السبت، فبراير 27، 2010

البغدادي


اليوم حفلة البغدادي، هذا ما كان قد أعلنه بما بين كلمة مثل إيماءة وإيماءة مثل كلمة شيخ الزاوية العروسية، بعد أن رأى في منامه فجر الاثنين الماضي الإشارة بذلك، فأذن لتلاميذه بالانطلاق لطرق كل باب من أبواب بيوت المريدين الداني والقاصي منهم سواء طرقاً بأيامنهم ـ لا على أي نحو آخر ـ لإبلاغهم بالميقات.


لذلك فإن الرياحَ البحرية كانت قد أُرسِلت منذ الصباح دافعة قطعان السحب البيضاء لتمسح ظلالُها اللطيفة سطوحَ بيوت القرية، وتمرّ لتشوب بكحليتها فتمنح ألواناً أخرى لا أسماء لها للرايات الكبيرة الخضراء والصفراء والبيضاء والسماوية المسموعة الخفق، التي انتهى التلاميذ من نصبها على مبنى الزاوية، وعقود المصابيح الملونة تزحف في كل الاتجاهات متقاطعة على الحدبة المخضبة بالأشنات للسور ذي الحراشف الزجاجية للمبنى الناصع البياض من الجير الذي طلي به حديثاً، ثم متلوية على أقواس السعف وجذع النخلة العتيقة حتى تشكل عراجين يمكن ملاحظة ضوءها الخافت في ظل سعفاتها .


وبهذا المظهر الذي يتخذه مبنى الزاوية العروسية العتيق المبنيّ بـ (ساس خمسين) تكون الدعوة لحضور ختمة البغدادي قد صارت عامة.


فالرجال ـ وأولهم بالتأكيد سيك الضـاوي الذي سيجهز جيبه بربع كيلو فلفل وملعقة خشبية وأعواد القزاح لتنظيف أسنانه، وأصحاب دكاكين الجزارة بالطبع ـ يعرفون أن ثمة وليمة كبيرة بعد صلاة المغرب، وربّات البيوت يعرفن أن عليهن الإسهام كل واحدة بوجبة من بازين أو كسكسي أو عيش بالحليب والسمن أو سواها من المأكولات الشعبية لتكون جاهزة قبيل أذان المغرب مشكّلة صفوفاً من القصاع المغطاة التي لا يحبّذ أحد أن يعرف بما تحويه قبل أن تكشف أمامه في الرباعة .



أما الأطفال فقبل سواهم، هم من يعرفون أن الأناشيد في مدح حبيب الأطفال ومحبهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستمتد وتتسع من بعد صلاة العصر حتى ما قبل صلاة المغرب، ولن تقتصر على قصائد التخميس الوتـْرية في مدح خير البرية، بل سيكون في وسع من شاء منهم أن ينشد مع أولاد الزاوية ذوي الوجوه المبيضة والثياب البيض :طلع البدر علينا أو يا آمنة بشراك أو يا رفيع الشأن، في صحن الزاوية، حيث تمتزج روائح البخور والجاوي وماء الزهر ورائحة أنفاس المكان والزمان والإنسان الصوفية، وسيكون لهم نصيب من كؤوس الشربات التي هي منذ الصباح في القدور والطناجر الكبيرة كما هي في خواطرهم الصغيرة، وسيلعبون مع موزع الشربات لعبة الحصول على المزيد لهم ولجداتهم اللائي أرسلن معهم زجاجات أو جالونات لملئها بالشربات الممزوجة بماء الرقية، وكذا نصيبهم من عصيّات الحلوى المخططة التي يبيعها للأطفال بأي مبلغ ولو من جيبه هو ـ وحتى بالعملات القديمة والغريبة ـ التاجرُ النحيل الطويل ذو الثوب المخطط على عتبات مدخل مبنى الزاوية، مصدّقة بالدعاء له بزيارة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقط لا غير.


اليوم ـ يوم ختمة البغدادي الذي لن يعلق أحد بأنه تأخر أو تقدم سواء انفرط شهر ربيع الأول أو لم يزل منه بقية ـ قريتنا تتشبه بيثرب، أو تتصل بها بخيط روحاني نوراني شفيف، أو بعروقها الزاحفة حتى يثرب كما يرى شاوش الزاوية، إذ بعد العيدين الفطر والأضحى المباركين، فعيد المولد النبوي الشريف، ليس ثمة من يوم سماوي بحجم ختمة البغدادي على أرض قريتنا منذ وعيت الدنيا، حتى ترسخ لديّ شعور بأن هذا الحفل خاص بقريتنا دون سواها من القرى التي يتوافد منها المحتفلون، إذ سيمتلئ خاطر المرء تحت ألواح سقف المبنى الصوفي بأرواح وأعين ناس القرية الأولين والآخرين، المقيمين والذين جاء بهم الحنين إلى قريتهم التي غادروها حاملين بيوتها في قلوبهم بعد أن لم يستطيعوا حملها معهم، كما كان يفعل أجدادهم ببساطة كلما هموا بالرحيل وحيثما نزلوا، كما سيخامر الناسَ شعور بأن الزمن تراخى وتمطط واستطال كنهر من عسل كشأنه مع الأولين من سكان القرية الذين كانوا يحتفلون هذا الاحتفال نفسه، أولئك الذين لم يعد يدبّ منهم أحد على أرضها، وأنّ أقسام النهار من ضحى وقيلولة وظهيرة وعصر وأصيل ستأخذ ألوانها الأصيلة الخالصة وهي تدخل في بعضها البعض بسلاسة وسلام متسللة نحو الغروب .


حتى إذا غشي الليل انفرجت الزاوية وتنعمت حصر الديس، وتفسحت جدرانها وشفت واتسعت حتى صارت بيداء أو فضاء، وإذا بـ (البخور يذوب ليتحلل في الطيب، والطيب يذوب فيلتحم بالبخور، والنغم يسعى لمعانقة الإيقاع، بينما يعود الإيقاع متدفقاً في النغم*) ، على حدّ تأملات شاعر الهند العظيم، ثم تناهَض الصوفيون الدراويش للحضرة في مشهد رَكْبٍ من الرجال كالجمال، يسيرون بالمكان أو يسير بهم المكان، فيعرجون على مقامات ورياض أنبياء وصديقين وشهداء وصالحين وأولياء، يحدوهم حبّ عميق عمق الإيمان بالغيب، قديم قدم الحق، وشوق مقيم إلى البيت المعمور وقباء المشهور .


اليوم حفلة ختمة البغدادي في قريتنا، وأنت مدعوّ لذلك وبكل سرور، فهل ستكون معنا ؟، أرجو ذلك، فما عليك إذن إلا أن تتحلى بإحدى صفتين، أولاهما الصفاء، الذي على كل حال سيتلبسك بمجرد خلعك نعليك و ولوجك إلى المبنى العتيق، وثانيتهما التي لا ثالث بعدها الطفولة، ستجد من يبتسم لك ويصافحك ويعانقك ويقبّل يدك ورأسك، ويستلم حذاءك ليضعه في مكانه، كبيرَ السنّ كنت أم صغيراً، يعرفك شخصياً أو لا يعرفك، وسيعلق بك منه شيء من رائحة المسك، وستحسب من الذاكرين، فإن لم يكن بوسعك فلا تكليف،

وإن لم ترد فلا حرج (فمعذور من ذاق ومعذور من لا ذاق ) كما هو القول الصوفي الليبي.وصلِّ معنا حيثما كنت على النبي المصطفى !.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* هكذا غنى طاغور .ترجمة خليفة التليسي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة