؛ وهى تقطّع كتلا من الخليط وتعمل منها حلقات حلقات حلقة أضيق من حلقة، ثم تركّبهن طبقات طبقات السفلى أوسع من العليا؛ كعمر الإنسان؛ وبين الحين والآخر تعود لترسل ملاحظة لاهثة دون أن تنظر إلى ابنتها بأن تظيف المزيد من الملح أو التبن أو الشعر، وأن تعجّل قبل أن يزدحم عليهما الناس؛ هنا صف تنانير العشرين رغيفا، هنا صف تنانير الخمسة عشر وهنا صف العشرة.


ويخضّب الطين أكفّ وأقدام المرأتين، وثيابهما و الأوراق النقدية، ويعبق فناء البيت به؛ فالقرية كلّها، وترسم أقدام الرائحين والغادين من الناس طريقا طينيا بين بيت أم التنانير وكل بيت من بيوت القرية.

المشاركات الشائعة