الأحد، أغسطس 22، 2010

السجين


كنت وحدي ـ وفي خيالي شاحنة خالي ـ أتزحلق على الجدار المنخفض المائل وراء بيتنا، عندما قطع علي هناءتي تلك رجل البوليس على حصانه، يتبعه رجل بدوي فتي مكتوف اليدين بحبل طويل موصول بيد العسكري، كان البدوي مثل ثور أسباني، يحرث الأرض بقدميه، ورجل البوليس ينهره ويحذره مغبة تلكؤه، فيما هو مرتبك بينه وبين الحصان الذي جن جنونه فراح يصهل ويشب وينتر برأسه المجرس، عندما لاحت له رؤوس خيول الإسطبل، وفي لحظة حدجني البدوي ثم قال للبوليس بلهجة ملحة :


ـ أهو يا شاويش أهو، غير دزهْ بس .


فشملني خوف كبير، ولكن رجل البوليس وقد سيطر على حصانه برهة قال لي :


ـ اسمع يا صغيرْ، عدي كلمْ باتكْ، قول لهْ قال لكْ الشاويش سليمان طقْ في في المركز .


ففررت بأقصى سرعة إلى البيت، أصيح قبل الوصول بمسافة كبيرة :


ـ يا باتي يا باتي يا باتي، يبيكْ العسكري .


لم أجد أبي في المربوعة، فخرجتْ أمي التي استفزها صياحي، فأخبرتها بما رأيت وما قيل لي، ولكنها لم تبال، بعكس ما كنت محتاجا، وإذ لم تقدم لهلعي أي مساعدة، وخوف أن تكلفني بواجب بارد، انسللت من حضرتها ودخلت المطبخ، الذي كان يعبق برائحة "لبراك"، واستخرجت كسرة خبز غطستها في طنجرة الشربة، ورحت انفخها هي والحادثة الصاخبة في رأسي، وبعد طوفان بلا هدف في البيت الصغير حملتني قدماي في خفة إلى زاوية خلف البيت المقابلة لمركز البوليس، ولكنني لم أر سوى الشرطي يقف بباب المركز يسوي هندامه ويثبت قبعته، وأحسست أنه يركز نظراته علي فدق قلبي، وتوترت في انتظار أن يناديني أو يسألني، إلا أنه نظر إلى ساعته والتفت وراءه ورمى بكلمة لأحدهم داخل المبنى، واتجه ممسكا برسن الحصان يقوده إلى الإسطبل.كان أصيلا رمضانيا آخر خريفي، ألقى على واجهة المركز البنية المصفرة ضوءً تغربله الكافورة الضخمة، التي بدأت تضج وتصخب بشقشقة طيور "أم بريم".


حادثة كتلك لم تكن لتمر بهذه السرية لو لم تكن في تلك الساعة الأخيرة قبل المغرب من شهر رمضان، حيث كان كل الناس في بيوتهم، إلا ذاك البدوي المسكين، الذي فكرت أن إفطاره بعيدا عن أولاده لن يكون سوى كسرة خبز يابسة مرطبة في ماءٍ بارد، يمدها له البوليس في ماعون مطعج من تحت الباب الحديدي للحجرة المظلمة دائما، كنت حزينا حزنا زاده أو شاركني فيه صمت القرية وغبش الغروب المذرور على ذرى المباني والأشجار، وتلك النسمة اللاسعة، وخلاء الشبابيك من أي حركة بعد أو ضياء، وكان في طرف واجهة المركز كوة صغيرة سوداء خيل لي من خلالها ومن على ذلك البعد عينا البدوي السجين .


في مثل تلك اللحظات كنت عادة ما أسمع أمي تصيح في أن أتنصت إذا كان المغرب قد أذن، ولم يخرجني من خواطري إلا الأذان، فألقيت نظرة أخيرة إلى الكوة. عند عتبة البيت وجدت جارتنا عائشة تواسي أمي، التي كانت وهي تعد الفنارات تبكي، خجلت أمام جارتنا أن أعبر عن ضيقي وألمي من بكائها الذي لم أعرف سببه، وإن فهمت من خلال كلماتها أن السجين من أقاربنا، وأن ثمة رجلا آخر من أقاربنا أيضا في المستشفى، وأن حالته خطيرة، وعبرتْ أمي عن أسفها على مصير امرأة اسمها كثلوم وأولادها، ولكن جارتنا عائشة ـ وفيما هي تحني قامتها لتجتاز من خلال البوابة الواطئة بين بيتها وبيتنا ـ قالت أنها لم تنزل الإفطار من على النار بعد، ثم بصوت أعلى أضافت:


ـ لا تخافي يا حنة، إن شاء الله ما يكونْ الله إلا الخير .


فردتْ عليها أمي :


ـ هو وين الخير، فرقتْ والله الخير يا مينه، وحياتك ما عمره واحد اضرب عالمصيرع ونظر خير، اسم الله يا بوي اسم الله .


وكنت أنتظر لأتأكد هل أمي تتحدث عن البدوي، ومن أين لها بهذه المعلومات، وما هو المصيرع، إلا أن أبي جاء داعيا بنحوٍ آمرٍ ضيفا تأخر وراءه :


ـ تفضلْ، تفضلْ، تفضلْ، قدمْ تعال جاي .


ولم يكن الضيف سوى البدوي، مددت له يدي لكنه مسح على رأسي بشدة دون كلمة واحدة، وسلمتْ عليه أمي وعاتبته قائلة :


ـ ليش يا باتي ؟، أيش زر كمْ علي ها الدوه ؟، لرض لله وتبقى لله يا بو مراجع .


فقاطعها أبي بلهجته الساخرة :


ـ إي خرف والله، أنت غير عدي جيبي لنا فنار ، وسقدينا بالفطور .


فأكملتْ حديثها في المطبخ بنفس الحرارة والحرص.تقدمتها إليهما بالفنار، وتلون الجدار بظل البدوي حتى السقف، وجلست للعشاء معهم، وكنت طوال الإفطار معلقا بصري بوجه البدوي، كان حاجباه مداريي الرسم بينهما نقطة وشم، وعيناه كبيرتين، كان يأكل بنهم وتختفي الملعقة في فمه، وأسنانه تصدر سكسكة، وصدغاه ينبضان مع المضغ، وسنان من فكه العلوي تتوسدان شفته السفلى كلما ازدرد لقمة، وكان طوال الوقت ينظر إلي نظرات خاطفة متساوية الزمن، وكانت رائحة قدميه طاغية.


بعد تناول الإفطار تراجع جارا نفسه إلى الجدار، وأشعل لفافة، وفي الصمت الذي لم يدر فيه حوار بين الرجلين ، قرقعت الأواني تحت الغسيل في المطبخ، وتناهى نباح الكلاب، حتى سمعنا أحداً يصيح، فهب الضيف واقفا، وعند عتبة البيت جلس يرتدي حذاءه، ثم نهض في العتمة قائلا :


ـ هيْ السلام عليكم .


وجاء صوت أمي :


ـ أنتو خلوا الراجل نين يشرب شاهيهْ ، الشفاعة يا رسول الله !.


فرد أبي وهو يستلقي ويضع ساقاً على ساق :


ـ الساعْ يشربها في دار خالتهْ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة