الثلاثاء، أغسطس 14، 2012

دجاج محمّر




تجمّع عدد كبير من أهل القرية في أول السوق ، يراقبون مصطفى سالم و آخرين يعالجون ذلك الصندوق الفولاذي اللمّاع الشبيه بخزانة مكتب المدير ، الذي كان قليل منهم يعرفون أنه شوّاية دجاج ، وبعضهم قد عرف بعد أن أجاب بعض العارفين بلغة من الضيق والمنّة ، على أسئلة فضوليين ، ظلّوا في تقاطرهم . تواترت الأسئلة وتنقلت الإجابات من هذا إلى ذاك :
ـ تي شني ها البصيرة ؟ .
ـ شوّايهْ ، شواية دجاج .
ـ أيش دوّةْ ها الدولاب ؟ .
ـ أيّنْ دولاب يا راجل ؟ ، هذي شوّاية دجاج محمّر .
ـ ها الدعوة ايسمه ؟.
ـ قالوا شوّاية دجاج ...
لكن مصطفى سالم الذي أحنقه انحشار مستطيل الشوّاية في مربّع السيارة ، علاوة على عدم نجدة الفضوليين له ، انتفض منتصبا ومختصرا وقاطع أحدهم ، موجّها كلامه للجميع (تي هيا كل حد يعدّي يشوف شغله سبحان الله العظيم ، من صبح ربي هذي شني هذي شني هذي شني ، ما قلنالكم ميّة مرة شوّاية ، آءْ شوّاية !! اما لا بقـّاري ! هَيْ توكلوا علي ربكم) ، فانفض التجمّع بتثاقل وتعليقات ، ولم يبق إلا بعض الأطفال ، على بعد خطى في حذر من مصطفى .
ومصطفى سالم هذا شابٌّ ينتسب إلى قبيلة القرية، إلا أنه عاش طفولته وأول شبابه في المدينة إلى أن توفى والده الذي كان عاملا في المينا ، فعاد مع أمّه وأخواته ليكونوا قرب ذويهم في القرية .
 لم يصدق أحد من الشباب ـ كما لم يصدق مصطفى نفسُه ـ أن هذا الشاب سيستطيع العيش فيها ، لكن مصطفى بعد مناسبات ومحاولات للعودة إلى المدينة رضي بزيارتها كلَّ خميس ، ثم مع الأيام ألف القرية ، وانسجم مع أناس تجري في عروقهم نفس الدماء الجارية في عروقه ، ولم يبق من ابن المدينة ذاك إلا تلك المفاجآت التي يطالعنا بها كل رمضان ، دون أن يعي أنه بذلك إنما يطفئ حنينه إلى ذكريات المدينة .
من تلك المفاجآت الرمضانية جلبه لصندوق لعبة "الجتــّوني" ، ثم في موسم آخر أقام كشكاً لبيع "السفنز والزلابيا" ،ولكل حكاية من هذه الحكايات حكاية ، وفي رمضان موضوع حكايتنا جلب شوّاية الدجاج هذه .

بعد العصر ، حين دارت الدواليب بصفوف الدجاجات دوراتها  الأولى فوق ألسنة اللهب ، كان خبر وصول الشواية يدور أحاديث أحاديث على كل لسان في كل القرية ، ففي المسجد أثناء درس الوعظ ـ وردّا على سؤال من صبي الحلاق جار دكانه للمجزرة (شمُّ دخان الدجاج المحمّر يفطّرْ ولاّ لا ؟) ، كان الواعظ محمرّ الأوداج ، رغم محاولته أن يبدو ساخرا ، يتناول أمر هذه الآلة الغريبة الجهنمية التي هي مدعاة للترف والبذخ ، وإفساد صيام الفتية بإثارة شهوة بطونهم ومتى ؟ ، في أول يوم من أيام شهر الكفّ عن الشهوات ، ونصح الحلقة بأن يبادروا بتهوية بيوتهم ، وأن يجتنبوا ما استطاعوا اعتراض سحابة دخان الشيّ أما من اضطر فليتخذ كمامة ، وقد فهم الموعوظون بنحو ما أن هذا الدجاج ـ الذي لا علم لهم بمصدره أو كيف تم ذبحه ـ به شبهة حرمة شمه والنظر إليه فضلاً عن شرائه وأكله .

وفي السوق ـ على المصطبات المستطيلة ـ كان الكهول والشيوخ ـ بأنوف تتشمم دخان الشوّاية الشهيّ ، وبأعين تقتطف خطفا مشهد الدجاج المتقاطر دهنا كلعاب بعضهم ـ يضربون كفّا بكف صائحين بعبارات صفراء وبرتقالية وحمراء في شأن الدجاج المحمر :
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ، خسارة يا بوادي.
ـ والله هذا آخر زمان صحيح ، دجاج محمّر ؟ عشنا وشفنا .
ـ توّْ اصطوفة المهبول حاطّ في عقله إنّا نريدوا نشروا منّهْ ها المرطزة ؟.
ـ الله يرحمك يا حاج سالم ، ما من عصَرْ فيك ، صدق اللي قال الجمل ما يخلّفْ إلا البعر.
أما في البيوت فقد وجدت النساء ما يعينهنّ على أداء واجب يوميّ رمضاني ثقيل ، فكدن ـ من شدّة الشغف والابتهاج بهذا الخبر ـ أن يقطّعن أصابعهن على سُفر الخضروات ، كما تمنّى بعضهن لو يُعفَين من إعداد الإفطار أحياناً ، بأن يشتري لهنّ الرجال عددا من الدجاجات المحمّرات الجاهزات ، بل لقد خفت العجائز والقواعد من النساء  في رطوبة الحجرات الجوّانية ، يلملمن أرديتهن ويعالجن محارمهن في انحناء ودبيب ، كمخلوقات موسمية داهمها المطر ، ورحن يطلقن الصيحات والأدعية على مصطفى بجاه غرّة الشهر أن لا يربحه الله وأن يشويه في جهنم شيّاً ، وهن ينقلن ـ كما تنقل القطط جراءَها ـ حظائرَ الدجاج قرب الجدران ، ويحرضن الصغار على  القبض على الديوك المذعورة قبل أن تغرب الشمس ، ويغرينهم بالبيض أو الحلوى أو بأرباع الجنيهات المعطرة بالقرنفل.

عند الغروب ورغم روائح الأطعمة الرمضانية ، فاحتْ رائحة دجاجات  مصطفى سالم المحمّرة بامتياز ، وإن لم ينقص منها واحدة ، ولم يستطع صمت القرية المتأهبُ أهلها للإفطار أن يكتم زقزقةَ دولاب الشواية وهو يحتكّ بجوانبها ، وكان مصطفى سالم قد دنى من الشوّاية ليصطلي بدفئها ، وقطط القرية على أسطح البيوت وحوافّ الطرقات وعلى مظلة الدكان وتحت الشوّاية عند أقدام مصطفى تتمسّح بساقيه ، محدّقة كلُّها بأعينها على ألوانها ، حينا في الدجاجات وحينا في عينيه ، وتملأ أذنيه بمواءٍ شهوانيّ ، أغرق قلبه في حزن وشفقة على العالم الجائع .

الاثنين، فبراير 14، 2011

عن العش 1




إنه لمن الأمور المثيرة للدهشة أنه ـ حتى في بيوتنا التي يغمرها الضوء ـ يستدعي وعينا بهناءة البيت مقارنةًً بالحيوانات في مآويها . نجد مثالاً على ذلك بالسطور التالية التي كتبها الرسام فلامنك عندما كان يعيش حياة هادئة في الريف : " السعادة التي أشعر بها وأنا جالس أمام النار ، بينما تهدر العاصفة غاضبة في الخارج هي هناءة حيوانية خالصة ، فالفأر في جحره ، والأرنب في وجاره ، والأبقار في الإسطبل ، تشعر دون شك بالرضى ذاته الذي أشعر به " .

وفي عالم الجمادات نضفي دلالة غير اعتيادية على الأعشاش . نريدها أن تكون كاملة ، وأن تكون علاقة غريزة مؤكدة ، ونحن نعجب لهذه الغريزة ، ونعتبر العش إحدى عجائب الحياة الحيوانية . ونجد هذا الادعاء بكون العش كاملاً في أحد أعمال امبرواز باري ، إذ يقول :
" إن الحذق الذي تبني به الطيور أعشاشها يبلغ حد الكفاءة الكاملة . إنها بهذا تتفوق على جميع البنائين والنجارين والمعماريين ، إذ لا يوجد رجل واحد قادر على بناء بيت له ولأطفاله أكثر ملاءمة من العش . يصدق هذا إلى درجة أن المثل يقول : " الإنسان قادر على صنع كل شيء عدا عش الطائر " . ولكن الحقيقة العلمية تخفف من هذا الحماس . مثال ذلك كتاب آرثر لاندربور توماس (العصافير) الذي يقول لنا فيه أن كثيراً من العصافير ما يكاد يبدأ بناؤها للعش حتى تفسده بخرق . " عندما يعشش النسر الذهبي في شجرة ، يجمع في بعض الأحيان كومة كبيرة من الأغصان يضيف إليها في كل سنة المزيد ، إلى أن يأتي يوم يسقط العش متناثراً بسبب ثقله "

تابعنا تاريخ علم الطيور ، ولكن هذا ليس موضوعنا . دعونا نلاحظ عابرين أننا هنا أمام حوار حول القيم وهو يشوه كثيراً من الحقائق بالنسبة للطرفين المتحاورين . من يدرينا بأن سقوط عش النسر لا يمنح الكاتب متعة صغيرة لكون الكاتب بحكايته هذه قد حطم معتقداً شائعاً " .


من ناحية موضوعية لا شيء يثير السخرية مثل الصور التي تنسب صفات إنسانية للعش . لا شك أن العش بالنسبة للطائر هو بيت جيد ودافئ ، ويحمي حياة الطائر حين يخرج من البيضة ، إنه يعوضه عن الزغب ـ إذ يخرج من البيضة عارياً ـ إلى أن ينبت له زغب . ولكن ما الذي يدعونا إلى التعجل وبناء صورة إنسانية ، معدة للاستعمال الإنساني ، من شيء تافه كهذا ؟ . إن الطبيعة المضحكة لهذه الصورة تبدو واضحة إذا ما قورن (العش الصغير) المريح الدافئ الذي يعد به العاشقون بعضهم بعضاً ، بالعش الحقيقي التائه بين الأغصان . الحب بين العصافير هو علاقة خارج العش ، إذ لا يبنى العش إلا فيما بعد حين تنتهي المطاردة الجنونية عبر الحقول . لو أردنا أن نتأمل هذا كله ونخرج منه بدرس لبني الإنسان ، فإن علينا أن نستنبط جدلية بين حب الغابة والحب في حجرة في المدينة . ولكن هذا ليس مدار بحثنا . إن كاتباً مثل أندريه توبرو فقط هو الذي يمكن أن يقارن العِليّة بالعش ويلحق بهذه المقارنة التعليق التالي الوحيد " ألم تحب الأحلامُ أن تحط عالياً " ، وباختصار ، فإن صورة العش في الأدب هي صورة طفولية بشكل عام .
ولهذا فإن العش المعاش هو صورة فقيرة ابتداء . ولكنها تمتلك بعض السمات الأولية التي يمكن اكتشافها بالنسبة للظاهراتي الذي يحب المسائل البسيطة .


كم مرة في حديقتي عانيت خيبة الأمل في العثور على عش بعد فوات الأوان . والوقت خريف وقد بدأت أوراق الشجر تتساقط وفي مكان التقاء غصنين أرى عشاً مهجوراً. وحينئذ أتصورهم كلهم هناك : العصفور الأب والعصفورة الأم والكتاكيت ، وأنا لم أرهم بعد .
العش الفارغ الذي يتم العثور عليه في الغابة وقت الشتاء يسخر ممن عثر عليه .
فالعش مكان اختفاء كائنات مجنحة. كيف حدث وظل غير مكتشف؟ ، كان في الأعلى ، ولكنه بعيد عن أماكن الاختفاء الأرضية الأكثر صلاحية للاختفاء . ولكن ، نظراً لأننا حتى نحدد ظلال الوجود في الصورة ، فعلينا أن نضيف إليها انطباعات فائقة . فهاهي خرافة تدفع تخيل العش الخفي إلى أقصى حدوده ، وهي مأخوذة من كتاب شاربونيه لاسيه الممتاز " قيامة المسيح" :( كان الناس يعتقدون أن طائر الهدهد يستطيع الاختفاء عن أنظار كل كائن حي ، وهذا يفسر الحقيقة التي تشير أنه في أواخر القرون الوسطى ظل الناس يعتقدون بوجود عشبة عطرية متعددة الألوان في عش الهدهد والتي يستطيع من يمتلكها أن يختفي عن الأنظار)

