السبت، أغسطس 28، 2010

براك


ليس في قريتنا عائلة ـ بل ولا فرد ـ بدون لقب، إن اللقب في قريتنا هو اسم الاسم، وليس من قبيل التنابزـ وإن كان في بعض الأحيان كذلك ـ وإنما لضرورة هي التحديد والتمييز،أي إعادة التسمية، ففي قرية مثل قريتنا يقيم بها عددٌ ممن يسمَّون محمّداً لابدّ من تقليد كهذا، ليعرف السامع أَيَّ محمد يقصد المتحدّث، محمد الفقيه؟ أم محمد بوحوش؟ أم محمد الكرهبجي؟ ، ومعلوم أن لكلّ لقب حكاية.


فعائلة الفقيه تنتسب إلى رجل كان إمام مسجد أو طبيبا شعبيا، وعائلة بوحوش هم أحفاد رجل اتخذ بيتا من الحجر والطوب سكنا بناه بيديه وسط خيام النجع، أما عيت الكرهبجي فجدّهم هو أوّل رجل امتلك سيارة وقادها على مستوى القرية والقرى المجاورة على مدى سنين، فإذا وفدتَ جديدا على القرية، فلا بدّ أن تهيأ نفسك لتقبّل لقبك الخاص المميّز، الذي يجب أن تسمعه بلا حرج، وتسلّم به، سواءً أعجبك لقبك أم لم يعجبك، فإن لم تفعل فسيحدث لك ما حدث لمحمود "براك"، أنظر ! ها أنا أجد نفسي ـ عفواً ـ أذكر الرجل بلقبه لا باسمه مجردا .


محمود "براك" هو محمود محمد علي، رئيس عرفاء في القوات المسلحة، حلَّ بالقرية منذ سنتين بعائلته، ليكون قريبا من مقرّ عمله الجديد، أشهر قليلة وصار يعرف في القرية بهذا اللقب، ولقد نال محمود هذا اللقب كثمرة من ثمرات رغبته في أن يكون فردا من أفراد القرية بحق، يجالسهم ويسامرهم ويقف إلى جانبهم في أفراحهم واتراحهم، ويمدُّ جسرا طويلا عريضا متينا من العلاقات الحميمة معهم، تلك الثمرة لم يقطفها ولم يقدّمها له أهل القرية البدو بكرمهم وترحابهم بكل ضيف وحالٍّ جديد وحسب، وإنما ساهم هو في ينعها، بتكيّفه السريع مع أهل القرية، تلك المهارة التي اكتسبها من خبرته في التنقّل من قرية إلى أخرى، ومدينة إلى سواها بسبب طبيعة عمله .


أما قصة تلقيبه فتبدأ من ذلك اليوم الذي بلغ فيه محمود حبُّه للقرويين وارتياحُه واندماجه ذروتَه، ولم تشفع له عندهم هيأته الوقورة في زيّه العسكري الأنيق، المحلّى بالأشرطة الأربعة على عضده، ولا خيط الصّافرة المضفور الزّاهي، ولا لمعان حذائه، ولا حتى عارضاه الشائبان تحت قبّعته المميّلة بقصد وعناية ناحية حاجبه الأيسر، وكان ذلك حين دخل على بعضهم رمضان الماضي أحدَ الدكاكين، وقد بدا عليه أنه على عجلة وسأل :


ـ بكَمْ لبراك ؟.


كان يريد أن يقول بِكم السّلق ؟، ولكن ربّما لحبّه الشديد لهذه الأكلة الرمضانيّة أفلت منه التعبير، وحدث ما حدث، وقهقه القوم في الدكان، وحانت ساعة تقليده لقبا سينادى به ما أقام في هذه القرية الطيّبة ـ كما وصفها و وصف أهلها ذات يوم ـ وقهقه معهم محمود قهقهة حارّة مكتومة، مداراة للحرج، وزحزح قبعته إلى الأمام فإلى الوراء، ثم خرج ناجيا من الحرج، وبعضهم يصيحون وراءَه باسمه الجديد .لقب وانبعث في دكان في قرية .


