السبت، أغسطس 14، 2010

أم التنانير


في بيت مبنى من الطين كالتنور؛ تقيم صانعة التنانير، هي وابنتها المطلقة أبدا منذ كنت طفلا، بسبب شؤمها ـ كما يقال ـ حيث ترملت بعد ثلاثة أيام من الدخول بها، بيت حالت بركة أم التنانير ـ كما يقال من ناحية أخرى ـ دون هدمه مثل بقية بيوت القرية القديمة، وذلك حين أعطبت جرافة البلدية قبل أن تمس البيت،فبقيت إلى اليوم أمام بيتها شاهدا على ذلك، وقد اتخذتها العجوز قنـّا لدجاجها، وبقى البيت وحيدا معزولا نائيا في طرف القرية فريدا تزركشه خطوط الطين النحيلة، وتتدلى على جوانبه أعشاب الخبيّز والحرّيق النابتة على سطحه، جليلا كضريح ولىّ وساكنا كمخزن لمعدّات البدو الموسمية، وكأن لا بشر فيه، وقد اتخذت عصافير الدوري من بين شقوقه أعشاشا لها؛ فكان صخبها في الصباح والأصيل بمثابة ساعة تصحو عليها القرية وتنام، واتخذ الأطفال من ظله الرطب ساحة آمنة لألعابهم؛ إذ لو حدث- ونادرا- وخرجت أم التنانير عليهم إثر؛ سقوط كرة أو عصا في فناء بيتها لتحلقوا و وعدوها، حالفين لها بجدها أن لا يعودوا إلى لعبهم، حتى إذا أدبرت عادوا.


بيت مثل هذا وفيه امرأتان؛ إحداهما شاخت والأخرى يئست، مخلوقتان كأنهما من جنس ثالث؛ لا إلى الإناث ولا إلى الذكور، فعكفتا فيه مثل راهبتين في دير بسيط، راضيتين شاحبتين متنهدتين أبدا، وهما متقابلتان تنفشان الصوف أو تغزلانه أو تمشطان النطوع أو تفليان بعضهما، في شمس فناء وسط البيت العاري، وقد يقطع عملهما نواح طارئ خافت مثل أنين الريح في فجوات بيتهما في غروبات الخريف، أو قرقرات ضحكات قليلة متقطعة، وأحيانا شجار كشجار زوجيْ حمام لا يؤذى ولا يدوم، وهما تنتظران ولا تنتظران أيّ شيء؛ أي خبر أي حادث مهما يكن : دعوة لحضور مناسبة صاخبة من المناسبات التي تتخطى منذ سنين بيتهما إلى بيوت الجيران والقرية، أو صراخا يشرئب كعلامة استفهام (من اللي مات؟)، أو نبأ توزيع سلعة معمّرة في الجمعية أو طرقات على الباب بيد طفل يحمل صنفا من الطعام أو تحية حلوة هامسة (خير ياصاحبات الحوش) من زينب الدلاّلة، أو سكسكة فرامل سيارة قد تكون تقلّ الخال فرج القريب الوحيد في زيارة مفاجئة.


هكذا، ولا شيء آخر مختلف أو جديد في رتابة زمن هذا البيت، وعمر صاحبتيه معظم العام لاشيء. لاشيء. لاشيء، حتى يهل شهر شعبان ؛ فإذا بأهل القرية – الذين يكونون قد تحدثوا كثيرا عن رمضان – استبشارا به أو تهيئة لنفوسهم له – قد عزموا الأمر بلا اتفاق بينهم؛ ولا بينهم وبين أم التنانير، على اقتناء تنانير للتلذذ بخبزها الأسمر الشهي، قليل منهم صادقو الرغبة في ذلك، وأكثرهم مجاراة للآخرين، وإذا بذلك البيت الطيني الحقير المعزول موضوع اهتمامهم وقبلة خطواتهم، فيرسلون أولادهم :


ـ (عدّى يا ليد لمّ التنانير وقول لها تسلم عليك امى وقالت لك ديرى لى تنور بوعشرين فرده)

ـ ( اسمع ياولد مااتقوللهش يمّ التنانير؛ ردّ بالك، قوللها يا حنـّى كامله، باهى؟)

ـ (عدى أنتِ يا وليه خير وقولى لها نريدو تنور طفله؛ موش تنور طين كيف اللى عمنوّل)


وقد تذهب بعض الأمهات بأنفسهن إلى البيت الذي صار مصنعا ، فيبلغن أم التنانير أن تنو ر العام الماضي لم يكن متينا أو أن طينه كان يلتصق بالعجين.


وكما تستجيب العصافير – مخلوقات الفطرة تلك- إلى نداء الطبيعة الخفيّ، فيراها القرويون طائرة مشقشقة، حاملة في مناقيرها أعوادا وريشا وخيوطا؛ لتبنى أعشاشها ، كذلك تستجيب أم التنانير لنداء تقليدها الموسمي المحبب الذي صار سـرّ حياتها : صناعة التنانير ، وكما يرى القرويون البزّاق في أواخر الخريف يتسلق أفرع السدر والزيتون جارّا قوقعته، فيتفاءلون بأن العام مطير، كذلك يحسّون وهم يلمحون أم التنانير رائحة غادية حاملة على رأسها أنصاف جوالات التراب المندلقة البطون على كتفيها، فيحييّها بعضهم :


ـ (الله يعاون الله يعاون).ـ (راكى تنسينا مالتنانير!)


وكما أرسل الناس أطفالهم أو ذهبوا بأنفسهم، إلى بيت أم التنانير دون إذن مسبق أو إعلان ـ فإن أم التنانير تعرف ذلك- فبلا إعلان أيضا تكون هي قد شمّرت عن ذراعيها المتهدلي اللحم الباهتي الوشم، وفيما تروح ابنتها الأرملة تدكّ وتركل بقدميها خليط الطين وشعر الماعز والتبن والملح؛وعقودها تخشخش كدفوف الأطفال، تكون العجوز محلقة بخيالها بعيدا وراء أهزوجة شجيّة بعيدة؛ وهى تقطّع كتلا من الخليط وتعمل منها حلقات حلقات حلقة أضيق من حلقة، ثم تركّبهن طبقات طبقات السفلى أوسع من العليا؛ كعمر الإنسان؛ وبين الحين والآخر تعود لترسل ملاحظة لاهثة دون أن تنظر إلى ابنتها بأن تظيف المزيد من الملح أو التبن أو الشعر، وأن تعجّل قبل أن يزدحم عليهما الناس؛ هنا صف تنانير العشرين رغيفا، هنا صف تنانير الخمسة عشر وهنا صف العشرة.


ويخضّب الطين أكفّ وأقدام المرأتين، وثيابهما و الأوراق النقدية، ويعبق فناء البيت به؛ فالقرية كلّها، وترسم أقدام الرائحين والغادين من الناس طريقا طينيا بين بيت أم التنانير وكل بيت من بيوت القرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة