الاثنين، أغسطس 16، 2010

تحولات اليوم الأول

أفقتُ وروائح الكسبر والمعدنوس والبصل والبن والبهارات معاً؛ تعبق بها أجواء حجرتي، ناسياً استعدادي الروحيّ ليلة البارحة لشهر الصيام، همست بيني وبيني بتلذّذ (ارمضان!)، فيما أرسل الراديو - الذي نمت عنه - تلك الموسيقى لبرنامج من عُمْر ِ رمضان، فرددت ابتسامة لم أجد من أعرضها في وجهه؛ فسَرَتْ في صدري ففي أطرافي؛ فنهضت بسعادة من طابت لهم ذكريات رمضان.


عَبَرْت سقيفة البيت بفردة شبشب واحدة؛ وحيّيت نساء عائلتنا الكبيرة في المطبخ :


- (مبروك صيامكم؛ وكل سنة وأنتو طيّبين).


ردَدْن جميعاً معاً مزيجاً من التحية والتهنئة، وهنّ منهمكات وأطفالهن في إعداد الإفطار حول السّفرة المستديرة، وقد جعلن للراديو مكاناً وسطها، يقرّضن بسكاكينهنّ اللحم والخضروات؛ وبألسنتهن ما أسعفتهن المناسبة من مواضيع، ولا واحدة تنصت إلى الأخرى؛ ولا إلى الراديو الصائم هو الآخر؛ إلاّ عن صخب يكاد يفجّر مكبر صوته في بطنه.


- (وطّنْ هالراديو شوي)، واستدرتُ متجهاً إلى الحمّام؛ فيما لاحقني صوت أختي الملحاح :


ـ (راه العويل نسيو إيجيبو لنا الكستردا يا أسعيّد، والله ما شحتناه من عيت عزيزة إلا شحته).


ـ (شعيرة من شعائر شهر الصّيام، ما عندهمش حق ينسوها والله).


- (شنو؟).
- (شي. شي. شي.)، وعرّجتُ على المربوعة فوجدتها منظمة مرتّبة وأنيقة؛ أو هكذا بدا لي (كلّ شيءٍِ يتجمّـل في رمضان)، أردت أن أهنئ أخي الجاثم قربَ زاويتها، وقد ألقت شمس العصر أشعتها الصفراء على مقدمة السجّادة عبر أضلع النافذة، الرّافع كفّيه عالياً جدّاً، وكان كعادته كلَّ رمضان مرتدياً قميصاً " عرْبياً " و"معرقه" .


انتظرت قليلاً، لكنه لم يلتفت إليّ، استدرت و ولجت إلى الحمّام، قابلني وجهي المنتفخ العينين في المرآة، بدا لي وسيماً :


- (ارمضان .. عامنوّل .. صمت .. في .. المعسكر ..) توضّأت بكسلٍ لذيذ ودلكٍ ومضمضة مركـّزين؛ وأنا أتذكـّر أول يوم خرجت فيه من المدرسة مستعجلاً؛ لأطبّق درس الوضوء(إلى الكوعين ابتداء باليد اليمنى)، تأسّفت أسفاً خفيفاً على تأخّري عن الصلاة في المسجد؛ أولَ يوم في رمضان، عكس رمضانات سابقة، رجعت إلى المربوعة لأجد أخي ساجداً:


- (تي هضا فيش إيصلي ؟)، تأخّرت عنه قليلاً وكبّرت، وجمعت الفجر والصبح والظهر بالعصر، وسلّمت، كان أخي لا يزال في موقعه كنُصب تذكاريّ للسّاجدين، لملمت السجّادة و وقفت مختصراً ناظراً إليه، ظلّ ساجداً:


- (كلّ عام وأنت طيّب أيّها الأب الطيّب)، وخرجت.


داهمتني رغبات : أذهب إلى مطلوب؟ أم إلى السوق؟ أم أتابع التلفزيون؟، أم...؟، قرّرت أن أنظف السيّارة، رحت أذرع البيت وأنا أصيح:


ـ (وين اللمامة؟).