عند الغروب كان اللقب يُتداول في البيوت حول موائد الإفطار، وفي الليل على طاولات الكارطة، في الصباح كان ملءَ آذان أبنائه من أفواه التلاميذ، بعد أيّام صرتَ تسمع الأمهات يقلن لأولادهن :


ـ عدّي سلم وليدي العيت براك جيبلنا منهم ملح .


والأولاد يشتكون لأهلهم :


ـ يا باتي فكني من عويل عيت براك .


في البداية انزعج محمود من هذا اللقب، لا لمجرد أنه لقب، بل لشعوره بأنه لقب غريب عنه وكريه، فراح يحدّث نفسه


ـ يعني ما لقيوش إلاّ ها النقب !، ليش ما نقبّونا بعيت الشاويش محمود ؟، ولاَّ عيت محمود العسكري في لخّرْ بلْكلْ ؟ .


ثم ضاق به ذرعا، وصار إلى عزلة عن أهل القرية ومجالسهم، بعد أن وجد أن شيوخ القرية هم الآخرين يخاطبونه به، وشرع في بناء متراس داخليّ في مواجهة هؤلاء القوم الهمّازين اللّمازين. إلى أنْ جاء ذلك اليوم عندما كان عائدا من عمله مرهقا، يشق الأزقة في قيلولة الثانية والنصف الرمضانية، وإذا بطفل يشاكسه :


ـ براك، أَوي ! براك، براكه ! يا براك ! .


فنهر الطفل، ثم وهو يقف كلّ مرة لم ينتبه إلى أنه صار يسبُّ الصغير الذي وجد متعته التي كان يبغي في هذه اللعبة، فلاحَقَ العسكري ولاحقه و لاحقه ، فإذا بمحمود ينقض على الطفل ويمسك به بين يديه، فأصاب الطفل ذعر شديد وهلع جعله يصيح


ـ خلاص خلاص، يا سي براك، والله ما عاد نقول لكْ براك ياسي براك، وراس عويلتك يا سي براك ...


ليصبّ وقودا على النار، وليجد محمود نفسه التي كُبحت طويلا تنفلت من خلال لسانه ويديه ورجليه معا، فيشبع الطفل شتما وصفعا وركلا، إلى أن تدخّل بعضهم وفض الشجار، الذي خرج منه محمود بشرخ دامٍ في جبينه.


أُقتُِرح "مسار" طارئ استثنائي لردّ اعتبار محمود محمد علي، الذي هو أحد أفراد العائلة الكبيرة القرية، وليس غريبا عنها كما عبّر الشيوخ، استجاب والد الطفل وبعض أصدقاء محمود، وحملوا "شاه" و "مصرف"، فيما بعد ظهر نفس اليوم إلى بيت الرجل ليطيّبوا خاطره ويفطروا معه، أعدّت زوجة محمود الإفطار بملاحظة منه تجنّبا للحرج، جيء بالإفطار، حطّ الضيوف عيونَهم على الآنية الخالية من "لبراك"، تبودلت النظرات في استفهام وسخرية مكتومة، دارت الهمهمات والأحاديث المتقطّعة أثناء الأكل بعيدا عن الموضوع الذي اجتمعوا من أجله، رُفعت آنية الطعام، غُسلت الأيدي، وبعد ها غُسلت الصدور بتقديم الاعتذار، قَبِل محمود الاعتذار، إلاّ أنه اشترط شرطا ؛ هو أن يوعد بضمان عدم سماع هذا اللقب مرّة أخرى، لم يعبّر الضيوف لمحمود إلاّ عن شعورهم بأن ذلك لن يتكرّر أبدا، جئ بالشَّاي، شُربت الشاي، تململ بعض الضيوف إيحاءً بالرغبة في الانصراف، وقفوا، لكنّ أحدهم بقصد أو بغير قصد قال :


ـ سفرة دايمة يا سي براك .


اهتزّ محمود واستفزّ، وحدج الرجل بعينين تقدحان شررا، و وجهٍ يكاد يشتعل من الاحمرار، برهةً، وانفلتت منه قهقهة عالية، وخبط كفَّه بكفّ الرجل، وقهقه الجميع .


وجد محمود مخرجا، هو الرضا باللقب، ومن ساعة ذاك استحق أن يكون فردا من أفراد القرية الأصليين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة