السبت، يونيو 19، 2010

عمتي تجديدة

عوضاً عن تعرف كل واحد منكم شخصياً ـ أنتم والأجيال الآتية ـ بعمتي تجديدة علمني ربي كتابة الحكايات ..

أليس عادةً الخراريفُ العجائزُ تقصهـا ؟ ، لكن عمتي تجديدة تصنع لها أجنحة ، وحين تضيء مسبحتها تبدأ تخريفَ خراريفها أليفةِ الحيوانات.

مرة يا سيدي بن سيدي فيه هاذاك ألـ.......

إلى أن يرجع سيدي ذاوود ـ الذي يشبه السبع ـ من الحصاد ، ـ على أن عمتي تجديدة لا تشبه سوى الغزالة التي ارسلها سيدي ذاوودفي الحمادة ، ولم يذبحها ، لشبه عينيها بعينيها ..

يسعل سيدي ذاوود عند العتبة سعلتين ، فتخشخش أساورة عمتي تجديدة مرتين ، وترجع من آخر الخرافة ، ونغادر إلى بيتنا تحت جسر درب التبانة ، حين تكون كل حجرة نجمة تحت أقدامنا ، وظلالنا تفسح لنا الطريق من أزيز الجنادب ، وتكون حيوانات الخرافة قد غادرت بدورها ، فنسمع الكلاب وهي تنبحها عند أقاصي القرية ، فيما وراء سدرة الليل وسراب النهار ، ونجد أثر لهاثها وعرقها في المنعطفات .

الأربعاء، يونيو 09، 2010

محو الأمية





قبل أن يكمل الأستاذ علي قوله " ذهب محمّد إلى السوق " ، قاطعه الشيوخ قائلين معا "صلّى الله عليه وسلّم".


في أولِ مرّة في الحصّة الأولى ردّدَ هو أيضاً معهم التصلية والتسليم ، لكنّ الشيوخ لم يكفّوا عن ذلك في كلِّ مرة ، فاضطرّ إلى أن يقطع الدرس ويبيّن لهم المسألة قائلاً :


ـ " ريتو يا حِجّاج ، نحنَ توّا نتكلموا علي شخص عادي كيفنا اسمه محمّد " . فهمهم الفصل :


ـ" صلّى الله عليه وسلّم " . فانفلتتْ من الأستاذ علي ضحكة وهو يقول

ـ" دخيلتك يا رسول الله " ، وتقدّم وراح يستلم كتب القراءة من كل واحد ثم عاد وجلس إلى الطاولة وبدأ في تحويل اسم محمد إلى محمود تفادياً للّبس الطريف ، وأذن للشيوخ المدردشين بالتدخين حتى حين .

يومَ تطوّعَ الأستاذ علي ـ المعلم بالابتدائي ـ في دورة محو الأميّة لم يتصوّر أنّ التعامل مع تلاميذ شيوخ لا يقلّ إزعاجاً عن التعامل مع تلاميذ أطفال ، فلم يصدّق أنّ هؤلاءِ أيضاً يتشاجر بعضهم على المقاعد الأماميّة والجيّدة بل والملساء ، أو التي بجوار الشبابيك ، بل إنهم وقد وجدوا ساحة ثانية ، نقلوا إليها مشاكلهم في العمل والبيت والشارع ، وكان موقف الأستاذ علي حرجاً ؛ حيث لا يكون بوسعه نهر أحدٍ منهم ، ناهيك عن معاقبته كالتلاميذ الصّغار .

كانوا سبعة ًمن الشيوخ هم كلُّ طلبة الصّفِّ الأول الابتدائي من كثير لم يتحمّسوا ، متّخذين موقفاً هازئاً تحت الشّعار المعروف (وينما شاب خشّ الكتّاب) ، كان الحاج مفتاح ـ الفرّاش بالمدرسة نفسها صباحاً ـ أكثرَهم حيويّة وسلاسة ، ولم يخلُ أسلوبه من دهاء ؛ فهو يخلط في الظهيرة المقاعدَ ، مدندناً ( قروة عقاب العمر موش قراية تكمل الحصة كلها سهراية) لكي يستمتع بما سيدور بين الشيوخ من شجار حولها في المساء ، والحاج إبراهيم الخضّار الذي كان يبادر دائما ـ وقبل أن ينهي الأستاذ إحدى مسائل الحساب ـ بقوله مثلا :


ـ " خمسه وثلاثين خمسه وثلاثين ، هذي ما تبّيش فقيه ، ما اتنشفش ريقك يا اوستاد " .