ـ (اللمامة ؟ آآآه، في الدار الجوّانية).


ـ (ولسفنجة؟).


- (مدكوكة فالمشربيات).


- (والصابون السّايل وين نلقاه إن شاء الله ؟).


- (خطّر عليك الخير، بيش اتجيبه لنّا حتى هو)، كانت دمائي بدأت تطالبني بالنيكوتين هي الأخرى، ففررّت ناجياً بما جمعت من عدّة، لكن صوت أختي لاحقني:


- (ما قتلكش يا سعيد ! نبي نشترك في مسابقة "وين وليش وكيف؟" هالعام، بيش اتساعدني، بالك انحصّل الجائزة الكبرى).


فأجبتها من وراء شمس وعصافير حديد النافذة :


- (وين وليش وكيف ... وامتى عمرهم عطو جوائز!).


- (لا هالمرة الموذيع اعتذر وقال الجوائز مؤكدة وكبيرة).


- (إنشا الله، او تبقى عريس هالمرّة)، وعاجلاً جاءني ردّها :


- (لا عالخبر قالوا ساعة منبّه، اتوعّي حتى الميّت).


لكنني في طريقي إلى الباب الخارجي سمعت جعجعة تنبعث من مكان ما، حسبت للوهلة الأولى أنها أزيز مولّد المياه، ثم أدركت ماهي(معقولة رحى؟ رحى؟؟؟)، خففت - وقد سقط بعض ما بيدي - إلى المخزن؛ الذي وجدت أن مدخله قد ضاق بـتنـّور وكوم حطب، وقفت مستنداً إلى الباب بذراعي، كانت أمي وحولها حفيدتاها؛ وأعينهن عصافير تحطّ أو تطير بين الرحى وشفتيْ جدتهما المدندنة، وقد ثنت ساقاً ومدّت أخرى، وانحنت على الآلة وسط المخزن المكتظّ بالأروقة المطوية والبراميل وأكياس العلف والآلات الكهربية المعطلة وصناديق القازوزة، وعشرات الأشياء.نبّهها ظلّي إليّ :


- (آ آ آ هذا انت ! نوم العافية يا مودير)


- (كل سنة وانت طيبهْ يا ابدويّهْ)، وانحنيت ورحت أتحسّس الرحى :


ـ (وهذي وين القيتيها ؟، ويش خطّرها عليك ؟)


- (لا يا باتي؛ ما تظلمني؛ هذا بوك؛ غابي في تحشيشاته كل ارمضان ؟، هالمرّة جاته عالتنّور والرحى، حلف ما ناكل إلا خبزة تنور، او شعير اخرى زاد).


ـ (إيوا نلقاها اني عارفه ما إيديرها إلاّ هو، وماني خايف إلا تحشيشه من تحشيشاته اتجي فوق روس وحدين)، فردّت بضيق مفتعل:


- (غير حيد ايدك، حيد غادي يا الهبل، عدي، عدّي كمّلْ نومك).


وشرعتْ في تدوير الرحى، فتراقصت البذور كأنما للخلاص، ودخلت أمي في أغنيتها، فقرقع وتماوج في الشعاب رعد بعيد؛ من أقاصي الذاكرة؛ فوق سحب كحلية فوق سقف أكحل لبيت ٍ أروقته مزركشة بفلذاتٍ مربعاتٍ ومثلثاتٍ؛ من قفاطين وسواري وسروايل وأردية أولى؛ وخرجتُ بفكرة، هي أن أخصّص مفكـّرة اثبت فيها بيانات عن هذه الآلة التراثية؛ وأجزائها؛ وأغنياتها؛ وما إليها.


لكن الفكرة طارت مع السحيباب العبقة لـ (بواخ) الشربة.

هناك تعليق واحد:

  1. منور يا بوخال شوقتني الجؤ اول يوم في رمضان مع الاهل

    ردحذف

المشاركات الشائعة