الأحد، ديسمبر 05، 2010

عن البيت


البيت يحمي أحلام اليقظة . ..إن الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة تعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديدة . ونظراً لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة ، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة . البيت هو ركننا في العالم . إنه كما قيل مراراً ، كوننا الأول . كون حقيقي بكل ما للكلمة من معنى . وإذا طالعنا بألفة فسيبدو أبأس بيت جميلاً . في حياة الإنسان ينحّي البيت عوامل المفاجأة ويخلق استمرارية . ولهذا فبدون البيت يصبح الإنسان كائناً مفتتاً ، إنه ـ البيت ـ يحفظه عبر عواصف السماء وأهوال الأرض .
البيت جسد وروح ، وهو عالم الإنسان الأول .


إن رسم صورة مبالغ في جمالها للبيت تلغي ألفته ، ويصدق هذا على الحياة ، ولكنه أصدق ما يكون في أحلام اليقظة ، إن البيوت الحقيقية للذاكرة ، البيوت التي نعود إليها في أحلامنا ، البيوت الثرية بأحلام اليقظة ، لا تمنح نفسها بسهولة للوصف ، فوصفها يشبه أن نفرج الزوار عليها .

إن سمات المأوى تبلغ حداً من البساطة ومن التجذر العميق في اللاوعي يجعلها تستعاد بمجرد ذكرها ، أكثر مما تستعاد من خلال الوصف الدقيق لها .


بغض النظر عن ذكرياتنا فإن البيت الذي ولدنا فيه محفور بشكل مادي في داخلنا . فسكنى البيت الذي ولدنا فيه ـ حلمياً ـ يعني أكثر من مجرد سكناه في الذاكرة ، إنها تعني الحياة في هذا البيت(الذي زال) بنفس الأسلوب الذي كنا نحلم فيه .


يشحن البيت الذي ولدنا فيه بقيم الحلم التي تبقى بعد زوال البيت ز تتجمع مراكز الوحدة والضجر والأحلام لتشكل بيت الأحلام وهو أكثر ديمومة من ذكرياتنا المتشتتة عن البيت الذي ولدنا فيه .


يشكل البيت مجموعة من الصور التي تعطي الإنسانية براهين وأوهام التوازن .


لو كنت مهندساً لبيت الأحلام فلسوف أتردد بين بناء من ثلاث طوابق أو من أربعة ، فالبيت المكون من ثلاثة طوابق هو الأشد بساطة فيما يتصل بالارتفاع الجوهري . يمتلك قبواً أو طابقاً أرضياً وعليّة ، في حين البيت المكون من أربعة طوابق يضع طابقاً بين الطابق الأرضي والعلية . وإذا أضفنا طابقاً آخرَ فإن أحلامنا تتضبب . في بيت الحلم يستطيع مسحنا التحليلي أن يعد لثلاثة أو أربعة .


أي عمق خاص يوجد في حلم يقظة الطفل ! ، وما أسعد الطفل الذي يمتلك لحظات وحدته . إنه أمر جيد بل ومطلوب أن يكون للطفل لحظات ضجر ، لأن يتعلم الجدل بين اللعب البالغ الإمتاع والضجر الخالص الذي لا سبب له . يحكي لنا (الكسندر دوما) في مذكراته أنه عندما كان طفلاً كان يعاني من الضجر إلى حد البكاء ، وعندما لقيته أمه يبكي سألته (ما الذي يبكي دوما ؟) فأجاب الطفل ابن السادسة (دوما يبكي لأن لدوما دموعاً ) . ومثل هذه الحكايات يرويها المشاهير عادة في مذكراتهم ، ولكنها توضح الضجر المطلق ، الضجر الذي لا ينتج عن مجرد افتقاد رفاق اللعب . هناك أطفال يتخلون عن اللعب لينصرفوا إلى زاوية في حجرة السطح يمارسون ضجرهم فيها . لكم أشتاق إلى علية ضجري عندما تجعلني تعقيدات الحياة أفقد بذرة الحرية ذاتها .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جماليات المكان لغاستون باشلار . ترجمة غالب هلسا

المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . الطبعة الثالثة . 1987م .

السبت، نوفمبر 27، 2010

عائشة والجدار



الجدار الطيني القديم بشكله المتداعي كان يعلونا بكثير ، كم وقف سداً عنيداً أمامنا يمد لسانه .. يدعونا إلى اللعب أو يقصره فينهي جلساتنا ويبطل لهونا ، هكذا حين يمد ظله الكبير ، أو حين يحجبه في تجاويف الأحجار الترابية المتآكلة ، أو حين يبتلع الكرة لينهي لعبة ويجبرنا على لعبة أخرى .


( عائشة ) المرأة الجميلة صاحبة الجدار ، كلت من رد الأشياء التي نقذفها وراء الجدار ، فتتساقط بجوارها وحيناً تصيبها ، وحيناً ما تفسد أشياؤنا غناءها الجميل ، وحيناً تطل علينا من وراء الجدار ، وتقذف بأشيائنا التافهة ، وحين كلت صارت تحجب الكرة عنا وتطردنا .


لقد كنا نفسد عليها وحدتها ، وننتهك الصمت الذي تحبه ، بأن صرنا نحفظ غناءها ونردده ومن دون أن نعرف مغزاه ، لكننا حين رأينا أمهاتنا تعض على الشفاه حين تسمع مانردده من أغان ، اكتشفنا في ( عائشة ) مكمن خطيئة من دون أن نعرف للخطيئة سبباً .


ومنذ ذلك اليوم صارت ( عائشة ) لعبتنا ، صرنا نتسلق الجدار ، ونطل برؤوسنا الصغيرة ، فنرى ساقيها ممدتين . فيستبد بها الغضب وتقف تطردنا ، فنهرب بعيداً ، لنتسلل بعد لحظات إلى ظل الجدار ، ونختار لعبة صامتة مكتفين بغناء ( عائشة ) الجميل ، كان جميلاً على الرغم ما ألصق به من خطيئة ولايخلو من نبرة حزن .


ظل الجدار يحجبنا ويحجب ألعابنا عنا ، ونحاول في كل مرة تكبد مشقة تسلقه ، لكي تمتليء عيوننا بشعرها الغزير وأنوفنا بعطرها النفاذ ، وفي بعض الأحيان تمد قوامها ....... فيعلو الجدار ، فتحبط محاولتنا ، واليوم حين عرفت سر الغناء وقفت بجوار الجدار ، ووضعت راحة كفي على أعلى حجرة فيه ، ونظرت بارتياح إلى ماوراء الجدار فرأيت بقايا إمرأة ، لم تبدل جلستها منذ ثلاثين عاماً ، وكان الزمان قد أطفأ نضارتها وسرق صوتها الجميل ، إنها تستسلم لنظراتي فأرى ساقين جافتين .... ولم تفعل شيئاً .......... ، صارت هدفاً مكشوفاً تنظر إلي نظرة العاجز اليائس ، إنها إمرأة لايمكنها الوقوف منتصبة ، لقد صار الجدار يعلوها ، صغرت ( عائشة ) وكبر الجدار ، كانت أكبر من الجدار ومنا ، واليوم نحن أكبر من الجدار ومنها .. الفرصة مهيأة لأن يلعب الأطفال ، ولكن من يضمن لنا نحن الكبار ألا نعود صغاراً ؟! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من المجموعة القصصية (اللعبة) بموقع القاص سالم علي العبار

الجمعة، نوفمبر 26، 2010

حجّة أمّي



ظلت أمي عاماً كاملاً تسرد بنشاط وفرح وتفصيل سندباديّ قصّة رحلتها إلى بيت الله الحرام ، رحلتها الأولى في حياتها .

فمنذ الخمس وستين سنة التي مضت من عمرها عاشت حبيسة مساحة الأنثى القروية : المطبخ ؛ فإن خطت خطوة فإلى المربوعة لترتيبها من فوضى يخلفها الرجال حول القصعة أو حول الكارطة ، فإن خطت خطوة ثانية فإلى فناء البيت الذي دنسه الدواجن والبهائم ، فإن ابتعدت فإلى بيوت القرية ـ حيث كلّ قبيلتها ـ لتعدّ الولائم في المناسبات .

لأول مرة طوال تاريخ تطور وسائل النقل من الأنعام إلى الكاروات إلى السفن إلى القطارات إلى السيارات إلى الطيارات تسافر هذه المرأة الساذجة الموشمة الوجه والذراعين ؛ في حافلة وباخرة وطيارة على التوالي ، إلى الجبل الأخضر فإلى طبرق فإلى السلوم فإلى أم الدنيا ، ثم إلى أين ؟ إلى مكة المكرمة حيث بيت الله والمدينة المنورة حيث قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وزمزم ، أماكن ومشاهد لم تكن سوى أسماء في مخيلتها لا حتى أحلامها ، فأية تجربة هذه لأمرأة هي هذه ؟ ، المرأة التي حملتنا في بطنها واحداً واحداً تسعة أشهر ، وعامين في حجرها أو على صدرها أو على ظهرها ولا تزال تحملنا في قلبها ، وعاشت عصراً حمّالة لأشيائنا وحاجاتنا وأخطائنا ، نحملها نحن هذه المرة إلى المصوراتي لتسلم ارتباكها وعفويتها لشاب مزركش الثياب يأمرها :

ـ إرفعي رأسك فوق شوي ياحاجّة ، لأ. لأ لوطا شوي ، آيْ وهْ ، ردّي بالك اتحركي ولاّ ترمشي عيونك ، واحد اثنين ثلاث .

ـ خلاص يا بوي؟

ـ خلاص يا حنّي.

ـ أوّين تصْورْتي عَيْد؟

ـ ساعتين بس وتكون جاهزة ، هَيْ تفضلي بالسلامة.

ثم إلى الجوازات :

ـ هَيْ ابصمي ياحاجة.

ـ وين يابوي؟.

ـ هَنْ ياحاجة ، لا لا لا ياحاجة هَنْ هَنْ ، آي وه بالزبط .

ثم إلى الهلال الأحمر:

ـ وعليش جرحتـّم لصبْعي ؟ .
ـ مرات تستحقي إلدم .

ـ نسمعو نسلمو انشالله ، نا ماشية البيت الله ولاّ الحرب ؟ ، سوّهم في دوّهم.

ثم إلى المصرف لتستلم المنحة:

ـ هذا هو البنك و؟.

ـ إي نعم هذا هو.

ـ انشا الله ابطَولةْ عمري ؛ هذا وين عمري ريته .

ـ إي وا عليك بو زفر ياحاجة.

ثم إلى السوق : لشراء حقيبة وصاكـّو يُكتب عليهما بالخط العريض اسمها مضافاً إليه لام أليف لتميزهما هي عن سواهما ، ثم لتملأهما هناك بالسّبَحْ والصلايات والبخور والمعارق الصفر والسواري والعقود والصوّرات والساعات والبنادق للأطفال.

الطارقون الباب يسألون عنها يريدون أن يروها قبل أن تسافر ، والحالـّون بيننا يتحدثون إليها ، والهاتف يرن لينقل إليها أصوات المباركين والأمنيات بالسلامة أو الاعتذار عن عدم حضور الحفلة .

ـ أمتى متسقدين يا حاجة إنشاالله ؟ . سلمي لنا علي رسول الله ياحاجة ، . راكي تنسينا مالدعاء ياحاجة . ردّي بالك من روحك يمّي . راكي تنسي موعد الدوا . اللي ما تقدري عليها إدّيها . ردي بالك من زحمة أيام الرجم . الضرب عالنيّة يا حاجة . صوّارة حقيقية يا حنّي.

وتدور الأحاديث وتدور وتدور لكنها تعود إليها كما ابتدأت منها .

ثم عانقناها وقبلنا يديها ورأسها ومزجنا دموعنا بدموعها ؛ و وجدنا رائحتها الطيبة فائحة في شحنة لحظة الوداع تلك ، ثم حملناها مثل عروس في موكب صاخب بالدرابيك والأكف المصفّقة والزغاريد ومزامير السيارات ، ورجعنا واجِدين ، وركزنا لها راية بيضاء دعمناها في وجه الرياح ؛ وحرسناها من العيون بأعيننا.

فماذا فعل كل هذا الاهتمام بقلبها الكبير يا تـُرى ؟ وفي أي تجربة مفاجئة وضخمة ودفعة واحدة أقحمناها ؟ بعد إهمال ولا مبالاة وأنانية أولاد دامت ستين عاماً ؟ ، تبارك من فرض الحج ؛ وسلام على من أذّن به في الناس أول مرة ؛ والحمد لله الذي وضع أول بيت للناس وجعله مباركاً ، ثم الحمد لله ولو من أجل تلك الفرحة الغامرة التي بُثّت في روح وكلمات أمي ، وفاضت في محيّاها بنور أعاد إليه بمعجزة ربّانية ما سلبه الزمن من رونق وحيوية وشباب ، عام من الثرثرة المغتبطة البهيجة عن رحلة كأنما لم يذهب معها أحد ، أو كأن الملايين الذين رأتهم هناك إنما أقبلوا لكي يلتقوا بها هي ، نعم أمي ذهبت هي أيضاً مثلما ذهب جدي شيخ القبيلة منذ أربعين سنة وخالي المدير وزوجته منذ خمسين .

في المحطات والبوابات والاستعلامات كان يُنادى على اسمها وكاملاً "أم السعد سعيد علي مفتاح" .

ـ في التابوس ـ تقول ـ طول الطريق ونا واعية ؛ ونشوهي للولد السوّاق وقرينه اللي يعاون فيه ، والحقيقة اشهدوا لي شهادة سمحة ، قالوا للزابط أوّلْ ما اتسقّدْ أوراق الحاجة نفّاقتنا البدوية هذْ .
ـ أوغادي ـ تضيف ـ وينما جينا حصّلنا شقة سمحة في بالاص قريّبْ مالشيطان الكبير.فيقول لها أبي : ورجمتيه الشيطان ؟ فتجيب إي والله ، فيعلق : يا مرقد ريحه الشيطان اللي رجمتيه حتى أنت .

ـ او في مكة جميع الحجاج لاخرين حتى ملْ لسلام النصارى يقولو لي مرحبه يا ليبية مرحبه ياليبية ، مَو عَيْد نا كنت لابسة الردا لبْيَض المخربش ، هضا هو اللي كانن الحاجات لوّلات ايحجن بيه ، كَلاّ الجلابيب السّود هذين ما كنا نعرفوهن بلكل ، ماهن شي لنا نحنا يا الليبيات .

عام قمريّ تام ، وكل موقف يذكـّر أمي بموقف في رحلتها ، وكل كلمة تذكّرها بكلام قيل هناك ، وكل موضوع تفتحه بقولها : في مشيتي للحج في حجّتي ، إلا أنني مع اقتراب حول حجتها لاحظت فتوراً في حماسها وهي تسرد ذكريات حجتها ، تحوّل فيما بعد إلى ما يشبه الحزن الشفيف ، ثم لم أعد اسمع منها حرفاً يتعلق بالحج ولا بغيره ، وبدتْ وسط صخب إعدادنا لحفلة حجة عمتي صامتة تقريباً .

الاثنين، أكتوبر 25، 2010

أيها الخبز


أيها الخبز
من الطحين والماء والنار تربو
كثيفاً خفيفاً متسعاً مستديراً
إنك صنو لبطن الأم
أيها النبت الأرضي المعتدل
أيها الخبز
كم أنت سهل وعميق
على خشبة الفرن البيضاء تمتد صفوفك
كالأدوات كالصحون أو كالأوراق
وفجأة تغمرك موجة الحياة
وامتزاج البذرة بالنار
فتربو وتربو فجأة
كقامة كفم كنهد
ومن هضاب الأرض والحيوات
تتصاعد الحرارة ، وريح الخصب
وعندئذ يتجمد لونك الذهبي مخصباً أشكالك
وتطبع الجراح السمراء
لذعتها على أرغفتك المذهبة المستديرة
والآن ها أنت ذا مكتمل
يا صنيع الإنسان
يا معجزة تتكرر
يا إرادة الحياة
أوه! ... يا خبز كل فم
إننا لا نستجديك استجداء
فالناس ليسوا متسولين
أمام الآلهة الغامضة
أو الملائكة القاتمة

* * *
من البحر والبر سنصنع خبزاً
سنزرع القمح على الأرض وفي الكواكب
وخبزَ كلّ فم ، كلّ إنسان ، سيأتي كل يوم
لأننا سننطلق لنزرعه ، ولنصنعه
لا لإنسان واحد
بل لكل الناس
الخبز ، الخبز لكل الشعوب
ومع الخبز كل ما له شكل الخبز وطعمه
لكل الشعوب : الأرض والجمال والحب
فلهذا كله طعم الخبز ، وشكل الخبز ، ونبت الطحين
لقد وجد كل شيء ليوزع ، ليُعطى ، ليتضاعف
ومن أجل ذلك ، إذا هربت أيها الخبز من بيت الإنسان
وإذا خبئوك وأنكروك
وإذا دنسك البخيل واحتكرك الثري
وإذا لم ينشد القمحَ الثلم والتراب
فإننا أيها الخبز لن نتضرع إليك
ولن نستجديك
بل سنناضل من أجلك مع الناس الآخرين
مع الجياع
لن نذهب لنفتش عنك في أعماق الأنهار وطبقات الهواء
بل سنزرع الأرض كلها لتستطيع أن تنبت
وستتقدم الأرض معنا
وسيناضل معنا الماء والنار والإنسان
سننطلق متوجين بالسنابل
كاسبين الأرض للجميع والخبز للجميع
وستغدو الحياة عندئذ كالخبز
بسيطة ، عميقة ، خصبة ، صافية
وسيكون للكائنات كلها حق في الأرض
وحق في الحياة
وهكذا سيكون خبز المستقبل
خبز كل فم
خبزاً مقدساً مباركاً
لأنه سيكون ثمرة أقسى وأطول نضال إنساني
إن الانتصار الأرضي لا أجنحة له
ولكنه يحمل خبزاً على كتفيه
ومن أجل أن يحرر الأرض
يطير باسلاً كخبّازة يجرجرها الريح .

ـــــــــــــــــــــ
بابلو نيرودا
ترجمة أحمد سويد

السبت، أكتوبر 23، 2010

مرثية مُُُصارع الثيران






النطحة والموت












في الخامسة عند المساء
كانت تمام الخامسة عند المساء
حمل طفل الغطاء الأبيض
في الخامسة عند المساء
قفة جير كانت جاهزة
في الخامسة عند المساء
الباقي موت ولا شيء غير الموت
في الخامسة عند المساء
طيّر الريح الأقطان
في الخامسة عند المساء
الصدأ زرع البللور والنيكل
في الخامسة عند المساء
تتصارع فعلاً الحمامة مع الفهد
في الخامسة عند المساء
فخذ مع قرن ثور
في الخامسة عند المساء
بدأت أصوات الوتر السميك
في الخامسة عند المساء
في الزوايا نقف حشود الصمت
في الخامسة عند المساء
الثور وحده مرتفع الهمة
حين جاء عرق الثلج
في الخامسة عند المساء
حين كسيت الحلبة باليود
في الخامسة عند المساء
والموت فرّخ في الجرح
في الخامسة عند المساء
في تمام الخامسة عند المساء
تابوت بعجلات كان هو السرير
في الخامسة عند المساء
وعظام ونايات تتردد في أذنيه
في الخامسة عند المساء
ويخور الثور من جبهته
في الخامسة عند المساء
الغرفة ملونة بألوان النزع الأخير القزحية
في الخامسة عند المساء
الغنغرينا قادمة من بعيد
في الخامسة عند المساء
أبواق الزنبق للحالبين الأخضرين
في الخامسة عند المساء
الجراح تحرق مثل الشموس
في الخامسة عند المساء
الحشود تهشم النوافذ
في الخامسة عند المساء
في الخامسة عند المساء
آه يا لهول الخامسة عند المساء
كانت الخامسة في دورة كل الساعات
كانت الخامسة في ظل المساء







الدم المسفوح






لا أريد أن اراه
قل للقمر أن يأتي
وإني لا أريد أن أرى دمَ انياتزو مسفوحاً فوق الحلبة
لا أريد أن أراه
القمر في تمامه
جواد الغيوم الهادئة
وحلبة الحلم الرمادية
مسيجة بأشجار البان
لا أريد أن أراه
ذاكرتي تحترق
قولوا للياسمين
بزهيراته البيض
لا أريد أن اراه
بقرة العالم القديم
تمرّ بلسانها الحزين
فوق وجه مخضب بالدم
المسفوح فوق الحلبة
وثيران غيساندو شبه موت وشبه صخر
تخور خوار قرنين من الزمن
مرهقة من الضرب في متاهات الأرض
لا
لا أريد أن أراه

وفوق الدرجات صعد انياتزو
حاملاً كل ثقل موته فوق ظهره
باحثاً عن الفجر
ولكن الفجر لم يبزغ
كان يبحث عن صورته الجانبية الواثقة
ولكن الحلم يشقيه
كان عن جسمه الجميل
فوجد دمه المراق
لا تطلبوا مني أن أراه
لا أرغب في سماع التدفق
يتناقص كل حين
هذا التدفق الذي يثير
الدرجات وينقلب
فوق مخمل الجموع الظامئة وجلودها
التي تهتف بي أن أتقدم
لا تطلبوا مني أن أراه
لم تغمض عيناه
حين رأى القرنين يقتربان
ولكن الأمهات الرهيبات
رفعن رؤوسهن
ومن الحظائر هبت ريح من الأصوات الخفية
تصرخ بالثيران السماوية
قطعان الضباب الشاحب

لم تعرف أشبيلية
أميراً يمكنها أن تقارنه به
ولا سيفاً مثل سيفه
ولا قلباً أصيلاً مثل قلبه
كنهر من الأسود
كانت قوته العجيبة
وكتمثال مرمري
كان حكمته المتوازنة
نفحة من روما الأندلسية
تعطر رأسه
حيث كانت ابتسامته
ناردينا من الملح والذكاء
ما أعظمه من مصارع في الحلبة
ما أروعه من جبلي فوق الجبال
وما أرقه مع السنابل
وما أقساه مع المهاميز
ما ألطفه مع الندى
ما أبهره في المحافل
ما أرهبه مع آخر مهاميز العتمة

هيهات إنه نائم نوماً أبدياً
إن الطحالب والأعشاب
تفتح زهرة جمجمته
بأصابع واثقة
ودمه يتدفق
مغنياً عبر الغياض والمروج
منزلقاً على القرون المنتصبة
متعثراً بألف قبقاب
مثل لسان طويل حزين قاتم
لكي يشكل بئراً الاحتضار
قرب الوادي الكبير وادي النجوم
آه يا جدار أسبانيا الأبيض
آه يا ثور الشقاء الأسود
آه يا دم انياتزو الدفاق
يا بلبل عروقه
كلاّ
لا أريد أن اراه
ليس هناك كأس يحويه
ولا طيور خطاف تشريه
ولا جليد نور يجمده
ولا أغنيات ولا طوفان الزنابق
ولا بللور يمكن أن يكسوه بالفضة
لا . ولا أريد أن أراه .








جسد حاضر







الصخرة جبهة تنتحب فوقها الأحلام
بلا مسارب مائية ملتوية
ولا سرو مقرور
الصخرة كتف يحمل الزمن
بأشجار الدموع والأشرطة والكواكب
رأيت أمطاراً رمادية تهرع نحو الموج
رافعة أذرعها الرهيفة المثقوبة
كي لا تحبسها الصخرة
التي تفك الأطراف دون أن تشرب الدم
ذلك أن الصخرة تجني البذور والغيوم
وهياكل القبرات
وذئاب العتمة
ولكنها لا تهب أصواتاً ولا بللوراً ولا ناراً
ولكن حلبات وحلبات ومزيداً
الحلبات الخالية من الأسوار

وهاهو الآن انياتزو
الحسيب النسيب
يرقد فوق صخرة
ها هو قد انتهى
ماذا يحدث ؟
تأملوا هيأته
لقد غطاه الموت بكبريت شاحب
وثبت فوقه رأس ثور صغير غامض
لقد انتهى والمطر يتسرب إلى فمه
والريح كالمجنون تحفر صدره
والحب المبلل بدموع الثلج
يلتمس الدفء فوق قمم الحظائر
ماذا يقولون ؟
صمت عفن يهيمن
نحن مع جسد حاضر يتلاشى
في هيأة صافية كالعنادل
ونحن نراه يمتلئ
بثقوب ليس لها قرار

من الذي يجعد الكفن ؟
ليس صحيحاً ما يقول
هنا لا أحد يغني ولا أحد يبكي
في الزاوية
ولا أحد يغرز المهاميز أو يخيف الثعبان

هنا لا أريد شيئاً سوى العيون المستديرة
لكي أرى هذا الجسد دون راحة ممكنة

أريد أن أرى الرجال ذوي الأصوات القاسية
أولئك الذين يروضون الخيول
ويهيمنون على الأنهار
الرجال الذين تجلجل هياكلهم العظمية ويغنون
بفم ملئ بالشمس والحصى
هنا أريد أن أراه أمام الصخرة
أمام هذا الجسد المقطوع الأعنة
أريد أن يدلوني على منفذ
لهذا القائد المشدود على الموت
أريد أن يعلموني أغنية
متدفقة مثل النهر
موشحة بالغيومالحلوة
والضفاف الجميلة
حتى تحمل جثمان انياتزو
الذي يضيع
دون أن يصغي إلى أنفاس الثيران
إنه يتوارى في الحلبة المستديرة للقمر
التي تبدو حين تكون ودطفلة متوجعة
وحشاً ثابتاً

يتوارى في ليلة لا يتردد فيها غناء الأسماك
وفي الغابة البيضاء للدخان المتجمد

لا أريد أن يغطى وجهه بالمناديل
لأنه سيعتاد الموت الذي يرحل به
لترحل يا انياتزو. انس الحوار اللاهب
نم . حلق . استرح .
حتى البحر يموت .








روح غائبة







لن يعرفك الثور ولا شجر التين
ولن تعرفك الخيول ولا النمال في بيتك
لن يعرفك الطفل ولا المساء
لأنك رحلت إلى الأبد
لن يعرفك ظهر الصخرة
ولا الحرير الأسود حيث سيتحلل جسدك
ولن تعرفك ذكراك الصامتة
لأنك رحلت إلى الأبد
سيأتي الخريف
بقواقع حلازينه
وستأتي عناقيد الضباب
وحشود الجبال
ولكن لن يرغب أحد في رؤية عينيك
لأنك رحلت إلى الأبد
لأنك مت إلى الأبد كسائر أموات الأرض
كسائر الأموات الذين يُنسون في ركام من الكلاب الهامدة
لا أحد يعرفك . كلا !
ولكني سأغنيك
أغني اللفتة الجانبية من محياك
ولطفك
والنضج العظيم لألمعيتك
شهيتك للموت وطعم فمك
والحزن الذي كان لبهجتك الشجاعة

سيتأخر كثيراً عن الميلاد
ـ هذا إن ولد ـ
أندلسي في مثل صفائك
وفي مثل غناك بالمغامرة

إني أتغنى بأناقته بكلمات تنتحب
وأذكر نسماً حزيناً يسري بين أشجار الزيتون














ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ






شعر فيديريكو غارسيا لوركا






ترجمة خليفة التليسي

الثلاثاء، أكتوبر 05، 2010

بربارا


أتذكرين بربارا ؟
كانت تمطر بلا انقطاع ذلك النهار فوق "بريست"
وأنت تسيرين مبتسمة
مفتحة .. مخطوفة .. مبللة
تحت المطر
أتذكرين بربارا ؟
كانت تمطر بلا انقطاع فوق بريست
حين تقاطعنا في شارع "سيام"
كنت تبتسمين
فابتسمتْ

بربارا !
أتذكرين ؟
أنت يا من لا أعرفها
أنت يا من لا تعرفني
ومع ذلك أتذكرين ذلك النهار ؟
فأنا لن أنسى ..
رجلاً كان يحتمي تحت بوابة
ويناديك : بربارا !
فتهرعين إليه تحت المطر
مبللة .. مخطوفة .. مفتحة
وتلقين بنفسك بين ذراعيه
أتذكرين ذلك بربارا ؟

لن أنسى
ذلك المطر العاقل السعيد
على وجهك السعيد
على تلك المدينة السعيدة
ذلك المطر فوق البحر
وترسانة الأسلحة
وباخرة "ويسان"

آه .. بربارا
أي بلاهة هي الحرب !
أين أنت الآن ؟
تحت مطر الحديد والنار والدم
وذاك الذي كان يطوقك بذراعيه مشغوفاً
أميت هو الآن ؟ مختف ٍ ؟ أم لا يزال حياً ؟

آه بربارا !
إنها تمطر بلا انقطاع فوق بريست
كما كانت تمطر من قبل
ولكن هيهات فكل شيء أصبح دماراً
إنه مطر الحداد المفزع الأليم
ليس ثمة بعد
حتى ولو عاصفة من حديد ودم
غير بضع سحابات تنفق مثل كلاب ..
كلاب تختفي
مع خيوط الماء فوق بريست
ثم تذهب تموت بعيدا
بعيداً .. بعيداً جداً عن بريست
التي لم يبق منها شيء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاعر الفرنسي جاك بريفيير . ديوان : كلمات .
ترجمة عبدالكريم كاصد . دار ابن رشد للطباعة والنشر . الطبعة الأولى 1981م

الأربعاء، سبتمبر 29، 2010

مدرسة القرية


ما أقربَهُ !




ما أبعَدَهُ !




مثلُكِ




آخرُ آخِرِ مايو




وهو يجفّفُ طُحلبَ سَطحِكِ




يا أختَ مَسَاكِنِنا




لمّا غادَرْناكِ




ـ تهَافَتُ ذرَّاتُ الطبَاشير




تسَاقَطُ أسماءُ اسامينا ـ




نُنْشِدُ




تحت شبابيكَ مُجنّحَةٍ




نحوَ مدارسَ




لم يصحبْنا صُبْح الرّيفِ إليهَا




لا تشبِهُكِ




لا تشبهُنا




و شَجَاً أنْ لا أحدٌ منّا كان شجيِّا ...



الثلاثاء، سبتمبر 28، 2010

الغيوم


بوصف ِ الغيوم
عليّ أنْ أعجّل جداً
فبعد هنيهة

هي تتوقف أن تكونَ ذاتها

خاصّيتها هي ألا تتكررَ أبداً
في أشكالها ، ظلالها ، وضعاتها ، ونظامها

ترتفع بسهولة عن الحقائق
بذاكرة لا تنوءُ بأي شيءٍ
مهما تكن من شهود على شيءٍ ـ
سرعان ما يتبددْن في كلّ الْجهات

مقارنة ً بالغيوم تبدو الحياة وطيدة
حتى أنها دائمة ، وتقريباً خالدة

عند الغيوم
حتى الحجر يبدو أخاً
يمكن الاعتمادُ عليه
ولكنهن بعيدات ، وبنات عمّ خجولات

فليكنِ الناسُ ناساً ، إذا أرادوا
وبعدها بالتسلسُل كلّ واحدٍ منهم يموت
أما الغيوم فلا يعنيها كلّ هذا الغريب جداً

فوق كل حياتك ، وحياتي ليس كلها
هنّ يتظاهرنَ بأبهة كما تظاهرن

لا ينبغي عليهنّ معنا أنْ يمُتن
لا ينبغي عليهن أن يكنّ مرئياتٍ لكي يُبحِرن .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ


فيسوافا شيمبورسكا . بولندا. جائزة نوبل عام 1996م .
مكتبة نوبل . النهاية والبداية وقصائد أخرى . ترجمة هاتف الجنابي . الطبعة الأولى 1998م .

الأحد، سبتمبر 26، 2010

مختارات


الزّورقُ العبّار


يقوم بوظيفةِ المكوك


بين القريتين المتقابلتين


على ضفتيّ النهر


والمجرى المائي ليس واسعاً ولا عميقاً


مجردُ فاصلٍ بسيط في الطريق


يزيد من ازدهار المغامراتِ الصغيرة


في الحياة اليومية


مثلَ الوقفة في كلمات الأغنيَة


تجري عبرَها الموسيقى بفرحٍ وانشراح


وبينما ترتفع أبراجُ الثورة


عالية شامخة ثم تسقطُ في الدمار


فإنّ هاتين القريتين تتبادلان الحديثَ عبرَ النهرِ المهذار


ويستمرُ الزورق في أداءِ مهمّةِ المكوك


فصلاً بعدَ فصلٍ


ومن موسمِ البذْر إلى موسم الحصَاد .


~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~~


هكذا غنى طاغور

ترجمة خليفة محمد التليسي . الدار العربية للكتاب . ليبيا تونس . 1989م .

الاثنين، سبتمبر 20، 2010

النـّحـّاس



( النّحاسْ انقرضْ ) ، خاطرة حادّة ، تطِنُّ ـ منذ الليلةِ البارحة في رأسِ "بلْحسَنْ " ، ولقد تحدّى نفسه المنقسمة عليه بالخصوص ، فكان ينهزم أمامها كلّ مرّة ، مقتنعاً بأنّ النحاس قد نفد من القرية والقرى المجاورة ؛ من "الروابش " ومخلّفات الكسّارات والشركات التي يمكن أنْ تخطر له ببال ، فلا أثر حتى لـ" تلّ " في شبكة زريبة :





ـ اقرضوه الجّربْ الله يقرضهم ، انزعوه مالوطن عطهم ما ينزعهم .

وبهذه العبارة كان بلْحسَنْ وبهمس يختم تجواله الفكريّ اليائس في أثر النّحاس ، دون أن تفرقع في أعماقه فتنوّر في أساريره فتسري في أعصابه بُشرى خاطرةٍ ، حاملة خريطة منجم ِ نحاسٍ أنساهُ إيّاه الشيطان الرجيم ، وفي كلِّ مرة يلهث فيها فكره المكرّس منذ أشهر للنحاس ، يزوغ إلى خواطر تزعجه مثل : أنّ النحاس موصّلٌ جيّد للكهرباءِ كما تعلّم في دراسته التي ظلتْ ابتدائية ، ومثل لماذا أسلاك الخطوط الكهربية خمسة ، أو لماذا ترنُّ آنية النّحاس، وسرعان ما تنقله خواطره كعادته إلى طفولته فيذكر أنّ حياة جدّته كانت تقتني"ليّان" نُحاس أصفر كبير، من مخلّفات جيوش الحرب العالميّة ، وكيف أنه كم كان يركزه على حافّته في عزّ "القايله" ، ويشرع في قرعه قرعاتٍ متتالية ، ثم يصيح ( هنا لندن! ) ، فيقول في ذهنه



ـ كان يوزن قريّبْ خمسة وعشرين كيلو!



ثم يكتم تحسّرَه بلوم نفسه :




ـ خرّفْ يا بلْحسن ، كان كان كان ، الدوّهْ في توّهْ ، إن كان ردّتْ جدّتكْ إيردّ هاذك الليّان .

هل يخرج بلحسن من جنة النحاس؟ وهو الذي منذ أشهر ـ كأنها ملايين من السنوات ـ ينام ويصحو على النحاس : ملابسه مشبعة وملّطخة بغبار النحاس، بصماته النحاسية تلطِّخ الجدران والأوراق والزجاج وكلّ الملموسات ، حتى حبّات "الزريعة" التي أدمنها بطعم غبرة النحاس ، حوارات بلحسن الداخلية وأحاديثه حتى مع الأطفال، وأحلامه ونكاته ، كلّها ذات رنين نحاسي ، تقصّي النحاس بالنسبة لـ بلحسنْ صار عادة إدمان هواية حاجة ، بلحسَنْ أمام النحاس ـ ولو شُعيرة منه ـ طفل أمام لعب ، بلْحسنْ " مارد النحاس " كما يسمّيه أطفال القرية ، لم يَبق شبرٌ من جلده لم تخدشه أدغال النحاس التي اخترقها نهاراً أو ليلاً ، وهو لم يُبقِ سلكاً كهربيّاً إلاّ سلّه وعرّاه ولفّه بعناية عمّال الحرير، ولا "شبردق" إلا فحصه فحصاً وفلاّه ليستخلص منه ولو عشرة سنتمتر نحاساً ، ولا "كابل" هواتف أو سواه إلا شقَّ عليه بطن الأرض وسلخه وشواه ، بلْحَسَنْ الذي باع أطناناً من الآنية النحاسية ولفّ الكيلو مترات من أسلاك الكهرباء ، وكوّم أهراماً من " "الفوشيك" .

بلحسنْ هذا الذي فعل به النحاس ما لم يفعله به بيعُ " الشوالات" في "الحصيدة "، ولا بيع الزعتر في الخريف ، ولا بيع اللبن وخبزة التنّور في رمضان ، ولا بيع الأعشاب و"القعمول" في الربيع ، ولا بيع الجلود و"الزمامير" في العيد ، ولا أيّ "بزنس" آخر عرفه وعُرف به خلال مراهقته ، ورفض كلّ وظيفة أو حرفة عُرضت عليه ، حتى تأكد له أنّ النحاس "موش مطلوق" ، بلْحسنْ الذي فعل وفُعِل به كلّ هذا ، يجلس الآن على "بلوكّه حرشه" مسنداً ظهره إلى جدار بيته ـ وربما هي المرة الوحيدة التي يستريح فيها جسده بعيدا عن "القوراج" ، حيث أعمال مسح وجلي وتفكيك وتقطيع وتحميل النحاس ـ يجلس شارداً صامتاً متعب الروح ، ونواقيس نحاسية تضجُّ وتصكُّ مسامعه (نحاس !نحاس!نحاس) ، حتى تكاد تفجّر جمجمته .


فهل يخرج بلحسن من جنة النحاس ؟ .

ـ ولا يمكنْ عليّْ الطلاق ما نقعد ها القعده .



هكذا يقول بلحسن بصوت يقترب من الجهر بإصرار أطباء السرطان




ـ لسْبدّ فيه ميكان فيه نحاس أو ما مشيتْ لهْ ، وين ؟ وين ؟ وين ؟ وين يا بلْحَسَنْ ؟ .



ويطلق بلْحسنْ كلابَ خاطره النحاسيّة ؛ تشقّ الأزقة زقاقاً فزقاقاً ؛ تصّعد الهضاب ؛ تنزل الأودية ؛ تقلّب هياكل السيارات المعطّلة أمام البيوت ، تجرد على الزرائب والخرائب ؛ تشمّم أعمدة الكهرباء القديمة ؛ تلصّص على شبكات محطات الكهرباء ؛ تدور حول أسوار المعسكرات ؛ تخوض المجاري ؛ تلج العبّارات ؛ تعود إليه لاهثة ؛ يعيد ترتيب المكان متخيّلاً القديم ومتصوّرا الجديد ، ويرسلها مرة أخرى وراء النحاس الذهبيّ الغالي ، وبلْحسنْ جسد يابس لا يتمدّد ولا ينكمش مستند إلى الجدار، بعينين فارغتين ، لاتريان العابرين ، وأذنين لا تسمعان التحيّات .

لكنّ الآذان يرتفع فينبّهه ، فينفض ثوبه متعوّذا بالله من الشيطان ومستغفراً ربّه ، داعياً في أعماقه أن يدلّه على منجم للنحاس ، ويتوجّه في برتقالية الأصيل للصلاة ، دون أن ينتبه لخيوط الشمس التي تحاول أن تنعكس فيمتصها الهلال النحاسيِّ لقبّة الجامع .

الجمعة، سبتمبر 17، 2010

أهلاً


أهلاً حكيم بعَرض الحزن والطربِ
بين الرحيل و بين العَوْدِ مضطرب

بـطول ِ أغنيـةٍ دندنتـَها وجـعاً
مـن المـدينة صَوْبَ مـراتع اللّـعب

وأنتَ تسـلك درباً أوّلاً همــلا
سبقتكَ فيه طيـوبُ الزّعـتر الـرَّطِب

وفي جبينك ختــمٌ اسم قـريتنـا
في رسم ِأكـرة ِ بـاب المنزل الخشـبِ

بيتٍ بـروقُ حمـام ٍ فــوق أسطـحه
رهنَ انهمار كنوز الشمس في السحب

منـها تنـزّلَ خيـط ٌ في سـقـيفـتِه
قـرصـاً يـدبُّ إلَى المــرآة في دأب

تخَذتـْهُ سـاعة َ شـاي العصـرِ سيـّدة
جـمعتْ حـواليـه أهلَ البيت كالـعُـلب

وذوّبـتْ فيـه بالـبسمـاتِ سُـكـّرة ً
ونعنـعتـْهُ بوشـم ِ جـبينِهـا الـذّهـب

وانظرْ لصورتنـا الكحلاء واحْـنِ لـها
قزحَ الملابس والنظـرات والكـتب

فيـها عيـونُ تـُليـْمـيذيـن ضـاحكة
ضحكـا يثيـرُ حنـانا ً غـامضَ السّـبب

وخــارجَ الكـرتِ كيـف تـُرى تهيّـأنـا
ثم انفضضْنا عن الكميرات في صخب ؟

واسمـعْ حكـاية َذكـرى بيننـا عتِـقَـتْ
عِتـقَ الـنّـبيـذ مـع الظلمـات والـحقب

لمّـا انتـهت بي طـريقي عنـد عتبتـكم
في رقـش ِظـلِّ وضوءِ عريشةِ العنب

وراءَ عـطفةِ لـحنٍ ظــلَّ يتـعـِبُني
وجدتُ عندك نصفَ اللحن والـتعب

كان اللقـاءُ وكنـّا أصـدقـاءَ فــقط
علَى اللقـــاءِ باسمينا بــلا نسَـَـب

الاثنين، سبتمبر 13، 2010

أغرك مني ؟











أغرّكَ منيَ الصبرُ الجميلُ
على هجـر الطويلة يا طويل ؟





ومثلي كم أحَـبّ بلا حـدودٍ
و ليس علـى محبّته دليـل






فعنّي غبتَ تختـبرُ اصطباري
عليك ! فإنّ صبري مستحـيل





وشبهُ الحبّ حبٌّ فيه صبرُ
و حبّك أنتَ ليس له مثيل





وحبّي للـرِّفاق أصيلُ حـبّي
وحبّك في الأصـيل ِ هو الأصيل





وإنّ بـديـل جافية لأ ُخرى
ومـا بك أنتَ واللهِ بديل





28-10-1986

الثلاثاء، سبتمبر 07، 2010

الدّكـّة


لوحده ذهب يونس إلى المدينة ؛ بعد أن اتخذ قراراً سريّاً مهما ؛ معِدّاً أجوبة احتياطية لأي سؤال مفاجئ ؛ مثل رجل يريد عرض نفسه على طبيب نفسية أو مسالك .

