الاثنين، أغسطس 23، 2010

الحاوية


لم يكن عمران سليل تجّار؛ فوالده كان طبيباً شعبياً وجدّه كان إمامَ مسجد، لكن لعل العرق الدساس ربطه بالتجارة فقد أفادته خالته بأن جدّ أمه كان تاجراً جوّالاً على حمار، فقد عاش عمران زبوناً مستهلِكاً دُوِّن اسمه كثيراً في سجلات دكاكين القرية، كما لم يكن له رأس مال، ولا رأس تجاري ولا صدر رحب ولا مزاج صافٍ حتى يخوض معركة التجارة.


لكنه دون أن يتكلّف عناء التفكير في ذلك؛ وجد نفسه في الأسبوع الأول من رمضان في دكان أو بالأحرى في حاوية؛ حاوية حديدية سوداء، في طرف من القرية لا يسمح حتى لو بنيت بيوتها ودكاكينها من مغناطيس بجذبها إليها، في مكان ـ رأى هو أنه ـ موقع مناسب إلى حد طيب لممارسة البيع.


صَفّ في الحاوية ألواحاً وبراميل وبقايا هياكل غسّالات وثلاجات كطاولات، وكدّس عليها حُزم خضروات رمضان، وقد بذل قصارى جهده وذوقه ليجعل المحل المتواضع نظيفاً منسّقاً، من أجل إغراء عيون الزبائن المضببة من أثر الصيام.



ولم يكن هناك ما نغّص عليه فكرة تحقيق المشروع؛ فقد رتّب الأمر بخصوص الحاوية مع صاحبها بعد سويعة من هبوط الفكرة عليه، وإن خطر له هاجسان: أحدهما فقأه في عينه بإعداد رقاقة كرتون حليب كرنيشن كتب عليها (الدين ممنوع والزعل مرفوع)، وثانيهما الحرس البلدي الذين قد يداهمونه سائلين عن الترخيص والشهادة الصحية أو أو أو...الخ، لكنه استطاع بحق أن يطمئِن نفسه بأن رجال الحرس البلدي ليسوا بملائكة على كل حال؛ فَهم مواطنون يصومون ويسهرون يلعبون الكارطة وينامون إلى وقت متأخر، ثم إن القرية نائية والمكان منزوٍ، وفي النهاية هاجس الحرس البلدي هاجس وسط كلون بِدَلاتهم يمكن وضعه في الحسبان بنفس القدر الذي يمكن فيه اللامبالاة به، ثم ما قيمة عمل بلا مغامرة ؟، وعزّز مشاعره ببيت شعر من محفوظاته الابتدائية القديمة (ومن لايحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر).


وبقي هاجس نغّصه حق التنغيص فأرقه؛ هو عدم تفريقه بين الكسبر والمعدنوس، الذي زوغ منه كثيراً حتى قطع دابره من كيفه أو بقدرة قادر أثناء ترتيبه للخضروات، حيث جعل الكسبر معلقاً في الجانب الأيسر والمعدنوس في الجانب المعكوس ( لا موش حنتلخبط إن شاء الله). اتخذ كرسيّاً بلاستيكياً استبقاه بركةً وتذكاراً من سهرية جدّته، وقد دعمه بوسادة ليرتفع قليلاً إلى مستوى الطاولة ومستوى التاجر، غير ذلك فالقلم مثبت بأمان على أذنه؛ والكراس سجل المبيعات والحسابات في الظل الأصفر الخفيف للميزان؛ ولَرْباع ولنَْصاص في الدرج؛ وشبكة عنكبوت ناجية في إحدى الزوايا، والنعاس في عيني عمران مدجج بأرق ليلة برحت وإرهاق رحلة الفجر إلى الفندق على حين فترة من الحركة.


سحب الأوراق النقدية وراح يبلل سبّابته بلعابه ويعدها محدثاً نفسه (هالدوّة موش خير لك يا عموره من اسهرانك مع الكبّيْنية لا عند لفجور؛ والنوم لا عند المغرب؛ وحتى وقت ما تصليه في وانه، لعنة الله عالكارطة) ردّ الأوراق النقدية في الدرج ( أوّل دار سقيمة والتجارة مباركة والحركة بركة عالأقل يكونن لفلوس ديما في جيبك؛ الفلوس ناموس الراجل؛ صدق جدي الله يرحمه؛ لفلوس يديرن لك طريق فالمالح، لولا قِلْ الفلوس راك متزوّز من زماااااااان )، ثم نهض لمكافحة النعاس وراح يرش الماء بيده من كأس على الخضروات لتبدو ندية ثم جثم على صندوق الطماطم وأخذ يمسح الحبات حبّة فحبة لتبدو براقة، فهكذا رأى التجار العريقين يفعلون، كل ذلك وهو يدندن (ياصباح الخير ياللي معانا) سعيداً باستعادته المشاهد والمسامع التي سرقتها منه الكارطة والسهر طوال سنوات: أسراب الحمام المتراقصة حول أكداس القمامة، جعجعة الشاحنات على الطريق العام البعيد، صياح الدّيوك، صدى خطى ونحنحات العمال المبكرين، التلاميذ المرحون في صخبهم في طريقهم إلى المدارس، الضباب الذي يهرع بين الأزقة، يطيّب (الكرموس ) ويحجب المباني وتمتصه الملابس على حبال الغسيل وجذوعُ الأشجار وأعمدةُ الكهرباء الخشبية، وأثر دبيب الدود وأقدام الزرازير على التراب؛ وحتى لسعات الذباب الكسول الخَدِر الثقيل في الصباح... قطع عليه حزمة تخيلاته ودندنته صوت يحييه صاحبتْه عتمة خفيفة في جو الحاوية فهَبّ رادّاً التحية :


ـ خير خير؛ خير ومرحبه.


- أووّ، ووهْ مبارك مبارك ما شا الله !


قال الرجل وهو يقلب طرفه في أنحاء الحاوية فيما خفّ عمران إلى الكرسي ثم أضاف:


ـ انهنّيك والله؛ الواحد عالأقل يوفر المرتب، واللي يحصلها مالدكان من اخضَيْرة بركة، الشي تما غالي حتى خاطي رمضان، نار شايطة يا ولد بوي.


ثم تقدم الرجل ومدّ يده وجاس بها خلل الخضروات فيما قال عمران بينه وبين نفسه (الكسبرْ أيسرْ عاليسار...) لكن الرجل سأل:


ـ كيف ما نكش جايب دحي!؟ .


فأجاب عمران:


ـ دحي؟. دحي ، لا والله، اليوم نسيناه لكن بكرة إن شاء الله إنـ....


لكن الرجل أعتم بقامته جو الحاوية مرة أخرى ، و فيما هو يولي بظهره مغادراً قاطع عمران بقوله:


ـ كيف ياراجل ! غلطان اللي ما جايب الدحي، الدحي عليه طلب واجد في رمضان، هيا السلام عليكم .


وتركه يعاتب نفسه على إغفاله جلْبَ البيض، فشرع يسجل أسماء سلع أخرى قد تطلب منه اليوم أو غداً، بل فكّر لو أن له معاوناً يستبقيه ويذهب هو فوراً لتوفيرها، ورغم الخيبة التي خلّفها أول زبون وحاولت ترجيح كفة الفشل والكسل والنعاس إلا أن عمران تململ وحدث نفسه بأن العمل قد ابتدأ، وانتظر.


ـ خير! خير !.


ردّ عمران على الصوت الذي نبهه، كان طفلاً.


ـ تعال جاي تعال، جَرِيْ جَرِيْ، أيش تريد؟.


فاقترب الطفل وقال:


ـ يسلم عليك باتي.. وقالت لك أمي صرّف لنا هذين.


ومدّ الطفل وهو يشرئب ورقة نقدية.


ـ حاضر!.


قال عمران قبل أن يبصر التشوه في الورقة فلا يستلمها، تردد برهة ثم مد يده إلى الدرج:


ـ واحد، اثنين، ثلاث، أربعة، وهاذين خمسة، أمسك كويّس راهن يطيحن منك.


و ولّى الطفل هو الآخر مخلفاً عمران يعاني تفاعلات كظم الغيظ لئلا يخسر أحداً قد يغدو زبوناً مهماً في قادم الأيام رغم كل شيء.


وبينما كانت الحاوية قد بدأت تزفر ما امتصته من حرارة شمس القيلولة الساكنة في كبد السماء، وفي الطنين المتواصل للسكون الشامل، كان رأس عمران قد بدأ يتضخم ويثقل مثل حاوية؛ فيخفق فينتبه فيدرك أنه نعس زمناً ما، فيتململ فينتبه لكلب يتشمم المحتويات فينهره (شر ! يامسنور).


ثم يخفق فينتبه لقطيع ماعز كاد لولا صياحه وقرقعة أرجله أن ينكث المحتويات فيصيح (أخخخخ يامقزرات أخ) ، فيخفق فينتبه لمرور زوبعة فيتمتم (تكي عللي ما يزكي. تكي عللي ما يزكي)، ثم أخفق مع تقاطر أناس كثيرين من القرية يعرفهم؛ رجال ونساء وشيوخ وعجائز وأطفال، منهم السائل عن البيض وطالب الصرف؛ وكان بينهم رجل حرس بلدي، وازدحمت الحاوية بلزبائن في هرج وجلبة واضطراب، وهم ينكبون على صناديق الخضروات ويتدافعون تحت حزم الكسبر والمعدنوس يقطفون منها، ويجأرون أمام الميزان، وعمران ذاهل يسأل نفسه (نا نحلم ولاّ أيش؟)، مرتبك لا يعرف كيف يحقق رغبة كل واحد منهم في وقت واحد، وكيف ينسق حركته بين الميزان واستلام النقود وعدّها، حتى لفت انتباهه رجل غريب بعينين تقدحان شرراً قال:


ـ قيسكْ ما اتحقّش فينا يا عميرينا !. مالصبح ونحنا قدّام وجهك. توزن للعالم.. ونحنا.. مانكش سايل فينا. طبعاً عمن عيونك لفلوس.