قد تكون هذه العشبة هي "عشبة إيفان جول المعطرة" .
ولكن أحلامنا هذه الأيام لا تجنح إلى هذا المدى ، فالعش المهجور لا يحتوي على عشبة الاختفاء السحرية . والحقيقة أن العش الذي نجذبه من الحاجز كزهرة ميتة ليس أكثر من "شيء" . يحق لي أن أمسكه بيدي وأفتته. عندما يكون مزاجي سوداوياً أصبح مرة أخرى إنسان الحقول والأحراش ، ويصيبني بعض الغرور حين أنقل معرفتي إلى طفل ، فأقول له : "هذا عش طائر القرقف" .
وهكذا يدرج العش القديم في خانة الأشياء . وكلما تنوعت الأشياء أصبح المفهوم (concept) أكثر بساطة . ولكن كلما نمت مجموعتنا من الأعشاش يظل خيالنا كسولاً ، ونفقد صلتنا بالأعشاش الحية .
إلا أن العش الحي هو الذي يستطيع أن يقودنا إلى ظاهراتية العش الحقيقي ، العش الموجود في محيطه الطبيعي ، والذي يصبح ، للحظة ، مركز الكون كله ـ وهذا المصطلح ليس مبالغة ـ ودليلاً على موقف كوني . إنني أرفع الغصن برفق . في العش أجد عصفوراً راقداً . إنه لا يطير ، بل يرتعش قليلاً . فأرتَعش لأنني جعلته يرتعش . أخاف أن تكتشف العصفورة أنني إنسان ، ذاك الذي فقدت العصافير ثقتها به . أقف ساكناً ، أتنفس بهدوء مرة أخرى وأعيد الغصن إلى موضعه . سوف أعود غداً ، أما اليوم فأنا سعيد لأن العصافير قد بنت عشاً في حديقتي . وعندما أعود في اليوم التالي ، سائراً برفق أكثر من اليوم السابق ، أرى ثماني بيضات وردية اللون في العش ، لكم هي صغيرة ! .
هذا عش حي مسكون ! العش بيت الطائر . عرفت هذا منذ زمن طويل ، حكاه لي الناس لفترة طويلة . والواقع أنها قصة عتيقة إلى حد يجعلني أتردد في روايتها لنفسي . ورغم هذا ، فأنا مررت بهذه التجربة مرة أخرى للتو . إنني أستطيع أن أستعيد بوضوح تلك الأيام من حياتي التي عثرت فيها على عش حيّ . إن مثل هذه الذكريات الحقيقة نادرة في الحياة . وإنني لأفهم جيداً سطور توسونيه هذه المأخوذة من كتابه "دنيا العصافير" : (إن ذكرى اكتشاف أول عش عثرت عليه بنفسي ظلت محفورة في ذاكرتي بشكل أعمق من ذكرى أول جائزة حصلت عليها في مدرسة النحو على النص اللاتيني . كان عش طائر غرِد جميل وكان فيه أربع بيضات وردية تتخللها خطوط حمراء مثل تلك التي تتخلل خارطة الكرة الأرضية . استولى علي فرح لا يمكن وصفه إلى حد أنني ظللت واقفاً دون حراك لمدة ساعة ، أرقب . في ذلك اليوم وبطريق الصدفة ، اكتشفت مهنتي) .
أي نص جميل لأولئك الذي يبحثون دوماً عن الاهتمامات الأصيلة ! ولكون توسونيه استجاب منذ البداية ، بهذا القدر من "الانفعال" ، فهو يساعدنا على إدراك كونه قد نجح في دمج فلسفة فورييه الهارمونية بكليتها في حياته وعمله وأضاف أيضاً حياة خارطة ذات أبعاد كونية إلى حياة الطائر .
وفي الحياة العادية ، فالرجل الذي يعيش في منطقة الأحراش ، يكون العثور على عش ، بالنسبة له ، دوماً مصدر انفعال جديد . كتب عالم النبات فرناند ليكوين أنه بينما كان يسير يوماً هو وزوجته ماتيلدا رأى عش طائر غريد على شجرة زعرور سوداء : "ركعت ماتيلدا ومدت إصبعها ، وبالكاد لمست الطحلب الناعم ، ثم أبعدت إصبعها ، ولكنها أبقته مدوداً ..." فجأة أخذت ارتعش .. " " لقد اكتشفت للتو الدلالة الأنثوية ، لعش قائم فوق مفترق غصنين . واتخذ الحرش دلالة إنسانية جعلتني أصيح : لا تلمسيه ، أهم شيءٍ ، لا تلمسيه " .
إن انفعال توسونيه وارتعاش ليكونين يحملان علامة صدق . اخترتهما من قراءتي ، لأنه في مثل هذه الكتب نستمتع بدهشة (اكتشاف العش) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· غاستون باشلار . جماليات المكان . ترجمة غالب هلسا . الطبعة الثالثة . المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . 1987م . ص 100 ـ 105.

الجمعة، فبراير 04، 2011

مقابلة خاصة مع ابن نوح•


جاء طوفان نوح !
.............

المدينة
تغرق شيئاً فشيئاً
تفرّ العصافير
والماء يعلو على درجات البيوت ـ الحوانيت ـ مبنى البريد ـ البنوك ـ التماثيل (أجدادنا الخالدين) ـ المعابد ـ أجولة القمح ـ مستشفيات الولادة ـ بوابة السجن ـ دار الولاية ـ أروقة الثكنات الحصينة .
العصافير تجلو
رويداً ..
رويداً ..
ويطفو الإوزّ على الماء
يطفو الأثاث
ولعبة طفلٍ
وشهقة أم حزينة
الصبايا يلوّحن فوق السطوح !
جاء طوفان نوح .
ها هم "الحكماء" يفرون نحو السفينة
المغنون ـ سائس خيل الأمير ـ المرابون ـ قاضي القضاة (.. ومملوكُه) ـ
حامل السيف ـ راقصة المعبد (ابتهجت عندما انتشلت شعرها المستعار) ـ جباة الضرائب ـ مستوردو شحنات السلاح ـ عشيق الأميرة في سمته الأنثوي الصبوح!
جاء طوفان نوح .
ها هم الجبناء يفرّون نحو السفينة .
بينما كنتُ ..
كان شباب المدينةْ
يلجمون جواد المياه الجموح
ينقلون المياه على الكتفين
ويستبقون الزمنْ
يبتنون سدود الحجارة ؛ علّهم ينقذون مهاد الصبا والحضارة
علهم ينقذون الوطن!
صاح بي سيد الفلك ـ قبل حلول السكينة : "انج من بلد .. لم تعد فيه روح !"
قلتُ :
طوبى لمن طعموا حبزه..
في الزمان الحسن
وأداروا له الظهرَ يوم المحن !
ولنا المجد ـ نحن الذين وقفنا (وقد طمس الله أسماءنا)
نتحدى الدمار..
ونأوي إلى جبل لا يموت
(يسمونه الشعب !)
نأبى الفرار..
.......

كان قلبي الذي نسجته الجروح
كان قلبي الذي لعنته الشروح
يرقد ـ الآن ـ فوق بقايا المدينة
وردة من عطن
هادئاً ..
بعد أن قال " لا " للسفينة
.. وأحبَّ الوطن ! .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· أمل دنقل . الأعمال الشعرية الكاملة . دار العودة بيروت . مكتبة مدبولي القاهرة . 1995م

الأربعاء، فبراير 02، 2011

القاهرة في البال




حسن السوسي

خيالك لم يبرح الذاكرة
ومازلت في خاطري خاطرة
ورسمك ما فارق المقلتين
وذاتك في مهجتي حاضرة


*



مباركة أنت محروسة
بسرٍ براهينه ظاهره
وميمونة رَوَحات الملِمُّ
بشعب خصائصه نادرة
يعالج بالمرح المسترَقّ
ويأسو جراحاته الناغرة
وإن ضاق يوماً به موقف
يلوذ بنكتته السّاخرة
يروقكَ منه صفاء القلوب
وتغري بشاشته الزائرة

*

فإنك رغم توالي الدهور
تطلين فاتنة ساحرة
وإنك رغم عوادي الزمان
تظلين قادرة قاهرة
نحبك ساكنة كالغدير
ونهواك غاضبة ثائرة
فيا قلعة مايزال الزمان
يردد أمجادها الزاخرة
إذا كشّر الجِدّ عن نابهِ
فأنت المقطّبة الكاشرة
وإن لاين الدهرُ بعد الجِماح
فأنت المدللة الآمرة
يعود إلى حجمه كلّ من
تمدّد في غيْبة القاهرة
ويقصر كل طويل النجاد
خشوعاً لقامتك الظاهرة
وإنك مهما ادلهم الظلام
تظلي لنا النجمة الزاهرة
فيا عصمة العرب مهما نأوا
وموئل أمتنا الصابرة
تدور حواليك آمالنا
كما دار بالمحور الدائرة
*

لك الفخر في أوليات الزمان
بما لم تنل مثله فاخرة
بـ توت أنخ آمون في مجده
ورمسيس في الأعصر الغابرة
بناة الذي ما بنت مثله
بناء ... ولا حلمت حاضرة
وبالفاطميّ وما تسردين
له من مآثره الآسرة
وبالناصر الدين من سيفه
إلى ذي الفقار له آصرة
وبالموقفين زحوف التتار
فكنت لهم صفقة خاسرة
ودار ابن لقمان أدرى بمن
أتتها بحاجتها زائرة
تفدِّي أسيراً لها موثقاً
وتدفع عن يدها صاغرة
وبالعابرين على عزمةٍ
كعزم المهيّجة الكاسرة
وبالمرتجين لفك الحصار
عن القدس واللدّ والناصرة
يدور المقطّم من حولها
كنصف الحزام على الخاصرة
فكم معتد حام من حوله
فدارت على جيشه الدائرة


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ديوان الجسور
الدار الجماهيرية
ط1 1998م

الأربعاء، يناير 26، 2011

عن البيت 2

غاستون باشلار*

إن الفلسفات الميتافيزيقية التي تذهب إلى أن الإنسان (قد القي به في العالم) عليها أن تتأمل بالتحديد البيت الملقى في العاصفة ، يتحدى غضب السماء ذاتها . وعلى الرغم من كل شيء فإن البيت يساعدنا على القول : سوف أكون من سكان هذا العالم ، رغماً عن العالم .

إن هذه المسألة ليست مسألة الوجود فقط ، ولكنها مسألة القوة ، وبالتالي مسألة القوة المضادة . في هذا الصراع الديناميكي بين البيوت والكون نستبعد الإشارة إلى الأشكال الهندسية البسيطة . إن هذا البيت المجرب ليس مجرد صندوق ساكن . فالمكان المسكون يتجاوز المكان الهندسي .

أحياناً ينمو البيت ويتمدد ، فتحتاج الحياة فيه إلى مرونة أكبر في أحلام اليقظة ، نحتاج إلى أحلام يقظة أقل وضوحاً وتحدداً . كتب جورج براسكي : " بيتي شفاف ولكنه ليس من زجاج . طبيعته اقرب إلى البخار . تتقلص جدرانه وتتمدد حسب هواي . أحياناً أجلبها إلى حتى تصبح مثل درع واقٍ ... ، وأحياناً أخرى أدع جدران بيتي تتفتح كزهرة وتأخذ مداها في المكان ، هذا المدى المتسع لما لا نهاية " . هذا البيت يتنفس . في البداية يكون درعاً ثم يتمدد إلى ما لانهاية وهذا يعني أننا نعيش في داخله الأمان والمغامرة بالتناوب . إنه زنزانة وعالم في نفس الوقت . هنا تم تجاوز الهندسة .




