تجمّع عدد كبير من أهل
القرية في أول السوق ، يراقبون مصطفى سالم و آخرين يعالجون ذلك الصندوق الفولاذي
اللمّاع الشبيه بخزانة مكتب المدير ، الذي كان قليل منهم يعرفون أنه شوّاية دجاج ،
وبعضهم قد عرف بعد أن أجاب بعض العارفين بلغة من الضيق والمنّة ، على أسئلة فضوليين
، ظلّوا في تقاطرهم . تواترت الأسئلة وتنقلت الإجابات من هذا إلى ذاك :
ـ تي شني
ها البصيرة ؟ .
ـ شوّايهْ
، شواية دجاج .
ـ أيش
دوّةْ ها الدولاب ؟ .
ـ أيّنْ
دولاب يا راجل ؟ ، هذي شوّاية دجاج محمّر .
ـ ها
الدعوة ايسمه ؟.
ـ قالوا
شوّاية دجاج ...
لكن مصطفى سالم الذي
أحنقه انحشار مستطيل الشوّاية في مربّع السيارة ، علاوة على عدم نجدة الفضوليين له
، انتفض منتصبا ومختصرا وقاطع أحدهم ، موجّها كلامه للجميع (تي هيا كل حد يعدّي
يشوف شغله سبحان الله العظيم ، من صبح ربي هذي شني هذي شني هذي شني ، ما قلنالكم
ميّة مرة شوّاية ، آءْ شوّاية !! اما لا بقـّاري ! هَيْ توكلوا علي ربكم) ،
فانفض التجمّع بتثاقل وتعليقات ، ولم يبق إلا بعض الأطفال ، على بعد خطى في حذر من
مصطفى .
ومصطفى سالم هذا شابٌّ
ينتسب إلى قبيلة القرية، إلا أنه عاش طفولته وأول شبابه في المدينة إلى أن توفى
والده الذي كان عاملا في المينا ، فعاد مع أمّه وأخواته ليكونوا قرب ذويهم في
القرية .
لم يصدق أحد من الشباب ـ كما لم يصدق مصطفى
نفسُه ـ أن هذا الشاب سيستطيع العيش فيها ، لكن مصطفى بعد مناسبات ومحاولات للعودة
إلى المدينة رضي بزيارتها كلَّ خميس ، ثم مع الأيام ألف القرية ، وانسجم مع أناس
تجري في عروقهم نفس الدماء الجارية في عروقه ، ولم يبق من ابن المدينة ذاك إلا تلك
المفاجآت التي يطالعنا بها كل رمضان ، دون أن يعي أنه بذلك إنما يطفئ حنينه إلى
ذكريات المدينة .
من تلك المفاجآت
الرمضانية جلبه لصندوق لعبة "الجتــّوني" ، ثم في موسم آخر أقام كشكاً
لبيع "السفنز والزلابيا" ،ولكل حكاية من هذه الحكايات حكاية ، وفي رمضان
موضوع حكايتنا جلب شوّاية الدجاج هذه .
بعد العصر ، حين دارت
الدواليب بصفوف الدجاجات دوراتها الأولى
فوق ألسنة اللهب ، كان خبر وصول الشواية يدور أحاديث أحاديث على كل لسان في كل
القرية ، ففي المسجد أثناء درس الوعظ ـ وردّا على سؤال من صبي الحلاق جار
دكانه للمجزرة (شمُّ دخان الدجاج المحمّر يفطّرْ ولاّ لا ؟) ، كان الواعظ محمرّ
الأوداج ، رغم محاولته أن يبدو ساخرا ، يتناول أمر هذه الآلة الغريبة الجهنمية
التي هي مدعاة للترف والبذخ ، وإفساد صيام الفتية بإثارة شهوة بطونهم ومتى ؟ ، في
أول يوم من أيام شهر الكفّ عن الشهوات ، ونصح الحلقة بأن يبادروا بتهوية بيوتهم ،
وأن يجتنبوا ما استطاعوا اعتراض سحابة دخان الشيّ أما من اضطر فليتخذ كمامة ، وقد
فهم الموعوظون بنحو ما أن هذا الدجاج ـ الذي لا علم لهم بمصدره أو كيف تم ذبحه ـ
به شبهة حرمة شمه والنظر إليه فضلاً عن شرائه وأكله .
وفي السوق ـ على
المصطبات المستطيلة ـ كان الكهول والشيوخ ـ بأنوف تتشمم دخان الشوّاية الشهيّ ،
وبأعين تقتطف خطفا مشهد الدجاج المتقاطر دهنا كلعاب بعضهم ـ يضربون كفّا بكف
صائحين بعبارات صفراء وبرتقالية وحمراء في شأن الدجاج المحمر :
ـ لا حول
ولا قوة إلا بالله ، خسارة يا بوادي.
ـ والله
هذا آخر زمان صحيح ، دجاج محمّر ؟ عشنا وشفنا .
ـ توّْ
اصطوفة المهبول حاطّ في عقله إنّا نريدوا نشروا منّهْ ها المرطزة ؟.
ـ الله
يرحمك يا حاج سالم ، ما من عصَرْ فيك ، صدق اللي قال الجمل ما يخلّفْ إلا البعر.
أما في البيوت فقد وجدت
النساء ما يعينهنّ على أداء واجب يوميّ رمضاني ثقيل ، فكدن ـ من شدّة الشغف
والابتهاج بهذا الخبر ـ أن يقطّعن أصابعهن على سُفر الخضروات ، كما تمنّى بعضهن لو
يُعفَين من إعداد الإفطار أحياناً ، بأن يشتري لهنّ الرجال عددا من الدجاجات
المحمّرات الجاهزات ، بل لقد خفت العجائز والقواعد من النساء في رطوبة الحجرات الجوّانية ، يلملمن أرديتهن
ويعالجن محارمهن في انحناء ودبيب ، كمخلوقات موسمية داهمها المطر ، ورحن يطلقن
الصيحات والأدعية على مصطفى بجاه غرّة الشهر أن لا يربحه الله وأن يشويه في جهنم
شيّاً ، وهن ينقلن ـ كما تنقل القطط جراءَها ـ حظائرَ الدجاج قرب الجدران ، ويحرضن
الصغار على القبض على الديوك المذعورة قبل
أن تغرب الشمس ، ويغرينهم بالبيض أو الحلوى أو بأرباع الجنيهات المعطرة بالقرنفل.
عند الغروب ورغم روائح
الأطعمة الرمضانية ، فاحتْ رائحة دجاجات
مصطفى سالم المحمّرة بامتياز ، وإن لم ينقص منها واحدة ، ولم يستطع صمت
القرية المتأهبُ أهلها للإفطار أن يكتم زقزقةَ دولاب الشواية وهو يحتكّ بجوانبها ،
وكان مصطفى سالم قد دنى من الشوّاية ليصطلي بدفئها ، وقطط القرية على أسطح البيوت
وحوافّ الطرقات وعلى مظلة الدكان وتحت الشوّاية عند أقدام مصطفى تتمسّح بساقيه ،
محدّقة كلُّها بأعينها على ألوانها ، حينا في الدجاجات وحينا في عينيه ، وتملأ
أذنيه بمواءٍ شهوانيّ ، أغرق قلبه في حزن وشفقة على العالم الجائع .