الأربعاء، سبتمبر 29، 2010

مدرسة القرية


ما أقربَهُ !




ما أبعَدَهُ !




مثلُكِ




آخرُ آخِرِ مايو




وهو يجفّفُ طُحلبَ سَطحِكِ




يا أختَ مَسَاكِنِنا




لمّا غادَرْناكِ




ـ تهَافَتُ ذرَّاتُ الطبَاشير




تسَاقَطُ أسماءُ اسامينا ـ




نُنْشِدُ




تحت شبابيكَ مُجنّحَةٍ




نحوَ مدارسَ




لم يصحبْنا صُبْح الرّيفِ إليهَا




لا تشبِهُكِ




لا تشبهُنا




و شَجَاً أنْ لا أحدٌ منّا كان شجيِّا ...



الثلاثاء، سبتمبر 28، 2010

الغيوم


بوصف ِ الغيوم
عليّ أنْ أعجّل جداً
فبعد هنيهة

هي تتوقف أن تكونَ ذاتها

خاصّيتها هي ألا تتكررَ أبداً
في أشكالها ، ظلالها ، وضعاتها ، ونظامها

ترتفع بسهولة عن الحقائق
بذاكرة لا تنوءُ بأي شيءٍ
مهما تكن من شهود على شيءٍ ـ
سرعان ما يتبددْن في كلّ الْجهات

مقارنة ً بالغيوم تبدو الحياة وطيدة
حتى أنها دائمة ، وتقريباً خالدة

عند الغيوم
حتى الحجر يبدو أخاً
يمكن الاعتمادُ عليه
ولكنهن بعيدات ، وبنات عمّ خجولات

فليكنِ الناسُ ناساً ، إذا أرادوا
وبعدها بالتسلسُل كلّ واحدٍ منهم يموت
أما الغيوم فلا يعنيها كلّ هذا الغريب جداً

فوق كل حياتك ، وحياتي ليس كلها
هنّ يتظاهرنَ بأبهة كما تظاهرن

لا ينبغي عليهنّ معنا أنْ يمُتن
لا ينبغي عليهن أن يكنّ مرئياتٍ لكي يُبحِرن .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فيسوافا شيمبورسكا . بولندا. جائزة نوبل عام 1996م .
مكتبة نوبل . النهاية والبداية وقصائد أخرى . ترجمة هاتف الجنابي . الطبعة الأولى 1998م .

الأحد، سبتمبر 26، 2010

مختارات


الزّورقُ العبّار


يقوم بوظيفةِ المكوك


بين القريتين المتقابلتين


على ضفتيّ النهر


والمجرى المائي ليس واسعاً ولا عميقاً


مجردُ فاصلٍ بسيط في الطريق


يزيد من ازدهار المغامراتِ الصغيرة


في الحياة اليومية


مثلَ الوقفة في كلمات الأغنيَة


تجري عبرَها الموسيقى بفرحٍ وانشراح


وبينما ترتفع أبراجُ الثورة


عالية شامخة ثم تسقطُ في الدمار


فإنّ هاتين القريتين تتبادلان الحديثَ عبرَ النهرِ المهذار


ويستمرُ الزورق في أداءِ مهمّةِ المكوك


فصلاً بعدَ فصلٍ


ومن موسمِ البذْر إلى موسم الحصَاد .


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


هكذا غنى طاغور

ترجمة خليفة محمد التليسي . الدار العربية للكتاب . ليبيا تونس . 1989م .

الاثنين، سبتمبر 20، 2010

النـّحـّاس



( النّحاسْ انقرضْ ) ، خاطرة حادّة ، تطِنُّ ـ منذ الليلةِ البارحة في رأسِ "بلْحسَنْ " ، ولقد تحدّى نفسه المنقسمة عليه بالخصوص ، فكان ينهزم أمامها كلّ مرّة ، مقتنعاً بأنّ النحاس قد نفد من القرية والقرى المجاورة ؛ من "الروابش " ومخلّفات الكسّارات والشركات التي يمكن أنْ تخطر له ببال ، فلا أثر حتى لـ" تلّ " في شبكة زريبة :





ـ اقرضوه الجّربْ الله يقرضهم ، انزعوه مالوطن عطهم ما ينزعهم .