إذا كنا نحتفظ بعنصر الحلم في ذكرياتنا ، وإذا تخطينا مجرد تجمع ذكرياتنا ، فإن البيت الذي ضاع في ضباب الزمن سوف ينبثق مرة أخرى من جوف الظل ، ونحن لا نفعل شيئاً لإعادة تنظيمه ، فمن خلال الألفة يستعيد البيت هويته ، خلال صقل وعدم الحياة الداخلية ، .. إن ريلكه ..... يتحدث عن امتزاج الوجود بالبيت المفقود : " لم تقع عيناي على هذا المسكن الغريب مرة أخرى . والواقع أنني حين أراه الآن كما بدا لعيني كطفل ، فلا أراه بناء مشاداً ، بل يبدو مذاباً وموزعاً في داخلي : هنا حجرة ، هناك أخرى ، وهنا جزء من الممر الذي ـ على نحو ما ـ لا يصل بين الحجرتين ، ولكنه محفوظ في داخلي بشكل مجزأ . وهكذا فالبيت كله متناثر في داخلي ، الحجرات ، والسلالم التي تهبط ببطء جليل ، وغيرها ، أقفاص ضيقة كانت تصعد بحركة لولبية ، في الظلام الذي كنا نسير فيه كما يسير الدم في الشرايين" .




.. وفي رواية وليام جوين (بيت من نَفَس) يقول : "لكون البشر يأتون إلى هذا العالم في مكان لا يستطيعون في البداية أن يعرفوا حتى اسمه ، ولم يعرفوه من قبل ، ولأنهم في مكان مجهول لا اسم له ، يكبرون ويتحركون ، ثم يتعرفون المكان ويستدعونه بحب ويسمونه بيتاً ، وفيه يلقون جذورهم وإليه يتوجهون بحبهم ، وحين يبتعدون عنه يغنون حنينهم إليه ويكتبون عنه أشعار شوق ، وكأنهم عشاق" .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*جماليات المكان
* الصورة من موقع aljasad.net

الاثنين، يناير 24، 2011

نهاية




هـذا الصباح ، في المستشفَى في المدينة ، لفظ مؤذن مسجد القرية العتيق منذ خمسين سنة ، آخر أنفاسه عندما كان ضوء شمس الحادية عشرة لا ينسكب – بفضل السحب - عبر نافذة حجرته على سريره في بيته في القرية ، لو عاش لنصف ساعة أخرى ؛ حتى دخل عليه مرافقه النهارىّ من أبنائه ، لعلم منه أن الوادي قد قطع الطريق بين القرية والمدينة .

زحف كلُ أهل القرية إلى الحيّ القديم ، فكنت تراهم رجالاً ونساءً وأطفالاً ؛ يصّعدون مثل قطعان الماعز مجلِّلين الهضبة ؛ التي بللتها زخـّة شؤبوب عبرت الليلة البارحة .


لم يكن نبأ فاجعاً ، لكنه كان يبعث على درجة من التأثر ؛ كما لو أن الريفيين قاموا في الصباح الباكر فوجدوا صنوبرة ساحة الحيّ الهرمة نائمة على الطريق .

حتى قبيل الخمسين عاما كان هذا الميت ـ الذي كان مؤذناً شيخاً ـ فتىً عربيداً جوّالاً على كارّو يتنطق بشملة حمراء ؛ يغرس بينها وبين خصره من اليسار قنينة خمر ؛ وفي الجانب الأيمن خنجراً يشهره على بعض أصحاب الدكاكين والقصّابين ؛ آمراً هذا بأن يناوله كم علبة حلوى طحينية ، وذاك بأن يضع له هاتيك السقيطة ، وإلاّ أغمد خنجره في عين هذا أوفي كرش ذاك ، ثم يتوجه من هناك إلى القرية ، ويظل يرشف من قنينة الخمر تلك ، لكنه من منتصف المسافة ، بعد أن تعبث الخمر بحواسه الخمس يبدأ في صبّ لعناته على الحمار ؛ متهما إياه بأنه حمار حقا وخمران ، ويلهب مؤخرته بسوطه السودانيّ ليعود به من جديد إلى نقطة إنطلاقهما .

بعد رحيل كثير من الإيطاليين عن البلاد إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية ، استردّ الفتى دكان جدّه في القرية أسفل القلعة ، الذي كان قد جعل منه تاجر إيطاليّ يدعى كاتالينو و زوجته اليهودية خمارة .

حدّثنا ذات عشية ، تحت ظلال المسجد ، حديثاً عصبياً متقطعاً أنه إذا كان لا يعرف ما الذي ظل يدفعه طوال مراهقته إلى التشرد والانحراف ، فإنه أيضاً لا يعرف ما الذي حلّ به ، وهو يمسح بنظراته ذلك الدكان المستعاد لأوّل مرة بعد سنوات ؛ لا يعرف كيف خطر له أن يحوّل تلك الخمارة المستردة إلى بيت لله ، وهو الذي لم يضع جبينه على الأرض منذ طفولته ؛ حين كان يحاكي والده أثناء صلاته .

مسجدٍ لأهل القرية البدو الذين تقاطروا إلى مباني القلعة التي هُجرت ، ليتخذوا منها كلها دون تفريق بين عنبر أو إسطبل أو كنيسة مآوي لهم ، والذين لم تجعل لهم تلك السنون السوداء من نصيب في الفقه في أمور الدين .


ـ نا أوّل واحد يذ ّن في هالقرية.

كان دائما يقول بفخر ثم يضيف بضحكة هازئة :


ـ والله يا جماعه ، وحق ربّ هالبيت ، في هالمنطقه ماكانوا عارفين فيش اندير وينما صبيت فوق سطاح الجامع وتميت نذن ، أوينما افطنت وبهتت لاوين عرب النقطه كلهم كبار وصغار وحتى الصبايا رافعين اعيونهم معاي ، ونلقاني ما عاد مسكت في روحي ، واخلطت آذان علي بكا ، وما نزلت مالسطاح زين ، نين جاني عمر هض ، هاللي توّ بعياله ، وقاللي يسلم عليك باتي ، وقالّكْ الله يرفع مقامك اللي رفعت صوت الحق في هالقريه ، وقالك راني هالموقف هض ريته في المنام ، وقالك لا اتحركش مالحوش راني جايك بعد العصر ).

ومنذ ذلك اليوم صار للمسجد مع المؤذن إمام ، ومع الأيام تطوع آخر بهدم جدار دكانه المجاور ليحوّله إلى توسعة للمسجد ، ثم شيئاً فشيئاً صار للمسجد روّاد ولجنة إشراف واسم رسميّ نقش على رخامة رصّعت جانب واجهته ، وإن ظل الناس يسمونه جامع محمد علي كريّم ، بعضهم معترفاً بفضل الرجل القائم ليلاً نهاراً على خدمة المسجد ، وبعضهم قادحاً في أسلوبه الحاد في معاملة المصلين وكأن المسجد بيته : فإلى أن عرفتْ القرية الحنفيات ظلّ هذا الإنسان بصبر وجلَد جمل ، ينقل كل وقت ، من الفجر إلى الفجر ، برميلىْ ماء (جرمانيين) يتدليان إلى جانبيه من عصا على كتفيه ، مثل كفتي ميزان ، وإلى أن وصلت الكهرباء إليها ظل يكبر ويشيخ خفية ، وهو يصعد ويهبط سلّماً حجرياً ؛صنعه بيديه ؛ إلى سطح المسجد لرفع الآذان ، ولكن لا أحد لم يره ؛ ولو مرة واحدة ؛ يطارد الأطفال المكركرين في المسجد قاذفاً وراءهم أحذية المصلين ، لاعناً آباءهم وأمهاتهم الذين لم يربّوهم ، أو قاطعاً تسبيحه أو تلاوته و مندفعاً إلى ( المواضي) ليعنف أحدهم على الإسراف في المياه ، أو عدم إحكام الحنفيات ، أو جاذباً آخر من عمامته إذا اقترب من ناقل الصوت لرفع الآذان .


بعد العصر بوقت غير قصير ، وكان قد رفع الآذانَ صوت آخرُ ، سألتني جدتي القاعدة في البيت :كيف لم يؤذن للعصر حتى الآن .

أما الليلة في السهرية ، فإني متأكد أنه سيروى ، في أكثر من حلقة دردشة ، أن الحاج محمد علي كريّم رحمه الله ، في أول يوم لناقل الصوت في المسجد ، نصحه ناظر المدرسة بأنه لم يعد هناك من داع لأن يتعب نفسه بالصعود إلى سطح المسجد ، فما عليه سوى نقر رأس الميكروفون و التصنت لوشوشته ، ثم يرفع الآذان ، وعندما فعل الشيخ ذلك وتصنت لم يسمع شيئاً فقال بتذمر : (خـرررررفي ياحليمه) ، لتسمعه القرية عبر مكبرات الصوت .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصورة من tajouri_sedi_abdassalam_zleetin

السبت، يناير 22، 2011

زوكربيرغ@ تونس...



مرح البقاعي*





" بن علي هرب .. تونس حرّة.. تونس حرّة ..الحرية للتوانسة...."


هكذا، في ليل 14 يناير 2010 من شارع بورقيبة الخالي في حينها إلا من ملاّلات الجيش الوطني تحرس الفراغ الذي خلّفه سقوط رأس السلطة المدوّي ، ارتفع صوت مواطن تونسي بالهتاف لحرية مواطنيه في تونس بعد أن انفكّت من قبضة الرئيس زين العابدين بن علي ، إثر هروبه تلك الليلة خارج تونس ، هائما على وجهه ، ودونما وجهة محددة تحطّ طائرته فيها.


كم من البلاغة تلزم لاختزال مشاهد انتفاضة الشباب التونسي تلك في قوام اللغة ، وكم من المجاز يُستدعى لاستيعاب ذاك الحدث غير المسبوق في بلد يعضّ منذ عقود خلت على جرحه ، وذلك في سياقه الاستباقي في الزمن والجغرافيا؟


خانتني السليقة مرارا وأنا أحاول إعادة صياغة الحدث الأجلّ بلغة تستوعب كل هذا الجمال الثوري الأقرب إلى زهرة لوتس بريّة عملاقة تنفتح على سطح بحيرة من نار!


التسارع كان قياسيا منذ بدء اندلاع المظاهرات التي عمّت المدن التونسية كافة إثر إضرام رمز الثورة ، محمد البوعزيزي النار بجسده "احتجاجا على الظلم والقهر لا الفقر الذي كان قد تعود عليه" كما أفادت شقيقته ، حتى ساعة هروب رأس النظام في تونس وعائلته تحت ضربات الشارع المتعاظمة واقتراب المظاهرات العارمة من قصره المنيف.


