الأحد، ديسمبر 05، 2010

عن البيت


البيت يحمي أحلام اليقظة . ..إن الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديدة . ونظراً لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة ، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة . البيت هو ركننا في العالم . إنه كما قيل مراراً ، كوننا الأول . كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى . وإذا طالعنا بألفة فسيبدو أبأس بيت جميلاً . في حياة الإنسان ينحّي البيت عوامل المفاجأة ويخلق استمرارية . ولهذا فبدون البيت يصبح الإنسان كائناً مفتتاً ، إنه ـ البيت ـ يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الأرض .
البيت جسد وروح ، وهو عالم الإنسان الأول .


إن رسم صورة مبالغ في جمالها للبيت تلغي ألفته ، ويصدق هذا على الحياة ، ولكنه أصدق ما يكون في أحلام اليقظة ، إن البيوت الحقيقية للذاكرة ، البيوت التي نعود إليها في أحلامنا ، البيوت الثرية بأحلام اليقظة ، لا تمنح نفسها بسهولة للوصف ، فوصفها يشبه أن نفرج الزوار عليها .

إن سمات المأوى تبلغ حداً من البساطة ومن التجذر العميق في اللاوعي يجعلها تستعاد بمجرد ذكرها ، أكثر مما تستعاد من خلال الوصف الدقيق لها .


بغض النظر عن ذكرياتنا فإن البيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا . فسكنى البيت الذي ولدنا فيه ـ حلمياً ـ يعني أكثر من مجرد سكناه في الذاكرة ، إنها تعني الحياة في هذا البيت(الذي زال) بنفس الأسلوب الذي كنا نحلم فيه .


يشحن البيت الذي ولدنا فيه بقيم الحلم التي تبقى بعد زوال البيت ز تتجمع مراكز الوحدة والضجر والأحلام لتشكل بيت الأحلام وهو أكثر ديمومة من ذكرياتنا المتشتتة عن البيت الذي ولدنا فيه .


يشكل البيت مجموعة من الصور التي تعطي الإنسانية براهين وأوهام التوازن .


لو كنت مهندساً لبيت الأحلام فلسوف أتردد بين بناء من ثلاث طوابق أو من أربعة ، فالبيت المكون من ثلاثة طوابق هو الأشد بساطة فيما يتصل بالارتفاع الجوهري . يمتلك قبواً أو طابقاً أرضياً وعليّة ، في حين البيت المكون من أربعة طوابق يضع طابقاً بين الطابق الأرضي والعلية . وإذا أضفنا طابقاً آخرَ فإن أحلامنا تتضبب . في بيت الحلم يستطيع مسحنا التحليلي أن يعد لثلاثة أو أربعة .


أي عمق خاص يوجد في حلم يقظة الطفل ! ، وما أسعد الطفل الذي يمتلك لحظات وحدته . إنه أمر جيد بل ومطلوب أن يكون للطفل لحظات ضجر ، لأن يتعلم الجدل بين اللعب البالغ الإمتاع والضجر الخالص الذي لا سبب له . يحكي لنا (الكسندر دوما) في مذكراته أنه عندما كان طفلاً كان يعاني من الضجر إلى حد البكاء ، وعندما لقيته أمه يبكي سألته (ما الذي يبكي دوما ؟) فأجاب الطفل ابن السادسة (دوما يبكي لأن لدوما دموعاً ) . ومثل هذه الحكايات يرويها المشاهير عادة في مذكراتهم ، ولكنها توضح الضجر المطلق ، الضجر الذي لا ينتج عن مجرد افتقاد رفاق اللعب . هناك أطفال يتخلون عن اللعب لينصرفوا إلى زاوية في حجرة السطح يمارسون ضجرهم فيها . لكم أشتاق إلى علية ضجري عندما تجعلني تعقيدات الحياة أفقد بذرة الحرية ذاتها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جماليات المكان لغاستون باشلار . ترجمة غالب هلسا

المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . الطبعة الثالثة . 1987م .

المشاركات الشائعة