وعبثا حاول الأستاذ أن يعلمه ترتيب خطوات المسألة الحسابيّة ، أو استعمال القلم أو الطباشير أو النظر إلى السبّورة أثناءَ الإجابة كلما أوقفه أمامها .


ثم الحاج يادم الذي ظلّ طيلة الدورة التعليمية يضطر إلى التردّد المستمر على دورة المياه ، بسبب السُّكريّ ، ولطالما تكرّر قوله :


ـ " أرجاني شوي يا عليوه نين انطق في بيت الراحة ونجيك ونقول لك " ثم بعد وقت يدخل الفصلَ وهويمسح يديه بمنديله الأصفر ويقدِّم الإجابة في تأكيد و زهوٍّ ، ما يثير جلبة يشارك فيها الأستاذ علي أيضاً ، ويعتبرها الجميع محطّة استراحة من عناء الدروس .

بعد أن أنهى الأستاذ علي شغله في كتب التلاميذ ، وكان طوال ذلك الوقت يهمهم ويبتسم أو يكتفي بهز رأسه ، دون أن يشارك في الأحاديث الملغّمة بالمقالب ، وقد نجح في عدم الوقوع في مصيدة ( الحقوق) التي اخترعها خامس الشيوخ الحاج الساكت الذي يسمّونه النّاكت ؛ تلك المصيدة التي كثيرا ما وقع في حبائلها سادسهم الحاج هارون ، نظرا لعصبيّته المفرطة ، التي كلّفته ـ مع العفو أحياناً ـ ثلاثة غداوات منذ انطلاق الدورة ، كان آخرها غداءُ أيام قريبة انطلقوا بعد الإتيان عليه إلى المدرسة معاً هم وأستاذهم ، وقصة الغداء هي أنّ الحاج هارون قدّمَ في حصة الحساب قائمة بأرقام طالباً من الأستاذ حاصل جمعها بالضبط ولم تكن تلك القائمة سوى أسعار خضروات الغداء المعلوم التي اشتراها من دكان الحاج إبراهيم ذلك الصباح .

استأذن الأستاذ علي بعد ذلك ، واكتفى بقوله " يعني " ردّاً على اقتراح الحاج مفتاح بأنْ تكون الأسماء والرسومات في كتاب المطالعة لشيوخ وعجائز بدل أطفال ، وطلب الأستاذ من هذا الأخير أن يوزّع الدفاتر عليهم وخرج .

لكنّ الأستاذ ، بعد خلوِّ المدرسة وسكونها ، فوجئ َ وهو يهمُّ بإقفال الباب بالحاج هارون مقبلاً نحوه فبادره بالقول :


ـ " ها ياسي هارون ، لاباس " . فأجاب الحاج هارون :

ـ " لا ، غير أنت فيه كتاب عطيت منّه الجماعة ونا ما حسبتنش فيه " .

فرفع الأستاذ حاجبيه متسائلا : " كتاب ؟ " .

فقال الحاج " آ...ء كتاب " . فاكتفى الأستاذ بهزّ رأسه سلباً ، فصاح الحاج

ـ " أيّ يِهْ !! كتاب أزرق أملس طوييييل " ، فسأله الأستاذ :

ـ " وانت وين ريته وين ؟ " ، فنتر الحاج هارون جسده وصاح أعلى أكثر:

ـ " انت كنك اتحقق امعاي ؟ امكذّبني ولاّ ايش ؟ ، راني انبيت عليك حق

وتصاعد بينهما جدال ، قرقعت أثناءه سلسلة الحديد بشباك الباب ، لم يسمح للأستاذ أن يتذكّر أنّ الكتاب ما هو إلاّ سجِلّ الغياب والحضور، تأبّطه الحاج الساكت عفواً .... أو قصداً .

الأربعاء، يونيو 02، 2010

بير عز



لم يكن صباحاً ذلك الوقت الذي وقفت فيه الحاجة مليحة ، مستندة إلى السور المنخفض، الذي رمّمه المرحوم زوجها بالطين حمايةً للتنور وشجرة التوت ، قدام البيت الإيطالي الضخم الجاثم مهيباً على التلة ، في الجهة العليا من القلعة التي هي قريتنا، ذي السقف العالي المنسجم مع قمة الصنوبرة الهرمة المائلة لتخفي الجزء الأكبر من نافذته الكبيرة، التي لو دعمت بدرجة أو درجتين أسفلها لكانت باباً.


البيت الذي كان سجناً أيام الطليان كما يروي شيوخ القرية، العالي السقف علواً لو استغل أفقياً لازداد عدد حجراته، كما هو تعليق الحاجة مليحة المتأسف في كل مناسبة يضيق فيها البيت ـ أو تضيق هي ـ بالضيوف.

لم يكن صباحاً ذلك الوقت إذن، وإلا لكانت الحاجة مليحة تشق الدرب الأحمر النحيل ـ الذي يقسم الوادي الذي يقسم القرية حيين ـ بأنفاس أعلى تلوح حيناً وتتوارى بين جداري السنابل والخبّيز راجعة من الحظائر، حاملة فوق رأسها سطل حليب طازج، مقطعةً دندنتها بكلماتٍ منفلتة من حوار داخلي، وأساورها في ذراعيها ترنـّن كلما ناوبت بينهما في حمل ما تحمل.

ولم يكن قيلولة، حتى تكون في الشباك الخلفي العالي تصيح مرة واحدة، مثلما في كل قيلولة كل يوم:

(يا مسعوآد)، الذي تعرف أنه لن يكون إلا مع أقرانه، وقد انهمك في جمع خنافس "بودرنـّه" من تحت أرواث البقر الذي ألجأه "بوطقـوق" إلى ظلال دار "الماتوري"، ولهبّ تاركاً ما جمع من أغنام لعبته تلك، وقد مسه انزعاج من ذلك الصوت الجبروتي، الذي صدر على إثره في ثلاثةٍ أو أربعة من بيوت القرية عن الآوين في رطوبتها من أصحاب الدكاكين الهاجعين هجيراً، كم تعليقاً ساخراً أو متبرماً من العجوز الشمطاء، التي لا تقيل ولا تدع أحداً يقيل.

كما لم يكن عصراً ذلك الوقت، حتى تكون العجوز مليحة واقفة تصيح ـ بلا شك مثل عصر كل يوم ـ منادية على ابنها بـ (يا مسعوآد). مضيفة هذه الألف الممدودة لدعم الموجات الهوائية لتنقل إلى الولد حيثما يكون من القلعة ـ في أحد أبراجها أو إحدى حجرات الحراسة أو في مخبأ من المخابئ أو متزحلقاً على صفيحة على أحد الأسيجة الخفيضة المنحدرة ـ رغبتها الملحة في أن يكون ماثلاً في التوّ بين يديها، المتدلي من إحداها قفـّة أو برميل، أو ديك مذعور يصيح بعد صياحها، أو تصيح بعد صياحه، داهمته في "البونيـّه"، لكي يذبحه ذكر البيت الوحيد بعد المرحوم، أو يحمله للسوق.

إنما كان غروباً ذلك الوقت، ذلك الوقت الذي وقفت فيه العجوز مليحة، وهي تنعب نعيباً ـ ولا تصيح ـ أو تخور خواراً مثل بقرة تشممت دماء عجلها (يا عـ آآآآز)، ثم تتبع ذلك بتمتمات مسموعة وأدعية واستفهامات مفجوعة عن اختفاء ابنتها حتى ذلك الوقت المريب، (ياعـآآآز)، وحيث أن هذا الاسم يقيّد حنجرتها الملعلعة دون تمديده أو تفخيمه، فقد كانت تضيف (يا بنيّة هيه، يا هييييييه ! روّحي عطك ادعوه، روّحي راكي نشفت ريقي الله اينشف ريقك)، فيما عيناها ترصدان زاوية الباب الصغير للقلعة حيث البئر.

لكنّ عزّ لم تلح وهي تنوء بحمل سطل من الماء يندلق على ساقيها مع كل خطوة من خطواتها المتعثرة في الأحجار النابتة، أو تقف بعد كل مسافة لترفع طرف ردائها الذي سقط فانغمس في مائه البارد، وحينا آخر ترصدان باباً من أبواب الجيران قد يصر صريرا طويلاً تتبعه كركرات عز والبنات.

طال صياح العجوز وتعرض صوتها المبحوح، ثم وهن ووهن ووهن، فانغمس شيئاً فشيئاً في الهمس، إذ كان قلبها قد انتشر وراء فلذته في الجهات، ممتزجاً بغبار غروب تذرذره أجنحة أوّل طيور الليل فوق أسطح البيوت القديمة، وقرص الشمس المحمرّ يتقسم مربعات فمربعات خلل شريط الكوى على طول الجزء الغربي من سور القلعة، ثم صارت تلوح خيالات قامات في الظلام، تتدلى بمحاذاتها فنارات واهنة الضياء حزينته، كأحداق الكائنات الليلية، وتتسرب وتضطرب وتحتشد وتتفرق في أنحاء من أزقة وزوايا القلعة الإيطالية الطلل.

المشاركات الشائعة