آثر الرئيس المخلوع - بيد الشعب هذه المرة وليس بيد الأجنبي - أن يرحل تحت جنح الظلام ، ومن أبواب العاصمة الخلفية ، على أن يتقدّم باستقالته ويتنحّى عن الحكم ويواجه مسؤوليته أمام شعب ائتمنه على مقدّراته وأرضه ومستقبله فخان الأمانة.


لم يجد بن علي في أصدقائه الغربيين من يوفّر له مهبطاّ لطائرته التي اُستنفذ وقودها وهي تحوّم لساعات عديدة في أجواء الدول "الحليفة" بحثا عن ملاذ إثر انهيار صرحه الأمني الهش.


وتناقلت الأجواء السياسية هنا في العاصمة واشنطن أن الوزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون طلبت في اتصال هاتفي مع مسؤولين في السعودية استقباله على أرضها! فالموقف الأميركي كان دائما ملتبسا فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريّات في تونس ، وكانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد أصدرت في شهر أبريل الفائت ، وعلى هامش زيارة وزير الخارجية التونسي ، كمال مرجان ، للولايات المتحدة ، مذكرة رفعتها سارة ليا ويتسن ، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة قالت فيها : "تونس تتحدث كثيراً عن احترام حقوق الإنسان ، لكن ممارساتها في هذا الشأن شيء مختلف تماما" وأضافت : "على وزيرة الخارجية كلينتون أن تؤكد علناً على الرغبة في رؤية نهاية الاضطهاد للصحفيين المستقلين ونشطاء حقوق الإنسان ".


هكذا، وبعيدا عن التنظير السياسي الضيق والأدبيات التنظيمية الركيكة والاصطلاحات الأكاديمية الرصينة ، وقريبا من الحس الغريزيّ البكر بالحق الإنساني المطلق بالحرية والكرامة ، وتنامي الشعور العام بالحاجة إلى التغيير قبل الحاجة إلى الخبز ، أسّس شباب تونس لمشروعهم الثوري الخاص بعيدا عن النظرية التقليدية لتحقيق التغيير السياسي في البلاد العربية ، وتمكّنوا في حركية سلمية مهدها الشارع ، وعمرها أشهر معدودة فقط، من الإطاحة بطاغٍ مستبدّ وتقويض أسس حزب حاكم أوحد ونظام شرس حكم البلاد لمدة 23 عاما بسطوة الأمن الحديدية ، وكذا أجبروا رأس النظام على التسلل خلسة خارج البلاد تحت ثقل الغضب الجارف والحزن الشعبي العميم على شهداء الثورة ممن واجهوا رصاص عصابات بن علي الأمنية وقنّاصيه المنتشرين على أسطحة الأبنية السكنية بصدورهم العارية.


هكذا ، وبسرعة انتقال المعلومات في ألياف خطوط الانترنت ، انتقلت شرارة الثورة بين فئة الشباب التي تتجاوز نسبتها الـ 21% من مجموع التونسيين عبر موقع الفيس بوك الذي شكّل غرفة العمليات الحقيقية لإدارة هذه الحركة.


وإذا علمنا أن ما يقارب مليوناً ومئتي ألف تونسي يملكون حسابا خاصا على الموقع نستطيع أن نقدّر حجم وعمق التواصل والتنسيق الذي انتظمت عليه تلك الثورة وفاجأت العالم بأسره بقدرتها على التكامل والكمال في آن.


وكانت معضلة البطالة التي يعاني منها الشباب التونسي المتعلم ، والتي وصلت نسبتها إلى 14% في العام 2010، الفتيل الذي أشعل تلك النار الفارعة ، والتي سرعان ما تحولت إلى احتجاجات عريضة على الفساد الحكومي والقمع الأمني وغياب الحريات ، منهية صلاحية النظريات الجاهزة والتقليدية التي يعتقد أصحابها أنه ليس بالإمكان الإطاحة بنظام استبدادي ما لم تتوفر معارضة سياسية منظمة ذات قيادة متماسكة.


هكذا أصبح بإمكان مارك زوكربيرغ ، الشاب الأميركي الذي أسس موقع الفيس بوك ، أن يفاخر بأن قارته "السابعة" التي أطلقها على أمواج الانترنت الرقمية كانت الجهة اللوجستية الحاضنة لأولى ثورات العصر وأصباها ، وأكثرها نورانية ، منذ اندلاع الثورة الفرنسية التي أطاحت برأسيّ الملك لويس السادس عشر وزوجته الملكة ماري أنطوانيت في العام 1793 ، وانتهاء بـ "ثورة الصبّار" ، كما يطلق عليها أهل سيدي بوزيد مسقط رأس الشاب البوعزيزي - نبي الثورة وشاهدها الشهيد.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ





*شاعرة وكاتبة سورية مقيمة بالولايات المتحدة الأمريكية

المشاركات الشائعة