فرد عمران:


ـ وسّعْ بالك يا خوي، رمضان كريم راه، أنت شايف الزحمة بروحك، وبعدين اللي يعطيه ربه ما يحسده العبد.


فصاح الرجل:


ـ وسع بالك؛ وسع بالك، لاعند أمتى بالله، ولاّ تحسابني متسلّي بالتصْبايه في هالحاوية المصدية اللي باقية اتقول شيللة.


وحينها تدخل الحرس البلدي:


ـ كنكم ياجماعة ؟؛ صلو عالنبي؛ راكم صيّام.


فبادر عمران بالصلاة والسلام على النبي وقال:


ـ ما فيش مشكلة يا فندي، والله ما عنده مشكلة يا فندي، الزبون ديمة علي حق.


ثم مد كفة الميزان للزبون وقال له:


ـ تفضل حط خضرتك ما يهمك شي.


لكن الزبون أجاب:


ـ نا ما عندي مانوزن.


فقال الحرس البلدي:


ـ باهي وشنو المشكلة؟.


فرفع الزبون كيسا إلى وجه الحرس البلدي وقال:


ـ النبي شوف؟!.


فاستفهم الحرس البلدي:


ـ شنوهذا ؟. أيش فيه؟. معدنوس!.


فأجاب الزبون:


ـ وقلتـّـا ! معدنوس!. عشر رباطي!. كلهن معدنوس. إيدهمهن للعيل اللي دازينه علي كسبر ومعدنوس. طبعاً المعدنوس واجد عنده ويبي يتخلص منه، غش يعني .


فبادر عمران:


ـ والله ماني قاصدها. ولا نذكره العيل اللي تحكي عليه.


ومرة أخرى تدخل الحرس البلدي:


ـ برضو مازال مافيش مشكلة؛ غيّر لهْ.


ومد بالكيس للزبون:


ـ امسك هـَيّ !.


فقال عمران:


ـ حاضر انغير له؛ بس بيش ايصدقني الأخ هذا، وتصدقني حتى أنت يا فندينا، نبي نقول لكم كان تبو تضحكو علي، راني والله ما انفرق بين الكسبر والمعدنوس، إلدرجة إني حاط الكسبر عليسار والمعدنوس عليمين. تو هذا هو المعدنوس؟.


فعلق الزبون:


ـ باهي افهمها إمّالا، إذا أنت بطولك وعرضك مانكش عارف الكسبر مالمعدنوس، كيف يبي يعرفه عيل اصغير؟.


فرد عمران:


ـ أيـّن عيـّل اللي تحكي ...


فقاطعه الحرس البلدي:


ـ خلاص ما قلنا مافيش مشكلة؛ عليكم بحسن النية عالأقل في رمضان.


ثم وجه كلماته للزبون:


ـ عدي غيـّرْ خضرتك وتوكل على الله.


فرد الزبون:


ـ والله حتى نا ما نعرفن من بعضهن!؛ الولية هي اللي فطنتني عليهن، أيش رايك؟.


فابتسم الحرس البلدي وقال:


ـ عادي عادي.


ودعاهما بحركة حكم يجري القرعة بين رئيسي فريقين:


ـ تعالو جاي، أقربو؛ أقربو، ريتو توا؟ موش قلتلكم عليكم بحسن النية ؟ ثم راح يبحث في جيوبه الأمامية والخلفية؛ وأخرج حافظة "كارطة" فيما الرجلان المختلفان صارا متفقين في التعجب والتساؤل، استخرج من بين الأوراق ورقة فردها أمام أعينهما وسأل:


ـ هذي ورقة شنو؟.


فقال الزبون:


ـ كارطة.


أما عمران فقد قال:


ـ بسطوني.


فقال الحرس:


ـ صح. بسطوني.


فقال الزبون:


ـ والله البسطوني والسباطة ما نعرفنش من بعضهن.


فبادر عمران:


ـ شوف !؛ قدر الظروف وحط روحك في مكان صاحب دكان كارطة؟.


فرد الزبون:


ـ تي نا الكارطة حتى اللعب ما عمري لعبتا لا بال انبيعها.


فبادر الحرس البلدي:


ـ غير صلو عالنبي بس وخلوني انكمل كلامي.


فانصت الرجلان وواصل الحرس البلدي:


ـ زمان ونا اصغير ياما كليت من طرايح وهزايب ابسبب قل التفريق بين الكسبر والمعدنوس، نين يوم كان جاينا خالي، فقال الهم خلوه عنكم، وقال لي تعال هن؛ شوف ! لما يدزوك اتخضر خوذ معاك ورقة كارطة بسطوني؛ واللي تلقاه يشبهلها راه هو المعدنوس.


فاندهش عمران للفكرة التي لم تخطر له ببال هو الذي طالما لعب الكارطة، ولطم جبينه ببطن كفه حتى ـ وقبل أن يعرب عن امتنانه لخطة الحرس البلدي المتسامح ـ أفاق مع أذان المغرب، أو ربما صوت ولد يستبق أذان المغرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة