الأربعاء، أغسطس 18، 2010

امّـيّـه حلوة


مبتسماً ابتسامة بلهاء خرج مومن مقتنعاً أنه أقنع زوجته التي استوقفته وسألته:


- ما تقوليش ماشي اتجيب في أميه حلوه حتى السنة ؟.


وذلك عندما أجابها:


- ياستي غير خليها بيني وبينك، قبل ما نريدش نحكيها حتى لك أنت، الفقيه اللي مشيت له لثنين لولي قال لي راها الكتاب طرا لك أميّةْ معطن تشربها أنت وهلك طول رمضان ملهلال للهلال، نين كان هناك شي طعمه ولاّ سحر اسّاع يمتحى .


أما سؤال ابنه الذي جاء أكثر وضوحاً وتعجباً:


- يا باتي عليش اتعّب في روحك لا عند الجبل و أميّةْ النهر الصناعي في الشيشمات!.


فقد أجاب عنه دون توقف:


- تمشي معاي؟، ندّهوروا، وتو نعطيك تسوق الكرهبة.


دربك البرميل البلاستيكي في صندوق الداتسون، ثم أحدث بابُها أصواتاً أبعد ما تكون عن أصوات أبواب سيارة تفتح أو تغلق، وبإحساس ونظرات مقدِمٍ على عمل مريب دوّر المفتاح، فغنغن المحرك غنغنة عميقة واهنة، وومضت مربعات أضواء (الكوادرو) جميعاً وميضاً ضعيفاً، سرعان ما شحب وانطفأ.


- أوف !! زكرييي.. . قال وصفَق (الطبلوني) حتى أثار غباراً، ثم أضاف مشدداً وهو ينظر إلى الولد الذي بدا في عينيه رعب جرو:


- اسمع!، أقربْ جاي !، زِيد، أقربْ جاي حطّكْ في ناي، اتحقْ في المربعات هذين ؟، أهنْ ؟ .أجاب الولد:


- آآآء . فصاح به- اتحق فيهن ولاّ لا؟


فأكد الولد:


- آ انحق فيهن .


فأضاف مومن متنهداً:


- لما يضوي المربع هذْ، الحمر اللي كيف زروط الرقبه قول لي، باهي؟.


فأجاب الولد: ـ باهي .


فأكد مومن:


ـ الضوايا لخرات ما اتعدلش عليهن، فاهمُ؟ .


- فاهم . أجاب الولد.


دفع مومن الباب بكتفه بقوة عدة دفعات ونزل، وعند مقدمة السيارة راح يعالج (كرينتوّات) قيد (الكوفنو) ثم قشعه فأرسل طقطقات متكسرة، وبعد انهماك وعبثٍ بيديه في أمعاء المحرك جاء سؤاله:


- ضُوَتْ و؟.


فرد الولد:


- لا .لا .


برهة ثم برز برأسه من الزاوية الحادة بين (الكوفنو والبرافنقو)


- هـا؟، ضُوَتْ و؟


ورد الولد:


- لا مازال مازال .


فصاح مومن بأعلى صوته:


- ضوتْ. لا مازال. ضوتْ. لا مازال. ضوت. لا مازال.، كله من أمك عطها ملاّل، خلتنا اتقول نلعبو في وابيس، الوليه هذْ لازم كل ما اتحقني متسقد متوكل علي ربي اتعيّطْ وراي، متمني بس ياربي شي مرة نبلط مالحوش قبل لا تفطن لي، آه هَهْ غير بس أيش خلّطْ رحيلي عليْ رحيلها .


- ضوتْ ضوتْ ضوتْ ياباتي .


جاءت صيحات الولد، فاستفهم مومن:


- الحَمْرَهْ؟.


فرد الولد:


- آ الحمره .


فقال مومن:


- باهي باهي، وطـّي حسكْ راك اطفّيها وشرع يُنزّل (الكوفنو) ببطء، فكشف عن وجهه فصدره فكرشه، وبحذر شديد أعاد شبْك (الكرينتوات)، ثم باحتراس سعى إلى كرسي القيادة، ثم بهمس أمر الطفل:


- إزّاحا غادي،غادي، وانزلْ بشويش.


فاستفهم الولد:


- موش قلت لي تو اتسوق؟.


فرد مومن بالصياح معضوضاً عليه:


- تو ما انسوقك إلا ابكفّ، اتحق فيه وقت سواقه توا؟، انزل دفّ معاي، امغير إن شا الله تولع هالقرباعة هيْ لوّله، انزل سقدْ روحك.


ولم يكادا يضعان أكفهما على جسم السيارة لدفعها حتى توالى المنجدون يدفعون ويكتـّون وهم يصلون على النبي، وينشز وسط ذلك صوت أخن ألثغ قائلاً:


- بالـتم غاها بنزينه ياعغب، السياغة اللي لا توّا ما ولعت تقغيباً ما تبقى إلا بنزينه.


لكن السيارة الهالكة ولعت، وكأنما رداً على سوء تقديره، وجعجع محركها جعجعة قوية من (مراميته) كلها خروق، وتركته والمنجدين وسط الشارع، مشكورين ضمناً، مدعوّاً لهم برحمة الوالدين بتلويحة من ذراع مومن، تلك الذراع التي ما إن خلصتْ السيارة من زحام الحي إلى فضاء البر، حتى أسند مرفقها على حافة نافذتها وراح يرسل أنين غنّاوة علم عن العطش، تناهبها ضجيج المحرك وتدفق الرياح من الشبابيك والفجوات، وفواصلُ من تنبيهاته وتحذيراته لابنه، وإجاباتُه العالية لبعض أسئلته عن اسم هذه القرية أو ذلك المبنى أو تلك الطريق أو نوع تلك وتلك وتلك السيارة التي اجتازتهم.


ولمّا بلغ بعد تعثر ولأي ٍ مشارفَ الغناوة، لاحت له التبّة الرمادية للبئر الذي اعتاد منذ ما يعادل أكثر من نصف عمره من رمضانات، أن يشرب ماءَها، أو منذ الساعات السعيدة الأولى لشرائه الداتسون من الدّار جديدة( نووف) بالكمبيالات إلى تاريخ حرمانها حتى من الحديث عنها باسمها.


انعطف عن الطريق الى (البيستا) دون (فريتشه)، فور أن فكّ (المارشهْ) كزناد طراز بندقية قديم، وراح وهي تقرقع يدكُّ "الفرينـّو" المرتخي العضلات، ثم صعّد بها التـّبة، فعلِقتْ، فأمر الولد:


- اقربْ جاي، اسمع، شوف، اتحق في لفرينـّو ؟، أهو هللي في النص؟، هللي واطي عليه نا بيدي بكراعي، اعرفه حتى هو، مانك تريد اتعلم السواقة !، توّا لمّا نا بيدي انحوّلْ كراعي حط أنت كراعك عليه عَلَيْ طول، وما اتحوّلَشْ نين انجيك، وبكراعك ليمين ابقى شَرْيِلْ شريل شريل، أهو الشرياتوري !، رد بالك، اتوقف شَرْيِـلَهْ تطفا القرباعة، اتحوّلْ كراعك تدردح الخاربة، فَرد بالك، مع إني امدرسّـا عليْ علوَهْ لكن لحتياط واجب، هَيْ .


ودار مومن حول السيارة وسحب البرميل دون أن يكف عن تحذير الولد، ثم اتجه نحو البئر وانحنى عليه وكشف غطاءه وأدلى دلوه وراح يملؤه، خَليّ البال من همّ السيارة مدندناً بأغاني الأجداد الرعاة السقاة وقتـاً، ثم رجع يترنح بالبرميل الثقيل، ورفعه إلى الصندوق وأحكم ربطه، ثم آخرُ تحذيرٍ للولد، ثم أعاد عليه ذات خطته في المحافظة على الدورة الكهربية لمحرك السيارة، ثم انطلق بسعادة ليس بوسعها أن تعرب عن نفسها إلا من خلال بريق في عينيه، غير أنها كانت سعادة مشوبة بقلق وتشاؤم من تجارب شتى سابقة، مع الحلوتين "الميّهْ" والداتسون .


من أشهرها رحلته الوحيدة والمغايرة لسنته، إذ عاد من الجبل الأخضر تلك العشية الرمضانية، مواجهاً الشمس ومغالباً النعاس ومجاهداً الصيام ومكافحاً آلية الداتسون، عاد بجلّوني لبن، تلذّذ عميقاً حتى ناوش حرمة الصيام بتصوره نفسَه يعبّ منه كوبين على الآذان، ثم كوبين فور الإفطار، ثم كوبين مع كسرة "خبزة تنور" على جلسة شاي ما بعد التراويح، ثم كوبين في السحور، ثم كوبين على حافة الإمساك، إلا أن امرأة وصِبْية لاحوا على جانب الطريق يعزلون عنزاً ثم يحاصرونها وتتقرفص البدوية لحلبها، مشهد أغراه بإيقاف الداتسون للفرجة، حتى انتبهت له المرأة بعد الأولاد فدعته:


- تفضل يا ترّاس، بالك راك تريد حليب؟.


فقال في بطنه:


- "واللهِ....، لكن ما تلطمش يا مومن" .


وحليب الماعز شيء آخر غير اللبن"صحيح اللبن خيرهْ، ما معاه لا عطش لا جوع، وطفّاي لحرار المحشي، ومسّاح لدهان الطواجين، بس مشكلته يخليك طول النهار مغير تصبغ في الوضو"واضطر بعد أن لم يجد وعاءً آخر إلى سكب اللبن في كيس بلاستيك وربطه في مقبض الباب"لكن حتى حليب المعيز!، هابا عليْ حليب المعيز!، دوا ما كيفه دوا، لاجل كلّه من أفواه الغابة، وبعدين عيب وليّة بدوية وعزمتْ عليك، لا تحرمها شي ملأجر في هالشهر الفضيل"واستلم جلوني الحليب وهو يردّد:


- كثّرْ درّهنْ واذهبْ شرّهن، يا اللهْ يا البهايم اجعل خيركن دايم .


وبرمج كما اللبن حليبَ الماعز على فترات وكوبين كوبين على جرعات.


ثم إن أحد أمرين قد حدث : إما أن العصر قد حان، وإما أن الراعي الذي كان عند بئر يسقي أبقاره قد لاح له، فعرّج ليتوضأ ويؤدي فرضه على صفا مرقشة بالأشنات تحت قبة السماء مباشرة، ومن ثَم راح - وهو يسبّح - يراقب انسكاب أغنية الماء من شفة الدلو المطاطي في ذهب ضياء العصر، فإذا به ينهض ويتجه إلى الداتسون ليمزج شيئاً من حليب الماعز ببقية من اللبن في الكيس، وملأ جالونيّه بـ الميّه الحلوهْ- "حط الحليب عاللبن، مو اللبن أصله حليب، والحليب صيّوره لبن، وعَـبِّي جالونيّك أميةْ معطن ، راه الملح كلا مصارينك ".


بعد تلك التعريجة لم تتقدم الداتسون إلا بعض الأمتار، وجد بعدها مومن نفسُه نفسَه يتقدم إلى وسط الطريق، ملوّحاً بالجالون للسيارات طلباً للبنزين.


كان هذا في تلك الرحلة، أما في هذه فإن مومن لم يصل الشارع حتى كان عداد البنزين كما يتمنى مومن أن يكون عداد الحرارة، وعداد الحرارة كما يتمنى مومن أن يكون عداد البنزين، أما البرميل الذي صبّ وصبّ وصبّ منه كثيراً في (رادياتوري) الداتسون، طوال طريق الإياب، فكان خالياً إلا من بعض لتر؛ دفعه مومن إلى جوفه على عتبة البيت مع ارتفاع الأذان.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة