الثلاثاء، فبراير 16، 2010

دكان بوصندوق


لعلك ذات يوم من أيام فصل ربيع مضى قد قدمت وعائلتك في "زردة" إلى غابة الكافور والصنوبر الحارسة لقريتنا من الرياح والغبار، تلك الغابة التي شاركت لا ريب في غرس شجرة من أشجارها ، أيام كنت طالباً بإحدى المرحلتين الإعدادية والثانوية أواسط السبعينيات ، ولعلك قد اكتشفت في لحظة من اللحظات الممعنة في زمن الزردة أن هناك غرضاً قد نسي ، غرضاً من الأغراض الصغيرة التي تغدو كبيرة و ملحّة في الزرادي ؛ علبة هريسة مثلاً أو بطاريات لمذياعك الخاص ، وهكذا كان لا بد أن تتوجه إلى قلب القرية ؛ الذي لا يُضطر قاصدُه إلى كثير عناء للوصول إليه ، حيث سوقها الصغير القديم ؛ فانطلقت وأنت لا تريد أن تصدق ما يحدثك به قلبك من خاطرة أنْ لا دكاكين تكون مفتوحة في تلك الساعة من ذلك اليوم الذي لعله يكون يوم جمعة ، تلك الساعة الشبيهة ربما بتلك التي يصفها سارتر في روايته الغثيان ؛ بأنها (اللحظة العجيبة من لحظات ما بعد الظهر ؛ التي هي دائماً قبل الأوان أو بعده ؛ بالنسبة لكل ما يريد المرء أن يعمله) ، ولكنك على الرغم من ذلك قد وجدت في صف الدكاكين المغمضة العيون والمطبقة الأفواه دكاناً واحداً مفتوحاً.

والآن هل يمكنك أن تتذكر معي ذلك الدكان؟ .
الدكان الذي لم يكن في أول الدكاكين ولا في وسطها ولا في طرفها ؛ كما اعتدنا أن نقرأ في القصص والحكايات والروايات ، الدكان الذي أحسست أنه كان ينظر إليك من بعيد ؛ ويناديك باسمك ويدعوك إليه بلغة المباني العَرَْبية الليبية ، المباني التي رفعها من سكنها نفسُه بيديه ؛ وعلى دقات قلبه وحالات مزاجه وعاطفته وأغنياته ، فهي عبقة برائحته الخاصة وبأنفاسه ؛ هامسة بظلاله وأحلامه وأسراره ، ممزوج بعجنتها الطينية بعض من عرقه ؛ وعالق بالمسامير والألواح بعض دم أنامله ؛ ومسدودة ٌ الفجواتُ التي تجلب الريح بفلذات الثياب الأولى ؟.

الدكان المتكئ إلى الوراء ؛ كما لو أن نسمة مسته وهو لم يزل طرياً ؛ فاتخذ شكل متوازي الأضلاع ؛ الدكان ذو الواجهة المطلية بالأبيض السميك ؛ والجبين الفسيح المخطط بسويلات بُنيّة نحيلة ؛ بعضها جفّ قبل أن يصل إلى أقدام الدكان الغائص في الأرض حتى أذقان الشبابيك ، الدكان ذو المصباح القُمْعيّ والميازيب المنفوشة منها أعشاش الزرازير ، الدكان ذو ضلفة الباب ذات التمساح الصدئ الذيل منذ أن قَطعتْ عنه الدورةَ الدموية شفرة ُ الحلاقة الحادة في اللوحة المعدنية ، والفك المرفوع نحو الضلفة التوأم ذات اشرب كوكاكولا ، الدكان الذي اكتشفت حين صرت على أعتابه أنه أكثر من دكان ، فهو دكان ملحق ببيت ؛ أو بيت ملحق بدكان ؛ يفصل ويصل بينهما ممر ظليل معتم شيئاً ما ؛ يمثل منطقة اشتباهٍ بين التجرة والمعيشة ، مسافة عميقة رطبة تحمل أنفاسَ الدكان إلى البيت ؛ وأنفاس البيت إلى الدكان ، تـُقطع بالوسوسة أو السبحلة أو الدندنة أو الصفير ، هي المنطقة الأكثر لَفتاً لنظرات وخواطر الزبائن ؛ حتى من أرفف البضائع التي يأتون أساساً من أجلها ؛ وهي المنطقة التي لا شك أنك حدست أن يلوح لك منها بين الضوءِ والظل وجهُ صاحب الدكان ؛ كما لو كان في إطار لوحة انطباعية من القرن التاسع عشر ؟ .