وبهذه العبارة كان بلْحسَنْ وبهمس يختم تجواله الفكريّ اليائس في أثر النّحاس ، دون أن تفرقع في أعماقه فتنوّر في أساريره فتسري في أعصابه بُشرى خاطرةٍ ، حاملة خريطة منجم ِ نحاسٍ أنساهُ إيّاه الشيطان الرجيم ، وفي كلِّ مرة يلهث فيها فكره المكرّس منذ أشهر للنحاس ، يزوغ إلى خواطر تزعجه مثل : أنّ النحاس موصّلٌ جيّد للكهرباءِ كما تعلّم في دراسته التي ظلتْ ابتدائية ، ومثل لماذا أسلاك الخطوط الكهربية خمسة ، أو لماذا ترنُّ آنية النّحاس، وسرعان ما تنقله خواطره كعادته إلى طفولته فيذكر أنّ حياة جدّته كانت تقتني"ليّان" نُحاس أصفر كبير، من مخلّفات جيوش الحرب العالميّة ، وكيف أنه كم كان يركزه على حافّته في عزّ "القايله" ، ويشرع في قرعه قرعاتٍ متتالية ، ثم يصيح ( هنا لندن! ) ، فيقول في ذهنه



ـ كان يوزن قريّبْ خمسة وعشرين كيلو!



ثم يكتم تحسّرَه بلوم نفسه :




ـ خرّفْ يا بلْحسن ، كان كان كان ، الدوّهْ في توّهْ ، إن كان ردّتْ جدّتكْ إيردّ هاذك الليّان .

هل يخرج بلحسن من جنة النحاس؟ وهو الذي منذ أشهر ـ كأنها ملايين من السنوات ـ ينام ويصحو على النحاس : ملابسه مشبعة وملّطخة بغبار النحاس، بصماته النحاسية تلطِّخ الجدران والأوراق والزجاج وكلّ الملموسات ، حتى حبّات "الزريعة" التي أدمنها بطعم غبرة النحاس ، حوارات بلحسن الداخلية وأحاديثه حتى مع الأطفال، وأحلامه ونكاته ، كلّها ذات رنين نحاسي ، تقصّي النحاس بالنسبة لـ بلحسنْ صار عادة إدمان هواية حاجة ، بلحسَنْ أمام النحاس ـ ولو شُعيرة منه ـ طفل أمام لعب ، بلْحسنْ " مارد النحاس " كما يسمّيه أطفال القرية ، لم يَبق شبرٌ من جلده لم تخدشه أدغال النحاس التي اخترقها نهاراً أو ليلاً ، وهو لم يُبقِ سلكاً كهربيّاً إلاّ سلّه وعرّاه ولفّه بعناية عمّال الحرير، ولا "شبردق" إلا فحصه فحصاً وفلاّه ليستخلص منه ولو عشرة سنتمتر نحاساً ، ولا "كابل" هواتف أو سواه إلا شقَّ عليه بطن الأرض وسلخه وشواه ، بلْحَسَنْ الذي باع أطناناً من الآنية النحاسية ولفّ الكيلو مترات من أسلاك الكهرباء ، وكوّم أهراماً من " "الفوشيك" .

بلحسنْ هذا الذي فعل به النحاس ما لم يفعله به بيعُ " الشوالات" في "الحصيدة "، ولا بيع الزعتر في الخريف ، ولا بيع اللبن وخبزة التنّور في رمضان ، ولا بيع الأعشاب و"القعمول" في الربيع ، ولا بيع الجلود و"الزمامير" في العيد ، ولا أيّ "بزنس" آخر عرفه وعُرف به خلال مراهقته ، ورفض كلّ وظيفة أو حرفة عُرضت عليه ، حتى تأكد له أنّ النحاس "موش مطلوق" ، بلْحسنْ الذي فعل وفُعِل به كلّ هذا ، يجلس الآن على "بلوكّه حرشه" مسنداً ظهره إلى جدار بيته ـ وربما هي المرة الوحيدة التي يستريح فيها جسده بعيدا عن "القوراج" ، حيث أعمال مسح وجلي وتفكيك وتقطيع وتحميل النحاس ـ يجلس شارداً صامتاً متعب الروح ، ونواقيس نحاسية تضجُّ وتصكُّ مسامعه (نحاس !نحاس!نحاس) ، حتى تكاد تفجّر جمجمته .


فهل يخرج بلحسن من جنة النحاس ؟ .

ـ ولا يمكنْ عليّْ الطلاق ما نقعد ها القعده .



هكذا يقول بلحسن بصوت يقترب من الجهر بإصرار أطباء السرطان




ـ لسْبدّ فيه ميكان فيه نحاس أو ما مشيتْ لهْ ، وين ؟ وين ؟ وين ؟ وين يا بلْحَسَنْ ؟ .



ويطلق بلْحسنْ كلابَ خاطره النحاسيّة ؛ تشقّ الأزقة زقاقاً فزقاقاً ؛ تصّعد الهضاب ؛ تنزل الأودية ؛ تقلّب هياكل السيارات المعطّلة أمام البيوت ، تجرد على الزرائب والخرائب ؛ تشمّم أعمدة الكهرباء القديمة ؛ تلصّص على شبكات محطات الكهرباء ؛ تدور حول أسوار المعسكرات ؛ تخوض المجاري ؛ تلج العبّارات ؛ تعود إليه لاهثة ؛ يعيد ترتيب المكان متخيّلاً القديم ومتصوّرا الجديد ، ويرسلها مرة أخرى وراء النحاس الذهبيّ الغالي ، وبلْحسنْ جسد يابس لا يتمدّد ولا ينكمش مستند إلى الجدار، بعينين فارغتين ، لاتريان العابرين ، وأذنين لا تسمعان التحيّات .

لكنّ الآذان يرتفع فينبّهه ، فينفض ثوبه متعوّذا بالله من الشيطان ومستغفراً ربّه ، داعياً في أعماقه أن يدلّه على منجم للنحاس ، ويتوجّه في برتقالية الأصيل للصلاة ، دون أن ينتبه لخيوط الشمس التي تحاول أن تنعكس فيمتصها الهلال النحاسيِّ لقبّة الجامع .

الجمعة، سبتمبر 17، 2010

أهلاً


أهلاً حكيم بعَرض الحزن والطربِ
بين الرحيل و بين العَوْدِ مضطرب

بـطول ِ أغنيـةٍ دندنتـَها وجـعاً
مـن المـدينة صَوْبَ مـراتع اللّـعب

وأنتَ تسـلك درباً أوّلاً همــلا
سبقتكَ فيه طيـوبُ الزّعـتر الـرَّطِب

وفي جبينك ختــمٌ اسم قـريتنـا
في رسم ِأكـرة ِ بـاب المنزل الخشـبِ

بيتٍ بـروقُ حمـام ٍ فــوق أسطـحه
رهنَ انهمار كنوز الشمس في السحب

منـها تنـزّلَ خيـط ٌ في سـقـيفـتِه
قـرصـاً يـدبُّ إلَى المــرآة في دأب

تخَذتـْهُ سـاعة َ شـاي العصـرِ سيـّدة
جـمعتْ حـواليـه أهلَ البيت كالـعُـلب

وذوّبـتْ فيـه بالـبسمـاتِ سُـكـّرة ً
ونعنـعتـْهُ بوشـم ِ جـبينِهـا الـذّهـب

وانظرْ لصورتنـا الكحلاء واحْـنِ لـها
قزحَ الملابس والنظـرات والكـتب

فيـها عيـونُ تـُليـْمـيذيـن ضـاحكة
ضحكـا يثيـرُ حنـانا ً غـامضَ السّـبب

وخــارجَ الكـرتِ كيـف تـُرى تهيّـأنـا
ثم انفضضْنا عن الكميرات في صخب ؟

واسمـعْ حكـاية َذكـرى بيننـا عتِـقَـتْ
عِتـقَ الـنّـبيـذ مـع الظلمـات والـحقب

لمّـا انتـهت بي طـريقي عنـد عتبتـكم
في رقـش ِظـلِّ وضوءِ عريشةِ العنب

وراءَ عـطفةِ لـحنٍ ظــلَّ يتـعـِبُني
وجدتُ عندك نصفَ اللحن والـتعب

كان اللقـاءُ وكنـّا أصـدقـاءَ فــقط
علَى اللقـــاءِ باسمينا بــلا نسَـَـب

الاثنين، سبتمبر 13، 2010

أغرك مني ؟











أغرّكَ منيَ الصبرُ الجميلُ
على هجـر الطويلة يا طويل ؟





ومثلي كم أحَـبّ بلا حـدودٍ
و ليس علـى محبّته دليـل






فعنّي غبتَ تختـبرُ اصطباري
عليك ! فإنّ صبري مستحـيل





وشبهُ الحبّ حبٌّ فيه صبرُ
و حبّك أنتَ ليس له مثيل





وحبّي للـرِّفاق أصيلُ حـبّي
وحبّك في الأصـيل ِ هو الأصيل





وإنّ بـديـل جافية لأ ُخرى
ومـا بك أنتَ واللهِ بديل





28-10-1986

الثلاثاء، سبتمبر 07، 2010

الدّكـّة


لوحده ذهب يونس إلى المدينة ؛ بعد أن اتخذ قراراً سريّاً مهما ؛ معِدّاً أجوبة احتياطية لأي سؤال مفاجئ ؛ مثل رجل يريد عرض نفسه على طبيب نفسية أو مسالك .

كان مساء خاصّاً في حياته ذلك المساء الرمضاني ؛ فللمرة الأولى تقوده أقدامه إلى جهة جديدة وبانتباه شديد ، فقد اعتاد منذ سنوات ـ في مثل هذه الساعة ـ أن تثير خطواته غبار الدروب الحمراء الضيقة المتعرجة إلى الزرائب ليعلف الأبقار ، كان يحس أن القرية كلها ؛ ليس بسكانها وحسب ؛ بل وببهائمها ودواجنها وأشجارها ومبانيها وأعمدتها الكهربائية ، تراقبه وهو يمشي وهي تهمس (وين ماشي يونس ؟ ) .

زمان ، أيام طفولته كان أبوه يرسل مع البقال ليحضر لهم ملابس العيد ، هو وأخيه ، السراويل مقاسة طولاً وحزاماً بخيط سباولو ، الحذاء ورقة كرتون تقص على مساحة القدم ، لكن القياسات قد لا تجيء دقيقة في آخر دقيقة من ليلة العيد : الكندرة قد تصل ضيقة تترك ندبة أسفل الكعب أو بأصابع القدم ، فحمّى مساء العيد الشجية ، أو واسعة يتقلقل فيها القدم ، فيتخلف غائصاً في وحل ، أو مقلوباً عند عتبة ، الجاكة أو السورية إما نص كم أو (2/1كم) .

ربما لتلك الذكريات وجد يونس نفسه أو والده أن الملابس العربية (الصينية) ، حيث المقاسات بالكلمات لا بالأرقام ، بدء من واسعة . نص ونص . كبيرة . مخبخبة . مهبهبة. امهشكة. وافية. إلى سخاسخي . أغسل وألبس . ما ايخشش. ما يطلقش . مروراً بسمول لارج إكس لارج .

لكن السبعينيات من القرن الماضي دخلت عليه بالخنافس والمدارس الإعدادية المشتركة ، ومداليات الحروف الأجنبية التي ما لها أين تعلق في السراويل العربية ولا الصينية ، أي دخلت عليه بالمراهقة والمراهقة دخلت عليه بالحب ، الحب الكلمة البديل لكلمة الغية ، كيف يستطيع أن يقول بالبدلة العربية (بحبك ياحبيبتي) ، بالبدلة العربية يستطيع القول (غاوي فيك ياحويمتي) .

ثم ـ لتعزيز قرار التغيير ـ الملابس العربية كم أوقعته في مواقف محرجة لا تنسى ، مرة انقطعت دكة سرواله وسقط حتى حذائه بين قائمتي المرمى الذي يحرسه بالدوري المدرسي ، مرة ثانية ، ترك سرواله العربي القديم في حجرة القياس ولم ينبهه إلى نصف عريه سوى صياح التاجر وراءه ، مرة ثالثة انقطعت الدكة حين فرج ساقيه ليتحكم من خصم عريض ، بل ومواقف خطرة ، مرة نطح دينمو السيارة كم نطحة إثر التهام الشينقة لعمامته ، والسورية مرة كان ذيلها عالقاً بالدكة من دبر وهو عابر الصالة خارجاً من الحمام تحت عيني بنت الجيران ، وكثيراً جداً في رفعه من الركوع ...


تنهد حين جلس على الكرسي الخلفي للحافلة ، حين تحركت ألقى نظرة إلى الوراء حيث مشهد القرية وهي تنأى عن الحافلة ، وبعينين تنتظران أكثر من بشر كان يراقب انفتاح باب الحافلة فاغراً فاه متفحصاً الركاب الوافدين كل مرة ، اهتم لكثرة الراكبين والنازلين وتذكر قولة أبيه (الدنيا كيف التابوس ؛ واحد راكب و واحد نازل) رأى كم وجهاً ذكرته بوجوه من القرية ، تساءل بحيرة في ذهنه

ـ تي هضوم وين يريدو ؟ .

أزعجته بعض الوجوه من المراهقين خاصة ، وكان ينتابه شعور غير مصنّف وهو يراقب الصِّبْية المثرثرين بألفاظ الكبار والمقهقهين بلا خجل ويناوش بعضهم بعضاً .

زفرت الحافلة زفرة قوية وميّدت الركاب الذي هبوا واقفين جميعاً معاً ؛ ثم اندفعوا عند الباب فلاح في ذهنه تدافع أبقاره عند مدخل الزريبة ، دفعته أكتافهم معها إلى خارج الحافلة ، وجد نفسه رغم زحام البنايات والبشر كأنه في خلاء بلا جهات ، وبخريطة حكايات زملائه في القرية توجه إلى سوق الجريد ؛ فكر : سوق الجريد شارع واحد متصل أوله يدل على آخره ؛ فرجحت كفة الاطمئنان في صدره ، تعثر في الأشياء في طريقه ؛ اصطدم ببعض من مضوا في طريقهم دون أن يلتفتوا إليه ، وهو في ذروة الانتباه والتركيز ذكـّرته الروائح العبقة بحجرة جدته ، بعد مسافة أحس فيها بروعة فتوحاته في شوارع المدينة قدّر أنه في منتصف السوق ؛ فعرّج على محل ، تأمل البنطلونات والقمصان المعروضة وراء الزجاج ؛ شعر باطمئنان ختامي كامل تام على توفيق رحلته حين لمح في زجاج عرض أحد المحلات أزياء مألوفة يرتديها بعض أقرانه في القرية ؛ ورغم ذلك قرر أن يشتري لبسة مختلفة ولو في اللون في النهاية ؛ فقال لأحدهم في المحل :

ـ نريد سروال .

فسأله الرجل وهو يلف كيساً لغيره :

ـ أيّن نوع؟ .

فبصم يونس بعرَق سبّابته على الزجاج :

ـ هالنوع هض .

دعاه الرجل ومدّ له بنطلوناً وأفهمه أن يتجه إلى حجرة القياس ، احمرّ وجهه حتى أذنيه من فكرة أن يخلع ملابسه في سوق ؛ ولو من وراء جدار ، دخل الحجيرة ؛ قابلته هيأته كاملة في المرآة ، تأملا بعضهما جيّداً ، بدا له كأنه خارج من محجر ، بلغة الملابس العرْبية الفصحى تحدث إلى ملابسه التي قرر التخلي عنها هذا العيد وتحدثت إليه ، لاح لنفسه في مرآة مخيلته وهو يخفي ارتباك مشيته في الملابس الجديدة مع رفاقه يوم العيد ، عضّ على البنطلون الجديد بأسنانه وتحسس قفل حجرة القياس ؛ دسّ يده تحت قميصه ليسحب تكة السروال ، وتحسس قفل الحجرة ؛ جذب الدكة ، لم تنحل ؛ تحسس قفل الحجرة ، جذب الدكة مرة أخرى أقوى انعقدت ؛ تحسس قفل الحجرة ، حاول شد االدكة بجماع قوته فاستحكمت أكثر ؛ حدج قفل الحجرة ، خلع قميصه وأخذ يعالج العقدة برؤوس أصابعه حتى أحس بفشل في ذراعه ، حدج قفل الحجرة ؛ حاول أن يخفض رأسه ليفك الدكة بأسنانه ؛ حال دون ذلك غلظ عنقه واندلاق كرشه ؛ حدج القفل و شدّ التكة ؛ شدّ شدّ شدّ ؛ دون جدوى ؛ تلوّى ؛ دون جدوى ؛ أحنقته طرقات على الباب فارتدى بعجل قميصه وهو يسمع بعد انقطاع همهمات أناس في المحل ؛ كان جسده قد نضح ببقية ما فيه من سوائل ؛ خرج محرجاً مرتبكاً ماسحاً جبينه بالسروال الإفرنجي ؛ ومتفادياً النظرات ؛ سأله الرجل :

ـ آء ، شنو؟ أكويّس؟ .

تحسس الدكة ولم يجبه ، وخرج ... قاصداً محطة الحافلات .

مرة رابعة ـ بعد النكوص ـ خبر يونس الحيرة بين رفع السروال واستلام الفرّارة في الزحام قدام الجمعية التعاونية الاستهلاكية .

الاثنين، سبتمبر 06، 2010

صيـام






من رمضان



إلى رمضان



كبرت



وأولادُ الجيران




فمن يرسلني كي أسمّع للأذان ؟



يرشّ حمامَ الريف الساكن أبيضَ في ظهر الشيطان



من يأخذ بيدي لصلاة قيام الليل ؟



فأحلم تحت ثريا بيت الله



ملاكاً أخضرَ بين ملائكة الرحمن



من يوقظني نصف النوم ؟



والديك القزحي الذيل يصيح .. يصيح .. بلا ألوان



كي أسّحر كي أذوّق أوّل صوم





يا رمضان !



كعين القهوة




في جفن الفنجان



كنبض الفل




على خد الفنجان



كشفة التمر



كضحك الماء



كقمر الدين



كقمر الناس



كصفحة فاتحة القرآن



اجعلني



أو خذني للعيد



فمنذ زمان



وأنا عطشان جوعان !



الجمعة، سبتمبر 03، 2010

عام الزلزال


لقد صرت أدرك اليوم سر ذلك الحزن الشفيف الذي ينبث في روحي، كلما رأيت طفلاً أنهك قواه بالصيام محاكاة للكبار، أو كلما اضطررت للصيام بعيداً عن بيتنا.


فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً*، كنت مخلوقاً آمناً غريراً حراً بلا هوية، أجهل كم أنا مجهول، وأحسب أن تلك القرية ـ التي هي عبارة عن قلعة إيطالية سابقاً ـ هي كل الدنيا.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً صادف حلول شهر رمضان المبارك فصل الشتاء، وكان ذلك هو أول رمضان أتذوق فيه طعم هذا العذاب اللذيذ لهذه العبادة الروحية المحببة.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً كان لي في تلك القرية أول صديق في حياتي، كان اسمه خليل، علمتني أمي أنه يتيم، وحدثني أبي:


ـ سيدك خليل؛ بات خليل ـ الله يرحمه ـ كان صاحبي، أيام ونحنا صغيرين كيفك وكيف خليل.


وكنا - كلانا خليل وأنا - في الثامنة من العمر، ولكنه كان أطول مني قامة وأكثر مني حيوية، ولم يكن مثلي خجولاً.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي المطر وتحت كافورة القرية العتيقة، حين راحت أوراقها تقاطر علينا حبات من ماءِ المطر كبيرة، كدموع خليل، قال لي وهو يتواثب مثل أم بريم، ليتجنب حبات المطر الباردة التي يقشعر منها بدنه العريان


ـ هيا نصيموا بكرة ؟ .


وحين وافقته وتعانق كفانا نظر إلي بعينين ماكرتين ضاحكتين وأضاف:


ـ رد بالك تبقى ادقْ فيها في حوشكم وتضحك علي.


وقهقهنا معاً وقهقه رعدٌ بعيد .


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي عشية اليوم الأول من الصيام كنت وخليل في شرفة برج القلعة الشرقي، جالسين منهكين كمريضين ينقهان، وكانت آثار المطر على السفوح مرايا مكسرة، والبيوت البعيدة بيضاء تحت خيمة مظلمة من الغيوم، قال لي خليل، وسحيبات بخار الماء سجائر صبيانية:


ـ كذه وريني لسانك ؟ .


وحين أخرجت لساني نظر إليه وقال:


ـ لسانك أبيض، مزبوط أنت صايم.
وفجأة صاح وهو ينظر إلى بعيد، حيث الطريق الملتوي:
ـ هاذك كارو خالي صالح، والله كارو خالي صالح.
وراح بعد أن تقدم حتى شارف على حافة البرج يلوح بيديه ويصيح، وكأن من على الكارو يسمعه، ثم عاد يحدثني عن خاله وجَدته في المرج، وعن البيوت هناك التي تشبه البيوت في قريتنا تماماً، بيت جدته خاصة، وأنه دائماً ما يذهب لزيارة المرج، وأن له هناك أصدقاء وصديقات وبطولات، كان قد أسمعني تفاصيلها كثيراً، لكنْ في تلك المرة أحسست بالغيرة، وبتخليه عني في تجربة الصيام، عندما أخبرني أن خاله آتٍ لينقلهم إلى المرج للصيام مع جدته.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كنت أعدو بمزيج أنفاسٍ وضحكات تتقطع في أثر الكارو، الذي كان يقل خليل وأمه إلى المرج، وأنا أحاول لمس كفه لأودعه رغم زمجراتِ خاله كلما التفت إلينا، وشهقات و وعيد أمه، حتى وجدتُني منبطحاً في غدير، بعد أن زلتْ قدمي فجأة في ركضي، وبعد أن رفعتُ عيني إلى الكارو الذي ابتعد، رأيت خليل يقهقه ويتقلب على سطح الكارو ؛ ولما وقفت حانقاً أتأمل ملابسي بلغني صياحه، فنظرت إليه ثانية فرأيته يرمي إلي بشيءٍ وقع قربي، كان صفارتَه الملونة، فالتقطتها والتهمتها، ورحت ألوح بيدي وأصفر رهنَ مشاعر شتى، وهو يلوح لي، ثم ابتعد الكارو فعلاً، صعد الهضبة، تناهت إلي قرقعاته حيناً فحينا، ثم تدحرج وراءَ الهضبة، فهُرعت إلى البرج وصرت أراقب الكارو الذي أخذ يصغر ويصغر ويصغر، وكانت الريح تصفر وهي تحتك بحواف البرج، أو تزغرد في الكوَى والفجوات، فإذا بي أرتعش، فرُحتُ إلى البيت.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وعلى مدى بقية الشهر المبارك احتفظت ببياض لساني، وفاءً لعهدي مع صديقي الأول خليل، وظل بيت خليل جاثماً بوقارٍ أو حزن كأنه صائم هو الآخر، وظللت أرتاد البرج انتظاراً له.

المشاركات الشائعة