كان مساء خاصّاً في حياته ذلك المساء الرمضاني ؛ فللمرة الأولى تقوده أقدامه إلى جهة جديدة وبانتباه شديد ، فقد اعتاد منذ سنوات ـ في مثل هذه الساعة ـ أن تثير خطواته غبار الدروب الحمراء الضيقة المتعرجة إلى الزرائب ليعلف الأبقار ، كان يحس أن القرية كلها ؛ ليس بسكانها وحسب ؛ بل وببهائمها ودواجنها وأشجارها ومبانيها وأعمدتها الكهربائية ، تراقبه وهو يمشي وهي تهمس (وين ماشي يونس ؟ ) .

زمان ، أيام طفولته كان أبوه يرسل مع البقال ليحضر لهم ملابس العيد ، هو وأخيه ، السراويل مقاسة طولاً وحزاماً بخيط سباولو ، الحذاء ورقة كرتون تقص على مساحة القدم ، لكن القياسات قد لا تجيء دقيقة في آخر دقيقة من ليلة العيد : الكندرة قد تصل ضيقة تترك ندبة أسفل الكعب أو بأصابع القدم ، فحمّى مساء العيد الشجية ، أو واسعة يتقلقل فيها القدم ، فيتخلف غائصاً في وحل ، أو مقلوباً عند عتبة ، الجاكة أو السورية إما نص كم أو (2/1كم) .

ربما لتلك الذكريات وجد يونس نفسه أو والده أن الملابس العربية (الصينية) ، حيث المقاسات بالكلمات لا بالأرقام ، بدء من واسعة . نص ونص . كبيرة . مخبخبة . مهبهبة. امهشكة. وافية. إلى سخاسخي . أغسل وألبس . ما ايخشش. ما يطلقش . مروراً بسمول لارج إكس لارج .

لكن السبعينيات من القرن الماضي دخلت عليه بالخنافس والمدارس الإعدادية المشتركة ، ومداليات الحروف الأجنبية التي ما لها أين تعلق في السراويل العربية ولا الصينية ، أي دخلت عليه بالمراهقة والمراهقة دخلت عليه بالحب ، الحب الكلمة البديل لكلمة الغية ، كيف يستطيع أن يقول بالبدلة العربية (بحبك ياحبيبتي) ، بالبدلة العربية يستطيع القول (غاوي فيك ياحويمتي) .

ثم ـ لتعزيز قرار التغيير ـ الملابس العربية كم أوقعته في مواقف محرجة لا تنسى ، مرة انقطعت دكة سرواله وسقط حتى حذائه بين قائمتي المرمى الذي يحرسه بالدوري المدرسي ، مرة ثانية ، ترك سرواله العربي القديم في حجرة القياس ولم ينبهه إلى نصف عريه سوى صياح التاجر وراءه ، مرة ثالثة انقطعت الدكة حين فرج ساقيه ليتحكم من خصم عريض ، بل ومواقف خطرة ، مرة نطح دينمو السيارة كم نطحة إثر التهام الشينقة لعمامته ، والسورية مرة كان ذيلها عالقاً بالدكة من دبر وهو عابر الصالة خارجاً من الحمام تحت عيني بنت الجيران ، وكثيراً جداً في رفعه من الركوع ...


تنهد حين جلس على الكرسي الخلفي للحافلة ، حين تحركت ألقى نظرة إلى الوراء حيث مشهد القرية وهي تنأى عن الحافلة ، وبعينين تنتظران أكثر من بشر كان يراقب انفتاح باب الحافلة فاغراً فاه متفحصاً الركاب الوافدين كل مرة ، اهتم لكثرة الراكبين والنازلين وتذكر قولة أبيه (الدنيا كيف التابوس ؛ واحد راكب و واحد نازل) رأى كم وجهاً ذكرته بوجوه من القرية ، تساءل بحيرة في ذهنه

ـ تي هضوم وين يريدو ؟ .

أزعجته بعض الوجوه من المراهقين خاصة ، وكان ينتابه شعور غير مصنّف وهو يراقب الصِّبْية المثرثرين بألفاظ الكبار والمقهقهين بلا خجل ويناوش بعضهم بعضاً .

زفرت الحافلة زفرة قوية وميّدت الركاب الذي هبوا واقفين جميعاً معاً ؛ ثم اندفعوا عند الباب فلاح في ذهنه تدافع أبقاره عند مدخل الزريبة ، دفعته أكتافهم معها إلى خارج الحافلة ، وجد نفسه رغم زحام البنايات والبشر كأنه في خلاء بلا جهات ، وبخريطة حكايات زملائه في القرية توجه إلى سوق الجريد ؛ فكر : سوق الجريد شارع واحد متصل أوله يدل على آخره ؛ فرجحت كفة الاطمئنان في صدره ، تعثر في الأشياء في طريقه ؛ اصطدم ببعض من مضوا في طريقهم دون أن يلتفتوا إليه ، وهو في ذروة الانتباه والتركيز ذكـّرته الروائح العبقة بحجرة جدته ، بعد مسافة أحس فيها بروعة فتوحاته في شوارع المدينة قدّر أنه في منتصف السوق ؛ فعرّج على محل ، تأمل البنطلونات والقمصان المعروضة وراء الزجاج ؛ شعر باطمئنان ختامي كامل تام على توفيق رحلته حين لمح في زجاج عرض أحد المحلات أزياء مألوفة يرتديها بعض أقرانه في القرية ؛ ورغم ذلك قرر أن يشتري لبسة مختلفة ولو في اللون في النهاية ؛ فقال لأحدهم في المحل :

ـ نريد سروال .

فسأله الرجل وهو يلف كيساً لغيره :

ـ أيّن نوع؟ .

فبصم يونس بعرَق سبّابته على الزجاج :

ـ هالنوع هض .

دعاه الرجل ومدّ له بنطلوناً وأفهمه أن يتجه إلى حجرة القياس ، احمرّ وجهه حتى أذنيه من فكرة أن يخلع ملابسه في سوق ؛ ولو من وراء جدار ، دخل الحجيرة ؛ قابلته هيأته كاملة في المرآة ، تأملا بعضهما جيّداً ، بدا له كأنه خارج من محجر ، بلغة الملابس العرْبية الفصحى تحدث إلى ملابسه التي قرر التخلي عنها هذا العيد وتحدثت إليه ، لاح لنفسه في مرآة مخيلته وهو يخفي ارتباك مشيته في الملابس الجديدة مع رفاقه يوم العيد ، عضّ على البنطلون الجديد بأسنانه وتحسس قفل حجرة القياس ؛ دسّ يده تحت قميصه ليسحب تكة السروال ، وتحسس قفل الحجرة ؛ جذب الدكة ، لم تنحل ؛ تحسس قفل الحجرة ، جذب الدكة مرة أخرى أقوى انعقدت ؛ تحسس قفل الحجرة ، حاول شد االدكة بجماع قوته فاستحكمت أكثر ؛ حدج قفل الحجرة ، خلع قميصه وأخذ يعالج العقدة برؤوس أصابعه حتى أحس بفشل في ذراعه ، حدج قفل الحجرة ؛ حاول أن يخفض رأسه ليفك الدكة بأسنانه ؛ حال دون ذلك غلظ عنقه واندلاق كرشه ؛ حدج القفل و شدّ التكة ؛ شدّ شدّ شدّ ؛ دون جدوى ؛ تلوّى ؛ دون جدوى ؛ أحنقته طرقات على الباب فارتدى بعجل قميصه وهو يسمع بعد انقطاع همهمات أناس في المحل ؛ كان جسده قد نضح ببقية ما فيه من سوائل ؛ خرج محرجاً مرتبكاً ماسحاً جبينه بالسروال الإفرنجي ؛ ومتفادياً النظرات ؛ سأله الرجل :

ـ آء ، شنو؟ أكويّس؟ .

تحسس الدكة ولم يجبه ، وخرج ... قاصداً محطة الحافلات .

مرة رابعة ـ بعد النكوص ـ خبر يونس الحيرة بين رفع السروال واستلام الفرّارة في الزحام قدام الجمعية التعاونية الاستهلاكية .

الاثنين، سبتمبر 06، 2010

صيـام






من رمضان



إلى رمضان



كبرت



وأولادُ الجيران




فمن يرسلني كي أسمّع للأذان ؟



يرشّ حمامَ الريف الساكن أبيضَ في ظهر الشيطان



من يأخذ بيدي لصلاة قيام الليل ؟



فأحلم تحت ثريا بيت الله



ملاكاً أخضرَ بين ملائكة الرحمن



من يوقظني نصف النوم ؟



والديك القزحي الذيل يصيح .. يصيح .. بلا ألوان



كي أسّحر كي أذوّق أوّل صوم





يا رمضان !



كعين القهوة




في جفن الفنجان



كنبض الفل




على خد الفنجان



كشفة التمر



كضحك الماء



كقمر الدين



كقمر الناس



كصفحة فاتحة القرآن



اجعلني



أو خذني للعيد



فمنذ زمان



وأنا عطشان جوعان !



الجمعة، سبتمبر 03، 2010

عام الزلزال


لقد صرت أدرك اليوم سر ذلك الحزن الشفيف الذي ينبث في روحي، كلما رأيت طفلاً أنهك قواه بالصيام محاكاة للكبار، أو كلما اضطررت للصيام بعيداً عن بيتنا.


فمنذ أكثر من ثلاثين عاماً*، كنت مخلوقاً آمناً غريراً حراً بلا هوية، أجهل كم أنا مجهول، وأحسب أن تلك القرية ـ التي هي عبارة عن قلعة إيطالية سابقاً ـ هي كل الدنيا.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً صادف حلول شهر رمضان المبارك فصل الشتاء، وكان ذلك هو أول رمضان أتذوق فيه طعم هذا العذاب اللذيذ لهذه العبادة الروحية المحببة.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً كان لي في تلك القرية أول صديق في حياتي، كان اسمه خليل، علمتني أمي أنه يتيم، وحدثني أبي:


ـ سيدك خليل؛ بات خليل ـ الله يرحمه ـ كان صاحبي، أيام ونحنا صغيرين كيفك وكيف خليل.


وكنا - كلانا خليل وأنا - في الثامنة من العمر، ولكنه كان أطول مني قامة وأكثر مني حيوية، ولم يكن مثلي خجولاً.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي المطر وتحت كافورة القرية العتيقة، حين راحت أوراقها تقاطر علينا حبات من ماءِ المطر كبيرة، كدموع خليل، قال لي وهو يتواثب مثل أم بريم، ليتجنب حبات المطر الباردة التي يقشعر منها بدنه العريان


ـ هيا نصيموا بكرة ؟ .


وحين وافقته وتعانق كفانا نظر إلي بعينين ماكرتين ضاحكتين وأضاف:


ـ رد بالك تبقى ادقْ فيها في حوشكم وتضحك علي.


وقهقهنا معاً وقهقه رعدٌ بعيد .


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وفي عشية اليوم الأول من الصيام كنت وخليل في شرفة برج القلعة الشرقي، جالسين منهكين كمريضين ينقهان، وكانت آثار المطر على السفوح مرايا مكسرة، والبيوت البعيدة بيضاء تحت خيمة مظلمة من الغيوم، قال لي خليل، وسحيبات بخار الماء سجائر صبيانية:


ـ كذه وريني لسانك ؟ .


وحين أخرجت لساني نظر إليه وقال:


ـ لسانك أبيض، مزبوط أنت صايم.
وفجأة صاح وهو ينظر إلى بعيد، حيث الطريق الملتوي:
ـ هاذك كارو خالي صالح، والله كارو خالي صالح.
وراح بعد أن تقدم حتى شارف على حافة البرج يلوح بيديه ويصيح، وكأن من على الكارو يسمعه، ثم عاد يحدثني عن خاله وجَدته في المرج، وعن البيوت هناك التي تشبه البيوت في قريتنا تماماً، بيت جدته خاصة، وأنه دائماً ما يذهب لزيارة المرج، وأن له هناك أصدقاء وصديقات وبطولات، كان قد أسمعني تفاصيلها كثيراً، لكنْ في تلك المرة أحسست بالغيرة، وبتخليه عني في تجربة الصيام، عندما أخبرني أن خاله آتٍ لينقلهم إلى المرج للصيام مع جدته.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، كنت أعدو بمزيج أنفاسٍ وضحكات تتقطع في أثر الكارو، الذي كان يقل خليل وأمه إلى المرج، وأنا أحاول لمس كفه لأودعه رغم زمجراتِ خاله كلما التفت إلينا، وشهقات و وعيد أمه، حتى وجدتُني منبطحاً في غدير، بعد أن زلتْ قدمي فجأة في ركضي، وبعد أن رفعتُ عيني إلى الكارو الذي ابتعد، رأيت خليل يقهقه ويتقلب على سطح الكارو ؛ ولما وقفت حانقاً أتأمل ملابسي بلغني صياحه، فنظرت إليه ثانية فرأيته يرمي إلي بشيءٍ وقع قربي، كان صفارتَه الملونة، فالتقطتها والتهمتها، ورحت ألوح بيدي وأصفر رهنَ مشاعر شتى، وهو يلوح لي، ثم ابتعد الكارو فعلاً، صعد الهضبة، تناهت إلي قرقعاته حيناً فحينا، ثم تدحرج وراءَ الهضبة، فهُرعت إلى البرج وصرت أراقب الكارو الذي أخذ يصغر ويصغر ويصغر، وكانت الريح تصفر وهي تحتك بحواف البرج، أو تزغرد في الكوَى والفجوات، فإذا بي أرتعش، فرُحتُ إلى البيت.


منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وعلى مدى بقية الشهر المبارك احتفظت ببياض لساني، وفاءً لعهدي مع صديقي الأول خليل، وظل بيت خليل جاثماً بوقارٍ أو حزن كأنه صائم هو الآخر، وظللت أرتاد البرج انتظاراً له.

السبت، أغسطس 28، 2010

براك


ليس في قريتنا عائلة ـ بل ولا فرد ـ بدون لقب، إن اللقب في قريتنا هو اسم الاسم، وليس من قبيل التنابزـ وإن كان في بعض الأحيان كذلك ـ وإنما لضرورة هي التحديد والتمييز،أي إعادة التسمية، ففي قرية مثل قريتنا يقيم بها عددٌ ممن يسمَّون محمّداً لابدّ من تقليد كهذا، ليعرف السامع أَيَّ محمد يقصد المتحدّث، محمد الفقيه؟ أم محمد بوحوش؟ أم محمد الكرهبجي؟ ، ومعلوم أن لكلّ لقب حكاية.


فعائلة الفقيه تنتسب إلى رجل كان إمام مسجد أو طبيبا شعبيا، وعائلة بوحوش هم أحفاد رجل اتخذ بيتا من الحجر والطوب سكنا بناه بيديه وسط خيام النجع، أما عيت الكرهبجي فجدّهم هو أوّل رجل امتلك سيارة وقادها على مستوى القرية والقرى المجاورة على مدى سنين، فإذا وفدتَ جديدا على القرية، فلا بدّ أن تهيأ نفسك لتقبّل لقبك الخاص المميّز، الذي يجب أن تسمعه بلا حرج، وتسلّم به، سواءً أعجبك لقبك أم لم يعجبك، فإن لم تفعل فسيحدث لك ما حدث لمحمود "براك"، أنظر ! ها أنا أجد نفسي ـ عفواً ـ أذكر الرجل بلقبه لا باسمه مجردا .


محمود "براك" هو محمود محمد علي، رئيس عرفاء في القوات المسلحة، حلَّ بالقرية منذ سنتين بعائلته، ليكون قريبا من مقرّ عمله الجديد، أشهر قليلة وصار يعرف في القرية بهذا اللقب، ولقد نال محمود هذا اللقب كثمرة من ثمرات رغبته في أن يكون فردا من أفراد القرية بحق، يجالسهم ويسامرهم ويقف إلى جانبهم في أفراحهم واتراحهم، ويمدُّ جسرا طويلا عريضا متينا من العلاقات الحميمة معهم، تلك الثمرة لم يقطفها ولم يقدّمها له أهل القرية البدو بكرمهم وترحابهم بكل ضيف وحالٍّ جديد وحسب، وإنما ساهم هو في ينعها، بتكيّفه السريع مع أهل القرية، تلك المهارة التي اكتسبها من خبرته في التنقّل من قرية إلى أخرى، ومدينة إلى سواها بسبب طبيعة عمله .


أما قصة تلقيبه فتبدأ من ذلك اليوم الذي بلغ فيه محمود حبُّه للقرويين وارتياحُه واندماجه ذروتَه، ولم تشفع له عندهم هيأته الوقورة في زيّه العسكري الأنيق، المحلّى بالأشرطة الأربعة على عضده، ولا خيط الصّافرة المضفور الزّاهي، ولا لمعان حذائه، ولا حتى عارضاه الشائبان تحت قبّعته المميّلة بقصد وعناية ناحية حاجبه الأيسر، وكان ذلك حين دخل على بعضهم رمضان الماضي أحدَ الدكاكين، وقد بدا عليه أنه على عجلة وسأل :


ـ بكَمْ لبراك ؟.


كان يريد أن يقول بِكم السّلق ؟، ولكن ربّما لحبّه الشديد لهذه الأكلة الرمضانيّة أفلت منه التعبير، وحدث ما حدث، وقهقه القوم في الدكان، وحانت ساعة تقليده لقبا سينادى به ما أقام في هذه القرية الطيّبة ـ كما وصفها و وصف أهلها ذات يوم ـ وقهقه معهم محمود قهقهة حارّة مكتومة، مداراة للحرج، وزحزح قبعته إلى الأمام فإلى الوراء، ثم خرج ناجيا من الحرج، وبعضهم يصيحون وراءَه باسمه الجديد .لقب وانبعث في دكان في قرية .


عند الغروب كان اللقب يُتداول في البيوت حول موائد الإفطار، وفي الليل على طاولات الكارطة، في الصباح كان ملءَ آذان أبنائه من أفواه التلاميذ، بعد أيّام صرتَ تسمع الأمهات يقلن لأولادهن :


ـ عدّي سلم وليدي العيت براك جيبلنا منهم ملح .


والأولاد يشتكون لأهلهم :


ـ يا باتي فكني من عويل عيت براك .


في البداية انزعج محمود من هذا اللقب، لا لمجرد أنه لقب، بل لشعوره بأنه لقب غريب عنه وكريه، فراح يحدّث نفسه


ـ يعني ما لقيوش إلاّ ها النقب !، ليش ما نقبّونا بعيت الشاويش محمود ؟، ولاَّ عيت محمود العسكري في لخّرْ بلْكلْ ؟ .


ثم ضاق به ذرعا، وصار إلى عزلة عن أهل القرية ومجالسهم، بعد أن وجد أن شيوخ القرية هم الآخرين يخاطبونه به، وشرع في بناء متراس داخليّ في مواجهة هؤلاء القوم الهمّازين اللّمازين. إلى أنْ جاء ذلك اليوم عندما كان عائدا من عمله مرهقا، يشق الأزقة في قيلولة الثانية والنصف الرمضانية، وإذا بطفل يشاكسه :


ـ براك، أَوي ! براك، براكه ! يا براك ! .


فنهر الطفل، ثم وهو يقف كلّ مرة لم ينتبه إلى أنه صار يسبُّ الصغير الذي وجد متعته التي كان يبغي في هذه اللعبة، فلاحَقَ العسكري ولاحقه و لاحقه ، فإذا بمحمود ينقض على الطفل ويمسك به بين يديه، فأصاب الطفل ذعر شديد وهلع جعله يصيح


ـ خلاص خلاص، يا سي براك، والله ما عاد نقول لكْ براك ياسي براك، وراس عويلتك يا سي براك ...


ليصبّ وقودا على النار، وليجد محمود نفسه التي كُبحت طويلا تنفلت من خلال لسانه ويديه ورجليه معا، فيشبع الطفل شتما وصفعا وركلا، إلى أن تدخّل بعضهم وفض الشجار، الذي خرج منه محمود بشرخ دامٍ في جبينه.


أُقتُِرح "مسار" طارئ استثنائي لردّ اعتبار محمود محمد علي، الذي هو أحد أفراد العائلة الكبيرة القرية، وليس غريبا عنها كما عبّر الشيوخ، استجاب والد الطفل وبعض أصدقاء محمود، وحملوا "شاه" و "مصرف"، فيما بعد ظهر نفس اليوم إلى بيت الرجل ليطيّبوا خاطره ويفطروا معه، أعدّت زوجة محمود الإفطار بملاحظة منه تجنّبا للحرج، جيء بالإفطار، حطّ الضيوف عيونَهم على الآنية الخالية من "لبراك"، تبودلت النظرات في استفهام وسخرية مكتومة، دارت الهمهمات والأحاديث المتقطّعة أثناء الأكل بعيدا عن الموضوع الذي اجتمعوا من أجله، رُفعت آنية الطعام، غُسلت الأيدي، وبعد ها غُسلت الصدور بتقديم الاعتذار، قَبِل محمود الاعتذار، إلاّ أنه اشترط شرطا ؛ هو أن يوعد بضمان عدم سماع هذا اللقب مرّة أخرى، لم يعبّر الضيوف لمحمود إلاّ عن شعورهم بأن ذلك لن يتكرّر أبدا، جئ بالشَّاي، شُربت الشاي، تململ بعض الضيوف إيحاءً بالرغبة في الانصراف، وقفوا، لكنّ أحدهم بقصد أو بغير قصد قال :


ـ سفرة دايمة يا سي براك .


اهتزّ محمود واستفزّ، وحدج الرجل بعينين تقدحان شررا، و وجهٍ يكاد يشتعل من الاحمرار، برهةً، وانفلتت منه قهقهة عالية، وخبط كفَّه بكفّ الرجل، وقهقه الجميع .


وجد محمود مخرجا، هو الرضا باللقب، ومن ساعة ذاك استحق أن يكون فردا من أفراد القرية الأصليين.

الثلاثاء، أغسطس 24، 2010

حكاية ونص حكاية



ذات ليلة من ليالي رمضان الكريم الشتائية، وكان قد انقطع التيار الكهربائي عن القرية، وكنت حينها في العاشرة تقريباً، اكبر أخوتي، وكان أبي قد اشترى لنا أول جهاز تلفزيون أبيض أسود، وكان ذلك هو أول رمضان تكون فيه عائلتنا قد اقتنت هذا الجهاز، الذي امتلأت خيالاتنا نحن الصغار بما حدثنا أبناء جيراننا، عن أبناء خالتهم في المدينة عن الرسوم المتحركة والأفلام وأبطالها، ووجوه المطربين والمطربات الذين نسمع أصواتهم في الراديو.


خفت أمي إلى المخزن لاستخراج الفنارات، ونحن متعلقين بأذيال ردائها في ظلمة المخزن، ونقرقر ويخوف بعضنا البعض كلما تلاشت محتويات المخزن الفوضوية، كلما انطفأ عود كبريت في يدها، وأذكر أن أحد الصغار صاح:


- بشكليطتي ! بشكليطتي ! بشكليطتي !.


ثم بعد أن لم تبال أمي صاح متباكيا في العتمة:


- نبّي بشكليطتي.


عدنا بفوضانا المفتعلة، وجلودنا التي اقشعرت بما صورناه لأنفسنا وصدقناه، من أغوال بأنياب ولصوص مكممين وعفاريت شعث.شملنا دفء البيت وأنسه، وتحلقنا حول أمي التي شرعت في تنظيف أول الفنارات، مستعينة بقطعة قماش تتفل فيها، وتولجها داخل المرشه وتدوّرها مرات، وهي تناغي، في الوقت نفسه، أخي الأصغر الذي راح يبكي في الظلام، علاوة على ما ترميه إلينا من كلمات ناهرة ناهية عن الفوضى.


صاح الصغار، عندما تراقصت على أول ضوء الفنار الأول، ظلالهم كبيرة على الجدران، واندفعوا إلى كل الجهات يلطخونها بها، في صخب صار أعلى، بينما الصغير يتملص من حجر أمي في اتجاه اللهب، ووجدتني أتدخل فدعوتهم للعبةٍ فاستجاب بعضهم فأجلستهم قربي، وقربت يديّ من الفنار أصنع بهما أشكالاً ما، وأشير إلى الظل وأسألهم عنها، هذا كلب. هذه نعجة. هذا جمل. هذه أرنب. لكن أحدهم طلب مني أن أرسم دراجة، فهربت من هذا الطلب الإشكاليّ بنظرة إلى باقي الأولاد، الذين كانوا قد تجمعوا في زاوية - وهم يعلقون أحداقهم في المصباح الميّت المتدلي، الذي صار له ظل خفاشي هو الآخر، واقترحوا - لعبة رأيت أنها ذكية لانتظار النور، وذلك بالعد إلى العشرة كل مرة، مساحة لحظ كل واحد منهم، فشجعت من معي للانضمام إليهم، وللخلاص من شقاوتهم، وامتدت اللعبة لتجربة حظوظ آخرين من أطفال الأقارب في البر والمدينة والجيران وزملاء المدرسة، وأطفال صهرنا قارئ العدادات الكهربائية بالقرية، ولكن اللعبة آلت إلى العبث بنظامها، بالشجار حول حصصهم وأدوارهم فيها.


اضطررت وأمي معاً إلى زجرهم، فأفسحوا حلقتهم وانتشروا بين الجدران والزوايا، وعمّ صمت وسوس فيه براد الشاي فوق الكانون، وتقاطعت فيه نظرات الأحداق المشاكسة، وسرّب أحدهم ضحكة مكتومة من خيشومه، إلا أنّ نهيقا تناهى من بعيد هدّ جدار السكوت، ووجدتني رغماً عني أشاركهم القهقهة، فأفقد السيطرة عليهم، وبتقطيبة تشوبها ابتسامة فشِلتُ، حتى تداركت أمي الموقف حين قالت بلهجة مغرية:


- أيش رايكم في الخراريف؟.


فهرعت مع الصغار إليها، وتزاحمنا حولها كصحافيين حول شخصية نجمة، أو كنحلات حول زهرة وحيدة، وقبل أن ينشب شجار مجدداً على المواقع على مدار الأم بادرت بالقول:


- قيسكم ما تبّوش الخراريف؟.


فصاحوا وأنا معهم أيضاً:


- لا لا لا نبّوا نبّوا.


فقالت:


- أما لا سكتوا واصّنتوا.


وبعد هنيهة من الصمت مرت اختباراً للصمت عادت تقول:


ـ مرة يا سيدي بن سيدي فيه هاذك الذيب تلاقى هو وهاذك القنفود(*):


- مرحبه بوجوه القنافيد.


قال الذيب.


ردّ القنفود:


- مرحبتين بوجوه لذياب.


تنحنح الذيب وقال للقنفود:


- أيش رايك انخشوا في هالسانيهْ؟.


ردّ عليه القنفود وقال:


- انخشوا؟!، لكن عندك ادباره نطلعوا بيها؟، أوقات نحصلوا ياوجوه لذياب، راه خوك القنفود ما عنده إلا ادباره ونص ادباره.


شوي قال لهْ الذيب:


- لا، كون هاني، كان عالدباير عندي منهن أكثر من ما عندي من مشاكل(**)، قول عندي علي عدّ ما علي ظهرك من صيص وأكثر.


اوخشوا السانيه، انكلاّ من عمكم الذيب تمّ امبرغط في هاذَك الدلاع والبطيخ والعنب، أما عمكم القنفود تم ياكل ويقيّسْ، ياكل اشوي ويقيّس روحه في الفجوة اللي خشـّوا منها، اوهم علي هالحال امعا جيّة صاحب السانيه.


مرة أخرى صاح الصغار بعد أن ملأ السقيفة نور الكهرباء العائد، وهرعوا إلى التلفزيون الذي قدحت شاشته الكحلية، تاركين أمي التي نظرت إليّ بدهشة مشوبة بخجل، ثم أفلتت منها ضحكة، وبينما هي تهم لتحمل الصغير الذي نام في حجرها إلى حجرتها التفت إليها أخي الصغير أمام التلفزيون وقال بعجل:


- إن كان انقطع الضي مرة أخرى توّ اتخرفيلنا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* هل من أحد لا زال يحتفظ بالنص الأصلي كاملاً لخرّافة الذيب والقنفود؟.


** من أمثال الشعوب.

الاثنين، أغسطس 23، 2010

الحاوية


لم يكن عمران سليل تجّار؛ فوالده كان طبيباً شعبياً وجدّه كان إمامَ مسجد، لكن لعل العرق الدساس ربطه بالتجارة فقد أفادته خالته بأن جدّ أمه كان تاجراً جوّالاً على حمار، فقد عاش عمران زبوناً مستهلِكاً دُوِّن اسمه كثيراً في سجلات دكاكين القرية، كما لم يكن له رأس مال، ولا رأس تجاري ولا صدر رحب ولا مزاج صافٍ حتى يخوض معركة التجارة.


لكنه دون أن يتكلّف عناء التفكير في ذلك؛ وجد نفسه في الأسبوع الأول من رمضان في دكان أو بالأحرى في حاوية؛ حاوية حديدية سوداء، في طرف من القرية لا يسمح حتى لو بنيت بيوتها ودكاكينها من مغناطيس بجذبها إليها، في مكان ـ رأى هو أنه ـ موقع مناسب إلى حد طيب لممارسة البيع.


صَفّ في الحاوية ألواحاً وبراميل وبقايا هياكل غسّالات وثلاجات كطاولات، وكدّس عليها حُزم خضروات رمضان، وقد بذل قصارى جهده وذوقه ليجعل المحل المتواضع نظيفاً منسّقاً، من أجل إغراء عيون الزبائن المضببة من أثر الصيام.



ولم يكن هناك ما نغّص عليه فكرة تحقيق المشروع؛ فقد رتّب الأمر بخصوص الحاوية مع صاحبها بعد سويعة من هبوط الفكرة عليه، وإن خطر له هاجسان: أحدهما فقأه في عينه بإعداد رقاقة كرتون حليب كرنيشن كتب عليها (الدين ممنوع والزعل مرفوع)، وثانيهما الحرس البلدي الذين قد يداهمونه سائلين عن الترخيص والشهادة الصحية أو أو أو...الخ، لكنه استطاع بحق أن يطمئِن نفسه بأن رجال الحرس البلدي ليسوا بملائكة على كل حال؛ فَهم مواطنون يصومون ويسهرون يلعبون الكارطة وينامون إلى وقت متأخر، ثم إن القرية نائية والمكان منزوٍ، وفي النهاية هاجس الحرس البلدي هاجس وسط كلون بِدَلاتهم يمكن وضعه في الحسبان بنفس القدر الذي يمكن فيه اللامبالاة به، ثم ما قيمة عمل بلا مغامرة ؟، وعزّز مشاعره ببيت شعر من محفوظاته الابتدائية القديمة (ومن لايحب صعود الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر).


وبقي هاجس نغّصه حق التنغيص فأرقه؛ هو عدم تفريقه بين الكسبر والمعدنوس، الذي زوغ منه كثيراً حتى قطع دابره من كيفه أو بقدرة قادر أثناء ترتيبه للخضروات، حيث جعل الكسبر معلقاً في الجانب الأيسر والمعدنوس في الجانب المعكوس ( لا موش حنتلخبط إن شاء الله). اتخذ كرسيّاً بلاستيكياً استبقاه بركةً وتذكاراً من سهرية جدّته، وقد دعمه بوسادة ليرتفع قليلاً إلى مستوى الطاولة ومستوى التاجر، غير ذلك فالقلم مثبت بأمان على أذنه؛ والكراس سجل المبيعات والحسابات في الظل الأصفر الخفيف للميزان؛ ولَرْباع ولنَْصاص في الدرج؛ وشبكة عنكبوت ناجية في إحدى الزوايا، والنعاس في عيني عمران مدجج بأرق ليلة برحت وإرهاق رحلة الفجر إلى الفندق على حين فترة من الحركة.


سحب الأوراق النقدية وراح يبلل سبّابته بلعابه ويعدها محدثاً نفسه (هالدوّة موش خير لك يا عموره من اسهرانك مع الكبّيْنية لا عند لفجور؛ والنوم لا عند المغرب؛ وحتى وقت ما تصليه في وانه، لعنة الله عالكارطة) ردّ الأوراق النقدية في الدرج ( أوّل دار سقيمة والتجارة مباركة والحركة بركة عالأقل يكونن لفلوس ديما في جيبك؛ الفلوس ناموس الراجل؛ صدق جدي الله يرحمه؛ لفلوس يديرن لك طريق فالمالح، لولا قِلْ الفلوس راك متزوّز من زماااااااان )، ثم نهض لمكافحة النعاس وراح يرش الماء بيده من كأس على الخضروات لتبدو ندية ثم جثم على صندوق الطماطم وأخذ يمسح الحبات حبّة فحبة لتبدو براقة، فهكذا رأى التجار العريقين يفعلون، كل ذلك وهو يدندن (ياصباح الخير ياللي معانا) سعيداً باستعادته المشاهد والمسامع التي سرقتها منه الكارطة والسهر طوال سنوات: أسراب الحمام المتراقصة حول أكداس القمامة، جعجعة الشاحنات على الطريق العام البعيد، صياح الدّيوك، صدى خطى ونحنحات العمال المبكرين، التلاميذ المرحون في صخبهم في طريقهم إلى المدارس، الضباب الذي يهرع بين الأزقة، يطيّب (الكرموس ) ويحجب المباني وتمتصه الملابس على حبال الغسيل وجذوعُ الأشجار وأعمدةُ الكهرباء الخشبية، وأثر دبيب الدود وأقدام الزرازير على التراب؛ وحتى لسعات الذباب الكسول الخَدِر الثقيل في الصباح... قطع عليه حزمة تخيلاته ودندنته صوت يحييه صاحبتْه عتمة خفيفة في جو الحاوية فهَبّ رادّاً التحية :


ـ خير خير؛ خير ومرحبه.


- أووّ، ووهْ مبارك مبارك ما شا الله !


قال الرجل وهو يقلب طرفه في أنحاء الحاوية فيما خفّ عمران إلى الكرسي ثم أضاف:


ـ انهنّيك والله؛ الواحد عالأقل يوفر المرتب، واللي يحصلها مالدكان من اخضَيْرة بركة، الشي تما غالي حتى خاطي رمضان، نار شايطة يا ولد بوي.


ثم تقدم الرجل ومدّ يده وجاس بها خلل الخضروات فيما قال عمران بينه وبين نفسه (الكسبرْ أيسرْ عاليسار...) لكن الرجل سأل:


ـ كيف ما نكش جايب دحي!؟ .


فأجاب عمران:


ـ دحي؟. دحي ، لا والله، اليوم نسيناه لكن بكرة إن شاء الله إنـ....


لكن الرجل أعتم بقامته جو الحاوية مرة أخرى ، و فيما هو يولي بظهره مغادراً قاطع عمران بقوله:


ـ كيف ياراجل ! غلطان اللي ما جايب الدحي، الدحي عليه طلب واجد في رمضان، هيا السلام عليكم .


وتركه يعاتب نفسه على إغفاله جلْبَ البيض، فشرع يسجل أسماء سلع أخرى قد تطلب منه اليوم أو غداً، بل فكّر لو أن له معاوناً يستبقيه ويذهب هو فوراً لتوفيرها، ورغم الخيبة التي خلّفها أول زبون وحاولت ترجيح كفة الفشل والكسل والنعاس إلا أن عمران تململ وحدث نفسه بأن العمل قد ابتدأ، وانتظر.


ـ خير! خير !.


ردّ عمران على الصوت الذي نبهه، كان طفلاً.


ـ تعال جاي تعال، جَرِيْ جَرِيْ، أيش تريد؟.


فاقترب الطفل وقال:


ـ يسلم عليك باتي.. وقالت لك أمي صرّف لنا هذين.


ومدّ الطفل وهو يشرئب ورقة نقدية.


ـ حاضر!.


قال عمران قبل أن يبصر التشوه في الورقة فلا يستلمها، تردد برهة ثم مد يده إلى الدرج:


ـ واحد، اثنين، ثلاث، أربعة، وهاذين خمسة، أمسك كويّس راهن يطيحن منك.


و ولّى الطفل هو الآخر مخلفاً عمران يعاني تفاعلات كظم الغيظ لئلا يخسر أحداً قد يغدو زبوناً مهماً في قادم الأيام رغم كل شيء.


وبينما كانت الحاوية قد بدأت تزفر ما امتصته من حرارة شمس القيلولة الساكنة في كبد السماء، وفي الطنين المتواصل للسكون الشامل، كان رأس عمران قد بدأ يتضخم ويثقل مثل حاوية؛ فيخفق فينتبه فيدرك أنه نعس زمناً ما، فيتململ فينتبه لكلب يتشمم المحتويات فينهره (شر ! يامسنور).


ثم يخفق فينتبه لقطيع ماعز كاد لولا صياحه وقرقعة أرجله أن ينكث المحتويات فيصيح (أخخخخ يامقزرات أخ) ، فيخفق فينتبه لمرور زوبعة فيتمتم (تكي عللي ما يزكي. تكي عللي ما يزكي)، ثم أخفق مع تقاطر أناس كثيرين من القرية يعرفهم؛ رجال ونساء وشيوخ وعجائز وأطفال، منهم السائل عن البيض وطالب الصرف؛ وكان بينهم رجل حرس بلدي، وازدحمت الحاوية بلزبائن في هرج وجلبة واضطراب، وهم ينكبون على صناديق الخضروات ويتدافعون تحت حزم الكسبر والمعدنوس يقطفون منها، ويجأرون أمام الميزان، وعمران ذاهل يسأل نفسه (نا نحلم ولاّ أيش؟)، مرتبك لا يعرف كيف يحقق رغبة كل واحد منهم في وقت واحد، وكيف ينسق حركته بين الميزان واستلام النقود وعدّها، حتى لفت انتباهه رجل غريب بعينين تقدحان شرراً قال:


ـ قيسكْ ما اتحقّش فينا يا عميرينا !. مالصبح ونحنا قدّام وجهك. توزن للعالم.. ونحنا.. مانكش سايل فينا. طبعاً عمن عيونك لفلوس.


فرد عمران:


ـ وسّعْ بالك يا خوي، رمضان كريم راه، أنت شايف الزحمة بروحك، وبعدين اللي يعطيه ربه ما يحسده العبد.


فصاح الرجل:


ـ وسع بالك؛ وسع بالك، لاعند أمتى بالله، ولاّ تحسابني متسلّي بالتصْبايه في هالحاوية المصدية اللي باقية اتقول شيللة.


وحينها تدخل الحرس البلدي:


ـ كنكم ياجماعة ؟؛ صلو عالنبي؛ راكم صيّام.


فبادر عمران بالصلاة والسلام على النبي وقال:


ـ ما فيش مشكلة يا فندي، والله ما عنده مشكلة يا فندي، الزبون ديمة علي حق.


ثم مد كفة الميزان للزبون وقال له:


ـ تفضل حط خضرتك ما يهمك شي.


لكن الزبون أجاب:


ـ نا ما عندي مانوزن.


فقال الحرس البلدي:


ـ باهي وشنو المشكلة؟.


فرفع الزبون كيسا إلى وجه الحرس البلدي وقال:


ـ النبي شوف؟!.


فاستفهم الحرس البلدي:


ـ شنوهذا ؟. أيش فيه؟. معدنوس!.


فأجاب الزبون:


ـ وقلتـّـا ! معدنوس!. عشر رباطي!. كلهن معدنوس. إيدهمهن للعيل اللي دازينه علي كسبر ومعدنوس. طبعاً المعدنوس واجد عنده ويبي يتخلص منه، غش يعني .


فبادر عمران:


ـ والله ماني قاصدها. ولا نذكره العيل اللي تحكي عليه.


ومرة أخرى تدخل الحرس البلدي:


ـ برضو مازال مافيش مشكلة؛ غيّر لهْ.


ومد بالكيس للزبون:


ـ امسك هـَيّ !.


فقال عمران:


ـ حاضر انغير له؛ بس بيش ايصدقني الأخ هذا، وتصدقني حتى أنت يا فندينا، نبي نقول لكم كان تبو تضحكو علي، راني والله ما انفرق بين الكسبر والمعدنوس، إلدرجة إني حاط الكسبر عليسار والمعدنوس عليمين. تو هذا هو المعدنوس؟.


فعلق الزبون:


ـ باهي افهمها إمّالا، إذا أنت بطولك وعرضك مانكش عارف الكسبر مالمعدنوس، كيف يبي يعرفه عيل اصغير؟.


فرد عمران:


ـ أيـّن عيـّل اللي تحكي ...


فقاطعه الحرس البلدي:


ـ خلاص ما قلنا مافيش مشكلة؛ عليكم بحسن النية عالأقل في رمضان.


ثم وجه كلماته للزبون:


ـ عدي غيـّرْ خضرتك وتوكل على الله.


فرد الزبون:


ـ والله حتى نا ما نعرفن من بعضهن!؛ الولية هي اللي فطنتني عليهن، أيش رايك؟.


فابتسم الحرس البلدي وقال:


ـ عادي عادي.


ودعاهما بحركة حكم يجري القرعة بين رئيسي فريقين:


ـ تعالو جاي، أقربو؛ أقربو، ريتو توا؟ موش قلتلكم عليكم بحسن النية ؟ ثم راح يبحث في جيوبه الأمامية والخلفية؛ وأخرج حافظة "كارطة" فيما الرجلان المختلفان صارا متفقين في التعجب والتساؤل، استخرج من بين الأوراق ورقة فردها أمام أعينهما وسأل:


ـ هذي ورقة شنو؟.


فقال الزبون:


ـ كارطة.


أما عمران فقد قال:


ـ بسطوني.


فقال الحرس:


ـ صح. بسطوني.


فقال الزبون:


ـ والله البسطوني والسباطة ما نعرفنش من بعضهن.


فبادر عمران:


ـ شوف !؛ قدر الظروف وحط روحك في مكان صاحب دكان كارطة؟.


فرد الزبون:


ـ تي نا الكارطة حتى اللعب ما عمري لعبتا لا بال انبيعها.


فبادر الحرس البلدي:


ـ غير صلو عالنبي بس وخلوني انكمل كلامي.


فانصت الرجلان وواصل الحرس البلدي:


ـ زمان ونا اصغير ياما كليت من طرايح وهزايب ابسبب قل التفريق بين الكسبر والمعدنوس، نين يوم كان جاينا خالي، فقال الهم خلوه عنكم، وقال لي تعال هن؛ شوف ! لما يدزوك اتخضر خوذ معاك ورقة كارطة بسطوني؛ واللي تلقاه يشبهلها راه هو المعدنوس.


فاندهش عمران للفكرة التي لم تخطر له ببال هو الذي طالما لعب الكارطة، ولطم جبينه ببطن كفه حتى ـ وقبل أن يعرب عن امتنانه لخطة الحرس البلدي المتسامح ـ أفاق مع أذان المغرب، أو ربما صوت ولد يستبق أذان المغرب.

المشاركات الشائعة