الاثنين، أكتوبر 25، 2010

أيها الخبز


أيها الخبز
من الطحين والماء والنار تربو
كثيفاً خفيفاً متسعاً مستديراً
إنك صنو لبطن الأم
أيها النبت الأرضي المعتدل
أيها الخبز
كم أنت سهل وعميق
على خشبة الفرن البيضاء تمتد صفوفك
كالأدوات كالصحون أو كالأوراق
وفجأة تغمرك موجة الحياة
وامتزاج البذرة بالنار
فتربو وتربو فجأة
كقامة كفم كنهد
ومن هضاب الأرض والحيوات
تتصاعد الحرارة ، وريح الخصب
وعندئذ يتجمد لونك الذهبي مخصباً أشكالك
وتطبع الجراح السمراء
لذعتها على أرغفتك المذهبة المستديرة
والآن ها أنت ذا مكتمل
يا صنيع الإنسان
يا معجزة تتكرر
يا إرادة الحياة
أوه! ... يا خبز كل فم
إننا لا نستجديك استجداء
فالناس ليسوا متسولين
أمام الآلهة الغامضة
أو الملائكة القاتمة

* * *
من البحر والبر سنصنع خبزاً
سنزرع القمح على الأرض وفي الكواكب
وخبزَ كلّ فم ، كلّ إنسان ، سيأتي كل يوم
لأننا سننطلق لنزرعه ، ولنصنعه
لا لإنسان واحد
بل لكل الناس
الخبز ، الخبز لكل الشعوب
ومع الخبز كل ما له شكل الخبز وطعمه
لكل الشعوب : الأرض والجمال والحب
فلهذا كله طعم الخبز ، وشكل الخبز ، ونبت الطحين
لقد وجد كل شيء ليوزع ، ليُعطى ، ليتضاعف
ومن أجل ذلك ، إذا هربت أيها الخبز من بيت الإنسان
وإذا خبئوك وأنكروك
وإذا دنسك البخيل واحتكرك الثري
وإذا لم ينشد القمحَ الثلم والتراب
فإننا أيها الخبز لن نتضرع إليك
ولن نستجديك
بل سنناضل من أجلك مع الناس الآخرين
مع الجياع
لن نذهب لنفتش عنك في أعماق الأنهار وطبقات الهواء
بل سنزرع الأرض كلها لتستطيع أن تنبت
وستتقدم الأرض معنا
وسيناضل معنا الماء والنار والإنسان
سننطلق متوجين بالسنابل
كاسبين الأرض للجميع والخبز للجميع
وستغدو الحياة عندئذ كالخبز
بسيطة ، عميقة ، خصبة ، صافية
وسيكون للكائنات كلها حق في الأرض
وحق في الحياة
وهكذا سيكون خبز المستقبل
خبز كل فم
خبزاً مقدساً مباركاً
لأنه سيكون ثمرة أقسى وأطول نضال إنساني
إن الانتصار الأرضي لا أجنحة له
ولكنه يحمل خبزاً على كتفيه
ومن أجل أن يحرر الأرض
يطير باسلاً كخبّازة يجرجرها الريح .

ـــــــــــــــــــــ
بابلو نيرودا
ترجمة أحمد سويد

السبت، أكتوبر 23، 2010

مرثية مُُُصارع الثيران






النطحة والموت












في الخامسة عند المساء
كانت تمام الخامسة عند المساء
حمل طفل الغطاء الأبيض
في الخامسة عند المساء
قفة جير كانت جاهزة
في الخامسة عند المساء
الباقي موت ولا شيء غير الموت
في الخامسة عند المساء
طيّر الريح الأقطان
في الخامسة عند المساء
الصدأ زرع البللور والنيكل
في الخامسة عند المساء
تتصارع فعلاً الحمامة مع الفهد
في الخامسة عند المساء
فخذ مع قرن ثور
في الخامسة عند المساء
بدأت أصوات الوتر السميك
في الخامسة عند المساء
في الزوايا نقف حشود الصمت
في الخامسة عند المساء
الثور وحده مرتفع الهمة
حين جاء عرق الثلج
في الخامسة عند المساء
حين كسيت الحلبة باليود
في الخامسة عند المساء
والموت فرّخ في الجرح
في الخامسة عند المساء
في تمام الخامسة عند المساء
تابوت بعجلات كان هو السرير
في الخامسة عند المساء
وعظام ونايات تتردد في أذنيه
في الخامسة عند المساء
ويخور الثور من جبهته
في الخامسة عند المساء
الغرفة ملونة بألوان النزع الأخير القزحية
في الخامسة عند المساء
الغنغرينا قادمة من بعيد
في الخامسة عند المساء
أبواق الزنبق للحالبين الأخضرين
في الخامسة عند المساء
الجراح تحرق مثل الشموس
في الخامسة عند المساء
الحشود تهشم النوافذ
في الخامسة عند المساء
في الخامسة عند المساء
آه يا لهول الخامسة عند المساء
كانت الخامسة في دورة كل الساعات
كانت الخامسة في ظل المساء







الدم المسفوح






لا أريد أن اراه
قل للقمر أن يأتي
وإني لا أريد أن أرى دمَ انياتزو مسفوحاً فوق الحلبة
لا أريد أن أراه
القمر في تمامه
جواد الغيوم الهادئة
وحلبة الحلم الرمادية
مسيجة بأشجار البان
لا أريد أن أراه
ذاكرتي تحترق
قولوا للياسمين
بزهيراته البيض
لا أريد أن اراه
بقرة العالم القديم
تمرّ بلسانها الحزين
فوق وجه مخضب بالدم
المسفوح فوق الحلبة
وثيران غيساندو شبه موت وشبه صخر
تخور خوار قرنين من الزمن
مرهقة من الضرب في متاهات الأرض
لا
لا أريد أن أراه

وفوق الدرجات صعد انياتزو
حاملاً كل ثقل موته فوق ظهره
باحثاً عن الفجر
ولكن الفجر لم يبزغ
كان يبحث عن صورته الجانبية الواثقة
ولكن الحلم يشقيه
كان عن جسمه الجميل
فوجد دمه المراق
لا تطلبوا مني أن أراه
لا أرغب في سماع التدفق
يتناقص كل حين
هذا التدفق الذي يثير
الدرجات وينقلب
فوق مخمل الجموع الظامئة وجلودها
التي تهتف بي أن أتقدم
لا تطلبوا مني أن أراه
لم تغمض عيناه
حين رأى القرنين يقتربان
ولكن الأمهات الرهيبات
رفعن رؤوسهن
ومن الحظائر هبت ريح من الأصوات الخفية
تصرخ بالثيران السماوية
قطعان الضباب الشاحب

لم تعرف أشبيلية
أميراً يمكنها أن تقارنه به
ولا سيفاً مثل سيفه
ولا قلباً أصيلاً مثل قلبه
كنهر من الأسود
كانت قوته العجيبة
وكتمثال مرمري
كان حكمته المتوازنة
نفحة من روما الأندلسية
تعطر رأسه
حيث كانت ابتسامته
ناردينا من الملح والذكاء
ما أعظمه من مصارع في الحلبة
ما أروعه من جبلي فوق الجبال
وما أرقه مع السنابل
وما أقساه مع المهاميز
ما ألطفه مع الندى
ما أبهره في المحافل
ما أرهبه مع آخر مهاميز العتمة

هيهات إنه نائم نوماً أبدياً
إن الطحالب والأعشاب
تفتح زهرة جمجمته
بأصابع واثقة
ودمه يتدفق
مغنياً عبر الغياض والمروج
منزلقاً على القرون المنتصبة
متعثراً بألف قبقاب
مثل لسان طويل حزين قاتم
لكي يشكل بئراً الاحتضار
قرب الوادي الكبير وادي النجوم
آه يا جدار أسبانيا الأبيض
آه يا ثور الشقاء الأسود
آه يا دم انياتزو الدفاق
يا بلبل عروقه
كلاّ
لا أريد أن اراه
ليس هناك كأس يحويه
ولا طيور خطاف تشريه
ولا جليد نور يجمده
ولا أغنيات ولا طوفان الزنابق
ولا بللور يمكن أن يكسوه بالفضة
لا . ولا أريد أن أراه .








جسد حاضر







الصخرة جبهة تنتحب فوقها الأحلام
بلا مسارب مائية ملتوية
ولا سرو مقرور
الصخرة كتف يحمل الزمن
بأشجار الدموع والأشرطة والكواكب
رأيت أمطاراً رمادية تهرع نحو الموج
رافعة أذرعها الرهيفة المثقوبة
كي لا تحبسها الصخرة
التي تفك الأطراف دون أن تشرب الدم
ذلك أن الصخرة تجني البذور والغيوم
وهياكل القبرات
وذئاب العتمة
ولكنها لا تهب أصواتاً ولا بللوراً ولا ناراً
ولكن حلبات وحلبات ومزيداً
الحلبات الخالية من الأسوار

وهاهو الآن انياتزو
الحسيب النسيب
يرقد فوق صخرة
ها هو قد انتهى
ماذا يحدث ؟
تأملوا هيأته
لقد غطاه الموت بكبريت شاحب
وثبت فوقه رأس ثور صغير غامض
لقد انتهى والمطر يتسرب إلى فمه
والريح كالمجنون تحفر صدره
والحب المبلل بدموع الثلج
يلتمس الدفء فوق قمم الحظائر
ماذا يقولون ؟
صمت عفن يهيمن
نحن مع جسد حاضر يتلاشى
في هيأة صافية كالعنادل
ونحن نراه يمتلئ
بثقوب ليس لها قرار

من الذي يجعد الكفن ؟
ليس صحيحاً ما يقول
هنا لا أحد يغني ولا أحد يبكي
في الزاوية
ولا أحد يغرز المهاميز أو يخيف الثعبان

هنا لا أريد شيئاً سوى العيون المستديرة
لكي أرى هذا الجسد دون راحة ممكنة

أريد أن أرى الرجال ذوي الأصوات القاسية
أولئك الذين يروضون الخيول
ويهيمنون على الأنهار
الرجال الذين تجلجل هياكلهم العظمية ويغنون
بفم ملئ بالشمس والحصى
هنا أريد أن أراه أمام الصخرة
أمام هذا الجسد المقطوع الأعنة
أريد أن يدلوني على منفذ
لهذا القائد المشدود على الموت
أريد أن يعلموني أغنية
متدفقة مثل النهر
موشحة بالغيومالحلوة
والضفاف الجميلة
حتى تحمل جثمان انياتزو
الذي يضيع
دون أن يصغي إلى أنفاس الثيران
إنه يتوارى في الحلبة المستديرة للقمر
التي تبدو حين تكون ودطفلة متوجعة
وحشاً ثابتاً

يتوارى في ليلة لا يتردد فيها غناء الأسماك
وفي الغابة البيضاء للدخان المتجمد

لا أريد أن يغطى وجهه بالمناديل
لأنه سيعتاد الموت الذي يرحل به
لترحل يا انياتزو. انس الحوار اللاهب
نم . حلق . استرح .
حتى البحر يموت .








روح غائبة







لن يعرفك الثور ولا شجر التين
ولن تعرفك الخيول ولا النمال في بيتك
لن يعرفك الطفل ولا المساء
لأنك رحلت إلى الأبد
لن يعرفك ظهر الصخرة
ولا الحرير الأسود حيث سيتحلل جسدك
ولن تعرفك ذكراك الصامتة
لأنك رحلت إلى الأبد
سيأتي الخريف
بقواقع حلازينه
وستأتي عناقيد الضباب
وحشود الجبال
ولكن لن يرغب أحد في رؤية عينيك
لأنك رحلت إلى الأبد
لأنك مت إلى الأبد كسائر أموات الأرض
كسائر الأموات الذين يُنسون في ركام من الكلاب الهامدة
لا أحد يعرفك . كلا !
ولكني سأغنيك
أغني اللفتة الجانبية من محياك
ولطفك
والنضج العظيم لألمعيتك
شهيتك للموت وطعم فمك
والحزن الذي كان لبهجتك الشجاعة

سيتأخر كثيراً عن الميلاد
ـ هذا إن ولد ـ
أندلسي في مثل صفائك
وفي مثل غناك بالمغامرة

إني أتغنى بأناقته بكلمات تنتحب
وأذكر نسماً حزيناً يسري بين أشجار الزيتون














ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ






شعر فيديريكو غارسيا لوركا






ترجمة خليفة التليسي

الثلاثاء، أكتوبر 05، 2010

بربارا


أتذكرين بربارا ؟
كانت تمطر بلا انقطاع ذلك النهار فوق "بريست"
وأنت تسيرين مبتسمة
مفتحة .. مخطوفة .. مبللة
تحت المطر
أتذكرين بربارا ؟
كانت تمطر بلا انقطاع فوق بريست
حين تقاطعنا في شارع "سيام"
كنت تبتسمين
فابتسمتْ

بربارا !
أتذكرين ؟
أنت يا من لا أعرفها
أنت يا من لا تعرفني
ومع ذلك أتذكرين ذلك النهار ؟
فأنا لن أنسى ..
رجلاً كان يحتمي تحت بوابة
ويناديك : بربارا !
فتهرعين إليه تحت المطر
مبللة .. مخطوفة .. مفتحة
وتلقين بنفسك بين ذراعيه
أتذكرين ذلك بربارا ؟

لن أنسى
ذلك المطر العاقل السعيد
على وجهك السعيد
على تلك المدينة السعيدة
ذلك المطر فوق البحر
وترسانة الأسلحة
وباخرة "ويسان"

آه .. بربارا
أي بلاهة هي الحرب !
أين أنت الآن ؟
تحت مطر الحديد والنار والدم
وذاك الذي كان يطوقك بذراعيه مشغوفاً
أميت هو الآن ؟ مختف ٍ ؟ أم لا يزال حياً ؟

آه بربارا !
إنها تمطر بلا انقطاع فوق بريست
كما كانت تمطر من قبل
ولكن هيهات فكل شيء أصبح دماراً
إنه مطر الحداد المفزع الأليم
ليس ثمة بعد
حتى ولو عاصفة من حديد ودم
غير بضع سحابات تنفق مثل كلاب ..
كلاب تختفي
مع خيوط الماء فوق بريست
ثم تذهب تموت بعيدا
بعيداً .. بعيداً جداً عن بريست
التي لم يبق منها شيء .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشاعر الفرنسي جاك بريفيير . ديوان : كلمات .
ترجمة عبدالكريم كاصد . دار ابن رشد للطباعة والنشر . الطبعة الأولى 1981م

المشاركات الشائعة