على كلّ حال ؛ أنت بتجربتك تلك كنت على عتبات أقدم دكان في القرية ؛ إذا اعتبرناه دكاناً ؛ وأقدم بيت فيها إذا اعتبرناه بيتاً : فإذا كانت القاعدة هي أنّ البابَ بين أبواب الدكاكين بابُ دكان ؛ والبابَ بين أبواب البيوت بابُ بيت ؛ إلا أن الضيوف من القرويات خاصة والقرويين أحياناً ما يختصرون طريقهم إلى البيت من باب الدكان ؛ فيما يختصر بعض الزبائن طريقهم إلى الدكان من باب البيت ، بينما في المناسبات تتحول الصناديق و"الشوالات" و"السطولة" في الدكان إلى كراسي ؛ يقتعدها بعضُ وجوهِ القرية ؛ لفضّ نزاع أو لإبرام عقد بيع أو زواج ، أو تتحول أكرات الأبواب والنوافذ والمسامير والقناطر والميازيب في البيت ؛ إلى مرتكزات ومعاليق تتدلى منها الأقمشة والفساتين والبدل والمناشف والحقائب والأحزمة والشمسيات والعكازات والمغارف والفنارات والقناديل والأسلاك والخراطيم ؛ و كل ما يعلق أو يركـّز أو يثبـّت أو يشبّك من البضائع ؛ حسب كل مناسبة و موسم .

لقد كنت يومَها إذن عند دكان بوصندوق ، وبوصندوق هو الشيخ الذي نبهك صوته الداعي بالتفضل بنبرة خاطفة مكتومة ؛ كسقوط كيس ملح من رفّ ؛ فتفرسّت طويلاً حتى استخلصت ملامحَه من الخلفية الفوضوية للبضائع ؛ واخترت له اسماً ؛ أما الصندوق فيمكن اعتباره الدكان ذاته ؛ أيامَ كان صغيراً مستطيلاُ وحديدياً ؛ ومملوءً بـ"المحارم" والمكاحل والأمشاط و"المساسيك" والمرايات و"الطقاقات" والبالونات و"البواليص" والزمامير والجاوي و"الحنة" و"اللوبان" والقداحات ... محمولاً على ظهر حمار يذرع برقة ؛ محاذياً السكة الحديدية من محطة إلى محطة ؛ ليبيع ويبيع ويبيع ؛ هنا وهناك ؛ مسافراً في كلّ مكان ؛ حتى سقط الحمار نافقاً في النقطة التي بُني عليها دكان بو صندوق ؛ دكان لرْبعة وعشرين ساعة ؛ دكان "ديما ديما" ليبدأ سفراً آخر في الزمان ؛ متيحاً كلَّ دقيقة من دقائق كل يوم الألف وأربعمئة وأربعين لزبونها الخاص ، سواء كان حارساً ليلياً نفدت علبة سجائره ؛ أو عابرَ سبيل احتاج إلى زاد خفيف ؛ أو فتى استنكف حساء العجوز ؛ ففضل علبة تونة ؛ أو قيّم المسجد لزمه ذات فجر شتائي شمعة ؛ أو "زرّاد" مثلك افتقد غرضاً ولو منتصف نهار جمعة أو عطلة ، ولعل بك فضولاً إلى معرفة مصير الصندوق الحديدي ذاته ؛ إنه تحت النطع الذي يجلس عليه بوصندوق ؛ وما النطع إلا جلد حمار بو صندوق.

لعلك ذات يوم من أيام فصل ربيع آت ستأتي وعائلتك في "زردة" إلى الغابة الحارسة لقريتنا ؛ ولعلك كالعادة في كل زردة ؛ ستكتشف أنّ غرضاً من الأغراض قد نسي ؛ فتتوجه إلى وسط القرية ؛ حيث سوقها القديم ؛ حيث ذلك الدكان الذي يذكرك بدكان في قريتكم ؛ إن كنت قروياً ؛ أو بدكان عتيق بحيّكم بالمدينة القديمة ؛ إن كنت من أولادها ؛ فإنك لن تجد صعوبة في الوصول إلى قلب القرية ؛ ولكنك ستجد أن كلّ الدكاكين مغلقة جميعاً ، بلا استثناء.

هناك تعليقان (2):

  1. لقد بعثرت وريقاتي و اسراري الدفينه لقد كشفتني لانك قد كتبتني

    ردحذف
  2. كلك ذوق يا أبا أنس ، الحمد لله أنك صديقي ، والحمد لله الذي منحنا هذه الأحاسيس المرهفة ... الربيع ينتظرك .
    دمت

    ردحذف

المشاركات الشائعة