لقد صرت أدرك اليوم سر ذلك الحزن الشفيف الذي ينبث في روحي، كلما رأيت طفلاً أنهك قواه بالصيام محاكاة للكبار، أو كلما اضطررت للصيام بعيداً عن بيتنا.
فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً*، كنت مخلوقاً آمناً غريراً حراً بلا هوية، أجهل كم أنا مجهول، وأحسب أن تلك القرية ـ التي هي عبارة عن قلعة إيطالية سابقاً ـ هي كل الدنيا.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً صادف حلول شهر رمضان المبارك فصل الشتاء، وكان ذلك هو أول رمضان أتذوق فيه طعم هذا العذاب اللذيذ لهذه العبادة الروحية المحببة.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً كان لي في تلك القرية أول صديق في حياتي، كان اسمه خليل، علمتني أمي أنه يتيم، وحدثني أبي:
ـ سيدك خليل؛ بات خليل ـ الله يرحمه ـ كان صاحبي، أيام ونحنا صغيرين كيفك وكيف خليل.
وكنا - كلانا خليل وأنا - في الثامنة من العمر، ولكنه كان أطول مني قامة وأكثر مني حيوية، ولم يكن مثلي خجولاً.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي المطر وتحت كافورة القرية العتيقة، حين راحت أوراقها تقاطر علينا حبات من ماءِ المطر كبيرة، كدموع خليل، قال لي وهو يتواثب مثل أم بريم، ليتجنب حبات المطر الباردة التي يقشعر منها بدنه العريان
ـ هيا نصيموا بكرة ؟ .
وحين وافقته وتعانق كفانا نظر إلي بعينين ماكرتين ضاحكتين وأضاف:
ـ رد بالك تبقى ادقْ فيها في حوشكم وتضحك علي.
وقهقهنا معاً وقهقه رعدٌ بعيد .
منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي عشية اليوم الأول من الصيام كنت وخليل في شرفة برج القلعة الشرقي، جالسين منهكين كمريضين ينقهان، وكانت آثار المطر على السفوح مرايا مكسرة، والبيوت البعيدة بيضاء تحت خيمة مظلمة من الغيوم، قال لي خليل، وسحيبات بخار الماء سجائر صبيانية:
ـ كذه وريني لسانك ؟ .
وحين أخرجت لساني نظر إليه وقال:
ـ لسانك أبيض، مزبوط أنت صايم.
وفجأة صاح وهو ينظر إلى بعيد، حيث الطريق الملتوي:
ـ هاذك كارو خالي صالح، والله كارو خالي صالح.
وراح بعد أن تقدم حتى شارف على حافة البرج يلوح بيديه ويصيح، وكأن من على الكارو يسمعه، ثم عاد يحدثني عن خاله وجَدته في المرج، وعن البيوت هناك التي تشبه البيوت في قريتنا تماماً، بيت جدته خاصة، وأنه دائماً ما يذهب لزيارة المرج، وأن له هناك أصدقاء وصديقات وبطولات، كان قد أسمعني تفاصيلها كثيراً، لكنْ في تلك المرة أحسست بالغيرة، وبتخليه عني في تجربة الصيام، عندما أخبرني أن خاله آتٍ لينقلهم إلى المرج للصيام مع جدته.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كنت أعدو بمزيج أنفاسٍ وضحكات تتقطع في أثر الكارو، الذي كان يقل خليل وأمه إلى المرج، وأنا أحاول لمس كفه لأودعه رغم زمجراتِ خاله كلما التفت إلينا، وشهقات و وعيد أمه، حتى وجدتُني منبطحاً في غدير، بعد أن زلتْ قدمي فجأة في ركضي، وبعد أن رفعتُ عيني إلى الكارو الذي ابتعد، رأيت خليل يقهقه ويتقلب على سطح الكارو ؛ ولما وقفت حانقاً أتأمل ملابسي بلغني صياحه، فنظرت إليه ثانية فرأيته يرمي إلي بشيءٍ وقع قربي، كان صفارتَه الملونة، فالتقطتها والتهمتها، ورحت ألوح بيدي وأصفر رهنَ مشاعر شتى، وهو يلوح لي، ثم ابتعد الكارو فعلاً، صعد الهضبة، تناهت إلي قرقعاته حيناً فحينا، ثم تدحرج وراءَ الهضبة، فهُرعت إلى البرج وصرت أراقب الكارو الذي أخذ يصغر ويصغر ويصغر، وكانت الريح تصفر وهي تحتك بحواف البرج، أو تزغرد في الكوَى والفجوات، فإذا بي أرتعش، فرُحتُ إلى البيت.
منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وعلى مدى بقية الشهر المبارك احتفظت ببياض لساني، وفاءً لعهدي مع صديقي الأول خليل، وظل بيت خليل جاثماً بوقارٍ أو حزن كأنه صائم هو الآخر، وظللت أرتاد البرج انتظاراً له.