الثلاثاء، أغسطس 24، 2010

حكاية ونص حكاية



ذات ليلة من ليالي رمضان الكريم الشتائية، وكان قد انقطع التيار الكهربائي عن القرية، وكنت حينها في العاشرة تقريباً، اكبر أخوتي، وكان أبي قد اشترى لنا أول جهاز تلفزيون أبيض أسود، وكان ذلك هو أول رمضان تكون فيه عائلتنا قد اقتنت هذا الجهاز، الذي امتلأت خيالاتنا نحن الصغار بما حدثنا أبناء جيراننا، عن أبناء خالتهم في المدينة عن الرسوم المتحركة والأفلام وأبطالها، ووجوه المطربين والمطربات الذين نسمع أصواتهم في الراديو.


خفت أمي إلى المخزن لاستخراج الفنارات، ونحن متعلقين بأذيال ردائها في ظلمة المخزن، ونقرقر ويخوف بعضنا البعض كلما تلاشت محتويات المخزن الفوضوية، كلما انطفأ عود كبريت في يدها، وأذكر أن أحد الصغار صاح:


- بشكليطتي ! بشكليطتي ! بشكليطتي !.


ثم بعد أن لم تبال أمي صاح متباكيا في العتمة:


- نبّي بشكليطتي.


عدنا بفوضانا المفتعلة، وجلودنا التي اقشعرت بما صورناه لأنفسنا وصدقناه، من أغوال بأنياب ولصوص مكممين وعفاريت شعث.شملنا دفء البيت وأنسه، وتحلقنا حول أمي التي شرعت في تنظيف أول الفنارات، مستعينة بقطعة قماش تتفل فيها، وتولجها داخل المرشه وتدوّرها مرات، وهي تناغي، في الوقت نفسه، أخي الأصغر الذي راح يبكي في الظلام، علاوة على ما ترميه إلينا من كلمات ناهرة ناهية عن الفوضى.


صاح الصغار، عندما تراقصت على أول ضوء الفنار الأول، ظلالهم كبيرة على الجدران، واندفعوا إلى كل الجهات يلطخونها بها، في صخب صار أعلى، بينما الصغير يتملص من حجر أمي في اتجاه اللهب، ووجدتني أتدخل فدعوتهم للعبةٍ فاستجاب بعضهم فأجلستهم قربي، وقربت يديّ من الفنار أصنع بهما أشكالاً ما، وأشير إلى الظل وأسألهم عنها، هذا كلب. هذه نعجة. هذا جمل. هذه أرنب. لكن أحدهم طلب مني أن أرسم دراجة، فهربت من هذا الطلب الإشكاليّ بنظرة إلى باقي الأولاد، الذين كانوا قد تجمعوا في زاوية - وهم يعلقون أحداقهم في المصباح الميّت المتدلي، الذي صار له ظل خفاشي هو الآخر، واقترحوا - لعبة رأيت أنها ذكية لانتظار النور، وذلك بالعد إلى العشرة كل مرة، مساحة لحظ كل واحد منهم، فشجعت من معي للانضمام إليهم، وللخلاص من شقاوتهم، وامتدت اللعبة لتجربة حظوظ آخرين من أطفال الأقارب في البر والمدينة والجيران وزملاء المدرسة، وأطفال صهرنا قارئ العدادات الكهربائية بالقرية، ولكن اللعبة آلت إلى العبث بنظامها، بالشجار حول حصصهم وأدوارهم فيها.


اضطررت وأمي معاً إلى زجرهم، فأفسحوا حلقتهم وانتشروا بين الجدران والزوايا، وعمّ صمت وسوس فيه براد الشاي فوق الكانون، وتقاطعت فيه نظرات الأحداق المشاكسة، وسرّب أحدهم ضحكة مكتومة من خيشومه، إلا أنّ نهيقا تناهى من بعيد هدّ جدار السكوت، ووجدتني رغماً عني أشاركهم القهقهة، فأفقد السيطرة عليهم، وبتقطيبة تشوبها ابتسامة فشِلتُ، حتى تداركت أمي الموقف حين قالت بلهجة مغرية:


- أيش رايكم في الخراريف؟.


فهرعت مع الصغار إليها، وتزاحمنا حولها كصحافيين حول شخصية نجمة، أو كنحلات حول زهرة وحيدة، وقبل أن ينشب شجار مجدداً على المواقع على مدار الأم بادرت بالقول:


- قيسكم ما تبّوش الخراريف؟.


فصاحوا وأنا معهم أيضاً:


- لا لا لا نبّوا نبّوا.


فقالت:


- أما لا سكتوا واصّنتوا.


وبعد هنيهة من الصمت مرت اختباراً للصمت عادت تقول:


ـ مرة يا سيدي بن سيدي فيه هاذك الذيب تلاقى هو وهاذك القنفود(*):


- مرحبه بوجوه القنافيد.


قال الذيب.


ردّ القنفود:


- مرحبتين بوجوه لذياب.


تنحنح الذيب وقال للقنفود:


- أيش رايك انخشوا في هالسانيهْ؟.


ردّ عليه القنفود وقال:


- انخشوا؟!، لكن عندك ادباره نطلعوا بيها؟، أوقات نحصلوا ياوجوه لذياب، راه خوك القنفود ما عنده إلا ادباره ونص ادباره.


شوي قال لهْ الذيب:


- لا، كون هاني، كان عالدباير عندي منهن أكثر من ما عندي من مشاكل(**)، قول عندي علي عدّ ما علي ظهرك من صيص وأكثر.


اوخشوا السانيه، انكلاّ من عمكم الذيب تمّ امبرغط في هاذَك الدلاع والبطيخ والعنب، أما عمكم القنفود تم ياكل ويقيّسْ، ياكل اشوي ويقيّس روحه في الفجوة اللي خشـّوا منها، اوهم علي هالحال امعا جيّة صاحب السانيه.


مرة أخرى صاح الصغار بعد أن ملأ السقيفة نور الكهرباء العائد، وهرعوا إلى التلفزيون الذي قدحت شاشته الكحلية، تاركين أمي التي نظرت إليّ بدهشة مشوبة بخجل، ثم أفلتت منها ضحكة، وبينما هي تهم لتحمل الصغير الذي نام في حجرها إلى حجرتها التفت إليها أخي الصغير أمام التلفزيون وقال بعجل:


- إن كان انقطع الضي مرة أخرى توّ اتخرفيلنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هل من أحد لا زال يحتفظ بالنص الأصلي كاملاً لخرّافة الذيب والقنفود؟.


** من أمثال الشعوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة