السبت، فبراير 27، 2010

البغدادي


اليوم حفلة البغدادي، هذا ما كان قد أعلنه بما بين كلمة مثل إيماءة وإيماءة مثل كلمة شيخ الزاوية العروسية، بعد أن رأى في منامه فجر الاثنين الماضي الإشارة بذلك، فأذن لتلاميذه بالانطلاق لطرق كل باب من أبواب بيوت المريدين الداني والقاصي منهم سواء طرقاً بأيامنهم ـ لا على أي نحو آخر ـ لإبلاغهم بالميقات.


لذلك فإن الرياحَ البحرية كانت قد أُرسِلت منذ الصباح دافعة قطعان السحب البيضاء لتمسح ظلالُها اللطيفة سطوحَ بيوت القرية، وتمرّ لتشوب بكحليتها فتمنح ألواناً أخرى لا أسماء لها للرايات الكبيرة الخضراء والصفراء والبيضاء والسماوية المسموعة الخفق، التي انتهى التلاميذ من نصبها على مبنى الزاوية، وعقود المصابيح الملونة تزحف في كل الاتجاهات متقاطعة على الحدبة المخضبة بالأشنات للسور ذي الحراشف الزجاجية للمبنى الناصع البياض من الجير الذي طلي به حديثاً، ثم متلوية على أقواس السعف وجذع النخلة العتيقة حتى تشكل عراجين يمكن ملاحظة ضوءها الخافت في ظل سعفاتها .


وبهذا المظهر الذي يتخذه مبنى الزاوية العروسية العتيق المبنيّ بـ (ساس خمسين) تكون الدعوة لحضور ختمة البغدادي قد صارت عامة.


فالرجال ـ وأولهم بالتأكيد سيك الضـاوي الذي سيجهز جيبه بربع كيلو فلفل وملعقة خشبية وأعواد القزاح لتنظيف أسنانه، وأصحاب دكاكين الجزارة بالطبع ـ يعرفون أن ثمة وليمة كبيرة بعد صلاة المغرب، وربّات البيوت يعرفن أن عليهن الإسهام كل واحدة بوجبة من بازين أو كسكسي أو عيش بالحليب والسمن أو سواها من المأكولات الشعبية لتكون جاهزة قبيل أذان المغرب مشكّلة صفوفاً من القصاع المغطاة التي لا يحبّذ أحد أن يعرف بما تحويه قبل أن تكشف أمامه في الرباعة .



أما الأطفال فقبل سواهم، هم من يعرفون أن الأناشيد في مدح حبيب الأطفال ومحبهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستمتد وتتسع من بعد صلاة العصر حتى ما قبل صلاة المغرب، ولن تقتصر على قصائد التخميس الوتـْرية في مدح خير البرية، بل سيكون في وسع من شاء منهم أن ينشد مع أولاد الزاوية ذوي الوجوه المبيضة والثياب البيض :طلع البدر علينا أو يا آمنة بشراك أو يا رفيع الشأن، في صحن الزاوية، حيث تمتزج روائح البخور والجاوي وماء الزهر ورائحة أنفاس المكان والزمان والإنسان الصوفية، وسيكون لهم نصيب من كؤوس الشربات التي هي منذ الصباح في القدور والطناجر الكبيرة كما هي في خواطرهم الصغيرة، وسيلعبون مع موزع الشربات لعبة الحصول على المزيد لهم ولجداتهم اللائي أرسلن معهم زجاجات أو جالونات لملئها بالشربات الممزوجة بماء الرقية، وكذا نصيبهم من عصيّات الحلوى المخططة التي يبيعها للأطفال بأي مبلغ ولو من جيبه هو ـ وحتى بالعملات القديمة والغريبة ـ التاجرُ النحيل الطويل ذو الثوب المخطط على عتبات مدخل مبنى الزاوية، مصدّقة بالدعاء له بزيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقط لا غير.


اليوم ـ يوم ختمة البغدادي الذي لن يعلق أحد بأنه تأخر أو تقدم سواء انفرط شهر ربيع الأول أو لم يزل منه بقية ـ قريتنا تتشبه بيثرب، أو تتصل بها بخيط روحاني نوراني شفيف، أو بعروقها الزاحفة حتى يثرب كما يرى شاوش الزاوية، إذ بعد العيدين الفطر والأضحى المباركين، فعيد المولد النبوي الشريف، ليس ثمة من يوم سماوي بحجم ختمة البغدادي على أرض قريتنا منذ وعيت الدنيا، حتى ترسخ لديّ شعور بأن هذا الحفل خاص بقريتنا دون سواها من القرى التي يتوافد منها المحتفلون، إذ سيمتلئ خاطر المرء تحت ألواح سقف المبنى الصوفي بأرواح وأعين ناس القرية الأولين والآخرين، المقيمين والذين جاء بهم الحنين إلى قريتهم التي غادروها حاملين بيوتها في قلوبهم بعد أن لم يستطيعوا حملها معهم، كما كان يفعل أجدادهم ببساطة كلما هموا بالرحيل وحيثما نزلوا، كما سيخامر الناسَ شعور بأن الزمن تراخى وتمطط واستطال كنهر من عسل كشأنه مع الأولين من سكان القرية الذين كانوا يحتفلون هذا الاحتفال نفسه، أولئك الذين لم يعد يدبّ منهم أحد على أرضها، وأنّ أقسام النهار من ضحى وقيلولة وظهيرة وعصر وأصيل ستأخذ ألوانها الأصيلة الخالصة وهي تدخل في بعضها البعض بسلاسة وسلام متسللة نحو الغروب .


حتى إذا غشي الليل انفرجت الزاوية وتنعمت حصر الديس، وتفسحت جدرانها وشفت واتسعت حتى صارت بيداء أو فضاء، وإذا بـ (البخور يذوب ليتحلل في الطيب، والطيب يذوب فيلتحم بالبخور، والنغم يسعى لمعانقة الإيقاع، بينما يعود الإيقاع متدفقاً في النغم*) ، على حدّ تأملات شاعر الهند العظيم، ثم تناهَض الصوفيون الدراويش للحضرة في مشهد رَكْبٍ من الرجال كالجمال، يسيرون بالمكان أو يسير بهم المكان، فيعرجون على مقامات ورياض أنبياء وصديقين وشهداء وصالحين وأولياء، يحدوهم حبّ عميق عمق الإيمان بالغيب، قديم قدم الحق، وشوق مقيم إلى البيت المعمور وقباء المشهور .


اليوم حفلة ختمة البغدادي في قريتنا، وأنت مدعوّ لذلك وبكل سرور، فهل ستكون معنا ؟، أرجو ذلك، فما عليك إذن إلا أن تتحلى بإحدى صفتين، أولاهما الصفاء، الذي على كل حال سيتلبسك بمجرد خلعك نعليك و ولوجك إلى المبنى العتيق، وثانيتهما التي لا ثالث بعدها الطفولة، ستجد من يبتسم لك ويصافحك ويعانقك ويقبّل يدك ورأسك، ويستلم حذاءك ليضعه في مكانه، كبيرَ السنّ كنت أم صغيراً، يعرفك شخصياً أو لا يعرفك، وسيعلق بك منه شيء من رائحة المسك، وستحسب من الذاكرين، فإن لم يكن بوسعك فلا تكليف،

وإن لم ترد فلا حرج (فمعذور من ذاق ومعذور من لا ذاق ) كما هو القول الصوفي الليبي.وصلِّ معنا حيثما كنت على النبي المصطفى !.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هكذا غنى طاغور .ترجمة خليفة التليسي.

الأربعاء، فبراير 24، 2010

هذا قنديل النبي


هذا

حين كنا ـ نحن مواليد الستينيات ـ نسير ونطلق الأناشيد خلال الأزقة التي تبدّد ظلماتها القناديل، كانت أرواحنا توثق علاقة بين القنديل وبين وجه إنسان كريم اسمه محمد بن عبد الله، وبن آمنة بنت وهب، لم يكن قبل بعثته ثمة من عيد للأمة، فهو أبو الأعياد، وعيد مولده عيدها كلها.

قنديل

تذكرون الأولاد المشاكسين الذي كانوا يكمنون لنا في الزوايا المعتمة ليقذفوا قناديلنا بالحجارة، لقد كبرنا فلم نعد نملك الشجاعة لحمل القناديل فأرسلنا أولادنا نيابة عنا، وكبر أولئك الأولاد أيضاً ولم يعودوا يملكون الشجاعة لرشقنا بالحجارة فصاروا يرشقوننا بالفتاوى الأشد قسوة.

وقنديل

ليلة عيد المولد وجد المواطن الفقير، بطل قصة ( قنديل المولد ) لعلي المصراتي، نفسه وقد سرقت منه، ويديه ترتعشان ببعض قنديل من أصل ثمانية بعدد أولاده، سرقه من عربة بائع القناديل، بينما بطل قصيدة تحمل نفس العنوان لعلي صدقي عبد القادر، أشعل أصابع يده الخمسة قنديلا لابنته و لأطفال فلسطين، بعد أن أكتشف أن أصابع صُناع القناديل فقدت ذاكرتها عشية الخامس من حزيران عام 1967م، أما بطل خاطرة ( للحب والميلاد والأطفال) لمحمد المسلاتي، فجلس تحت (برج القنديل)1 يتأمل ملامح أصدقاء طفولته، قبل أن تطلى بالنفط، ولم أعثر أنا وسط (الضياء المدبّر)2 للمصابيح الكهربية على قنديل لابنتي فيروز يضيء وحسب، ويدعها هي تغني.

الأحد، فبراير 21، 2010

من الديوان الثاني


جَرّة


ياجرة خضراء من عصور

ذابتْ يدا خزّافها فيها ولم تزل تدور

توقفي !

فإنني أريد أن أمسح عنك غبرة الصحراء

أريد أن أغسلك في بركة من العطور

والخمور

أملأك افرغك أغطسك

أسمعك تقرقرين بالأسرار

بالأسماء

أريد أن أعصبك فوق جبيني الشاحب وأدور

وأدور وأدور وأدور...

تحتك أدور

يا نخلة مثقلة مشيتها بالبلح الأحمر والأصفر والجمّـار

اسّـاقطي !

فإنني أرفض أن أقصك

أرفض أن أهزّ بكْ

وإنني لا أستطيع كالعصافير وكالأطفال

أن اصبر حتى موسم التمور...

الخميس، فبراير 18، 2010

قلبان

من آخر الديوان الأول



غدا ترجعين إلى المنزل
غداً فارحلي! ارحلي! ارحلي!

بمعياد طهرٍ على طرقين

لقاءٍ على خشخشات الحلي

يميناً وقرقرة في الصدى

وعطرٍ تخلّف في المدخل

كما الآنَ ـ من قبل أن تركبي ـ

سألقاك من قبل أن تنزلي

وقد زفك موكب الذكريات

عروساً لهذا الهوى الأرمل

رداؤك أبيضُ من أبيضٍ

يجرجر أطولُ من أطول

بجيدك عقدٌ من الأغنيات

حبـّاته :أنتِ لي ! أنتِ لي

أنت لي أنت لي أنت لي

أنت لي أنت لي أنت لي

غداً ترجعين إلى المنزل

ونعشق من أوّل الأول ...

الثلاثاء، فبراير 16، 2010

دكان بوصندوق


لعلك ذات يوم من أيام فصل ربيع مضى قد قدمت وعائلتك في "زردة" إلى غابة الكافور والصنوبر الحارسة لقريتنا من الرياح والغبار، تلك الغابة التي شاركت لا ريب في غرس شجرة من أشجارها ، أيام كنت طالباً بإحدى المرحلتين الإعدادية والثانوية أواسط السبعينيات ، ولعلك قد اكتشفت في لحظة من اللحظات الممعنة في زمن الزردة أن هناك غرضاً قد نسي ، غرضاً من الأغراض الصغيرة التي تغدو كبيرة و ملحّة في الزرادي ؛ علبة هريسة مثلاً أو بطاريات لمذياعك الخاص ، وهكذا كان لا بد أن تتوجه إلى قلب القرية ؛ الذي لا يُضطر قاصدُه إلى كثير عناء للوصول إليه ، حيث سوقها الصغير القديم ؛ فانطلقت وأنت لا تريد أن تصدق ما يحدثك به قلبك من خاطرة أنْ لا دكاكين تكون مفتوحة في تلك الساعة من ذلك اليوم الذي لعله يكون يوم جمعة ، تلك الساعة الشبيهة ربما بتلك التي يصفها سارتر في روايته الغثيان ؛ بأنها (اللحظة العجيبة من لحظات ما بعد الظهر ؛ التي هي دائماً قبل الأوان أو بعده ؛ بالنسبة لكل ما يريد المرء أن يعمله) ، ولكنك على الرغم من ذلك قد وجدت في صف الدكاكين المغمضة العيون والمطبقة الأفواه دكاناً واحداً مفتوحاً.

والآن هل يمكنك أن تتذكر معي ذلك الدكان؟ .
الدكان الذي لم يكن في أول الدكاكين ولا في وسطها ولا في طرفها ؛ كما اعتدنا أن نقرأ في القصص والحكايات والروايات ، الدكان الذي أحسست أنه كان ينظر إليك من بعيد ؛ ويناديك باسمك ويدعوك إليه بلغة المباني العَرَْبية الليبية ، المباني التي رفعها من سكنها نفسُه بيديه ؛ وعلى دقات قلبه وحالات مزاجه وعاطفته وأغنياته ، فهي عبقة برائحته الخاصة وبأنفاسه ؛ هامسة بظلاله وأحلامه وأسراره ، ممزوج بعجنتها الطينية بعض من عرقه ؛ وعالق بالمسامير والألواح بعض دم أنامله ؛ ومسدودة ٌ الفجواتُ التي تجلب الريح بفلذات الثياب الأولى ؟.

الدكان المتكئ إلى الوراء ؛ كما لو أن نسمة مسته وهو لم يزل طرياً ؛ فاتخذ شكل متوازي الأضلاع ؛ الدكان ذو الواجهة المطلية بالأبيض السميك ؛ والجبين الفسيح المخطط بسويلات بُنيّة نحيلة ؛ بعضها جفّ قبل أن يصل إلى أقدام الدكان الغائص في الأرض حتى أذقان الشبابيك ، الدكان ذو المصباح القُمْعيّ والميازيب المنفوشة منها أعشاش الزرازير ، الدكان ذو ضلفة الباب ذات التمساح الصدئ الذيل منذ أن قَطعتْ عنه الدورةَ الدموية شفرة ُ الحلاقة الحادة في اللوحة المعدنية ، والفك المرفوع نحو الضلفة التوأم ذات اشرب كوكاكولا ، الدكان الذي اكتشفت حين صرت على أعتابه أنه أكثر من دكان ، فهو دكان ملحق ببيت ؛ أو بيت ملحق بدكان ؛ يفصل ويصل بينهما ممر ظليل معتم شيئاً ما ؛ يمثل منطقة اشتباهٍ بين التجرة والمعيشة ، مسافة عميقة رطبة تحمل أنفاسَ الدكان إلى البيت ؛ وأنفاس البيت إلى الدكان ، تـُقطع بالوسوسة أو السبحلة أو الدندنة أو الصفير ، هي المنطقة الأكثر لَفتاً لنظرات وخواطر الزبائن ؛ حتى من أرفف البضائع التي يأتون أساساً من أجلها ؛ وهي المنطقة التي لا شك أنك حدست أن يلوح لك منها بين الضوءِ والظل وجهُ صاحب الدكان ؛ كما لو كان في إطار لوحة انطباعية من القرن التاسع عشر ؟ .

على كلّ حال ؛ أنت بتجربتك تلك كنت على عتبات أقدم دكان في القرية ؛ إذا اعتبرناه دكاناً ؛ وأقدم بيت فيها إذا اعتبرناه بيتاً : فإذا كانت القاعدة هي أنّ البابَ بين أبواب الدكاكين بابُ دكان ؛ والبابَ بين أبواب البيوت بابُ بيت ؛ إلا أن الضيوف من القرويات خاصة والقرويين أحياناً ما يختصرون طريقهم إلى البيت من باب الدكان ؛ فيما يختصر بعض الزبائن طريقهم إلى الدكان من باب البيت ، بينما في المناسبات تتحول الصناديق و"الشوالات" و"السطولة" في الدكان إلى كراسي ؛ يقتعدها بعضُ وجوهِ القرية ؛ لفضّ نزاع أو لإبرام عقد بيع أو زواج ، أو تتحول أكرات الأبواب والنوافذ والمسامير والقناطر والميازيب في البيت ؛ إلى مرتكزات ومعاليق تتدلى منها الأقمشة والفساتين والبدل والمناشف والحقائب والأحزمة والشمسيات والعكازات والمغارف والفنارات والقناديل والأسلاك والخراطيم ؛ و كل ما يعلق أو يركـّز أو يثبـّت أو يشبّك من البضائع ؛ حسب كل مناسبة و موسم .

لقد كنت يومَها إذن عند دكان بوصندوق ، وبوصندوق هو الشيخ الذي نبهك صوته الداعي بالتفضل بنبرة خاطفة مكتومة ؛ كسقوط كيس ملح من رفّ ؛ فتفرسّت طويلاً حتى استخلصت ملامحَه من الخلفية الفوضوية للبضائع ؛ واخترت له اسماً ؛ أما الصندوق فيمكن اعتباره الدكان ذاته ؛ أيامَ كان صغيراً مستطيلاُ وحديدياً ؛ ومملوءً بـ"المحارم" والمكاحل والأمشاط و"المساسيك" والمرايات و"الطقاقات" والبالونات و"البواليص" والزمامير والجاوي و"الحنة" و"اللوبان" والقداحات ... محمولاً على ظهر حمار يذرع برقة ؛ محاذياً السكة الحديدية من محطة إلى محطة ؛ ليبيع ويبيع ويبيع ؛ هنا وهناك ؛ مسافراً في كلّ مكان ؛ حتى سقط الحمار نافقاً في النقطة التي بُني عليها دكان بو صندوق ؛ دكان لرْبعة وعشرين ساعة ؛ دكان "ديما ديما" ليبدأ سفراً آخر في الزمان ؛ متيحاً كلَّ دقيقة من دقائق كل يوم الألف وأربعمئة وأربعين لزبونها الخاص ، سواء كان حارساً ليلياً نفدت علبة سجائره ؛ أو عابرَ سبيل احتاج إلى زاد خفيف ؛ أو فتى استنكف حساء العجوز ؛ ففضل علبة تونة ؛ أو قيّم المسجد لزمه ذات فجر شتائي شمعة ؛ أو "زرّاد" مثلك افتقد غرضاً ولو منتصف نهار جمعة أو عطلة ، ولعل بك فضولاً إلى معرفة مصير الصندوق الحديدي ذاته ؛ إنه تحت النطع الذي يجلس عليه بوصندوق ؛ وما النطع إلا جلد حمار بو صندوق.

لعلك ذات يوم من أيام فصل ربيع آت ستأتي وعائلتك في "زردة" إلى الغابة الحارسة لقريتنا ؛ ولعلك كالعادة في كل زردة ؛ ستكتشف أنّ غرضاً من الأغراض قد نسي ؛ فتتوجه إلى وسط القرية ؛ حيث سوقها القديم ؛ حيث ذلك الدكان الذي يذكرك بدكان في قريتكم ؛ إن كنت قروياً ؛ أو بدكان عتيق بحيّكم بالمدينة القديمة ؛ إن كنت من أولادها ؛ فإنك لن تجد صعوبة في الوصول إلى قلب القرية ؛ ولكنك ستجد أن كلّ الدكاكين مغلقة جميعاً ، بلا استثناء.

الجمعة، فبراير 12، 2010

وادي قرية الطفولة




كان في قريتنا وادٍ يغني كلما حلّ الشتاء، يجيء ـ وقد نسيناه ـ من أرض مجهولة، يقبل منها السنونو في الربيع، ويذهب إليها السحاب في الشتاء، ليقطع القرية بسم الماء إلى حيّين : قبلي وبحري، هو خط من الماء متعرّج، بنـّيّ يُرقّش بومضات من زبد بيضاء، فيغدو بمثابة حدٍّ رومنسي يثير في القرويين مشاعر من نرجسيات فوارق صغيرة (*) خرقاء، وذلك عندما يحجز مركز الشرطة والمستوصف ومكتب البريد والمدرستين والإتحاد الاشتراكي ـ علاوة على المساكن الشعبية الجديدة ـ في نطاق الحارة البحريّة، في حين لا يُبقي للحارة القِبلية نصيباً من المرافق العامة سوى الجامع والزاوية العروسية والسوق القديم .


لكنّ الوادي مع ذلك يدعو الناس إلى تجديد التواصل، فيهرعون إلى مدّ جسور من الحجارة ومن الخطى ومن النداءآت للعبور من و إلى إيّ من الضفتين، بعد أن يكون قد غمر عتبات كثير من البيوت التي بلغها مدّه فغسلها من آثار خطى زيارات قديمة وهيّأها لاستئناف زيارات جديدة .ولم يكن الوادي ليأخذ أحداً من الناس أو شيئاً من البهائم، لكنها ربما كلمات يعبّر بها القرويون عن الاحتفال والاحتفاء بِوُديٍّ هو فرع من أحد فروع وادي القطارة الذي هو في أغنية الأطفال كلّ عام يجيء بعجوز ويذهب بحمارة أو العكس، فهو بالكاد يحمل جماعات الضفادع التي تسارع إلى التقافز إليه، دون أن يعلم أحد من أين جاءت، أو يحمل السفن الورقية التي يرسل بها أطفالُ أعلى القرية إلى أطفال أسفلها، وهؤلاء بدورهم يضيفون إليها ثم يمررونها إلى أطفال في حي الكيش أو عند شواطئ البحر في المدينة .


وهذه صورة رومانسية حالمة بالطبع، تقابلها وتواكبها صورة لزملائهم الذين لا يكفّون ـ تعريضاً لعشية الشتاء ـ عن مطاردة الأبقار والقطط ويوجهونها ويدفعونها إلى عبور الوادي متلذّذين بحالة ذعرها ورعبها من المياه الباردة.وسوى هذا لم يكن للوادي من أثر كارثيّ على القرية، اللهم إلا إصرار خيط منه على المضيّ حتى شارع (الغراق) في الشعبية البيضاء، ليطلق العنان ـ مثل صلّ لاجئٍ إلى جحره ـ لدوّاماته المحمّلة بأغنياته داخل حجرات بيوته ـ المبنية قواعدها على أُذنٍ ألِفَ الوادي منذ حقب الانتهاءَ إليها ـ ناشراً محتوياتها بلا استثناء وبلا تفريق بين أزياء وأثاث ودواجن .الأمر الذي دعا البلدية إلى أن تتخذ تدبيراً ؛ باستدراج الوادي إلى أن يمر خلال بضع عبّارات ؛ حتى يجد نفسه فجأة في أخدود ينتهي إلى أذن أخرى خارج حدود القرية، بعيدا، حيث لم يعد يُسمع غناؤه إلا في ذاكرة كذاكرتي التي لم تزل تحتفظ بذكريين من ذكريات فيضان وادي قريتنا .


إحداهما خِفّتنا المبتهجة ـ ناجي واحميده وأنا ـ لنشهد صلاة جمع تقديم المغرب والعشاء، الشعيرة التي لم يكن يخلو شهودُها من بعض مظاهر الاحتجاج ؛ في نظرات و تمتمات البسيطين من أهل الحارة القبلية القريبِ سكناهم من المسجد، عندما يعلن المؤذن ـ وهو من سكان الحارة البحرية وراء الوادي ـ بأن الصلاة جامعة .


أما الذكرى الأخرى فهي أنّا ـ مطلوب وأنا ـ بعد الخروج من المدرسة تعللنا بفيضان الوادي وقطعه الطريق، لنبقى للغداء في بيت صديقنا في الفصل حكيم، ثم أمضينا بقية النهار معاً، ولتنشأ بيننا ونحن عند الضفة الأخرى للوادي صداقة لم تكفّ ـ رغم انقطاع وادي قريتنا عن الجريان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعبير علم نفسي .سمير عبدة

الثلاثاء، فبراير 09، 2010

حوش العيلة



هـو عنوانه إليه
الأبيض في الصّباح
البنفسجيْ في الأصيل
الأسمـر في موسـم الحرث
الأصفر في موسم الحصاد
المرقـّش بظلال و ضياء التين و العصر
المخطّط بالطين
المخضّب بالطحالب
الدّفيء بنبض أعشاش الزرازير
المكعّب بالحكايات

أحمله – من قبل إرمَ – إلى المنازل
يناديني من بعيد باسمي
بلغة البيوت العرْبيّة الليبّية
المسكونة بأرواح و روائح من رفعوها
بأيديهم و أغنياتهم
بطين و أحجار كالأرغفة و الوسائد
مشوبة بدم أناملهم و عرق أجبنتهم
قبضوها من أرض معركة ضدّ الغزاة
و سـدّوا الفجوات بينها – قبل أن تجلب الريح–
بفلْذات الملابس الأولى

فبأيّ عقـدٍ - ليس فيه عتبته و قِبلته و أنفاسه و ظلاله و زوايا الأحلام والذكريات و الحمام والجيران–
أؤجّر بيتاً يحيا فيَّ و أمـوت فيه ؟
إن الذي يشتري بيتنا
بيت الطفولة
بيت العائلة
المنزل الأول
يشتريني .

المشاركات الشائعة