الجمعة، فبراير 12، 2010

وادي قرية الطفولة




كان في قريتنا وادٍ يغني كلما حلّ الشتاء، يجيء ـ وقد نسيناه ـ من أرض مجهولة، يقبل منها السنونو في الربيع، ويذهب إليها السحاب في الشتاء، ليقطع القرية بسم الماء إلى حيّين : قبلي وبحري، هو خط من الماء متعرّج، بنـّيّ يُرقّش بومضات من زبد بيضاء، فيغدو بمثابة حدٍّ رومنسي يثير في القرويين مشاعر من نرجسيات فوارق صغيرة (*) خرقاء، وذلك عندما يحجز مركز الشرطة والمستوصف ومكتب البريد والمدرستين والإتحاد الاشتراكي ـ علاوة على المساكن الشعبية الجديدة ـ في نطاق الحارة البحريّة، في حين لا يُبقي للحارة القِبلية نصيباً من المرافق العامة سوى الجامع والزاوية العروسية والسوق القديم .


لكنّ الوادي مع ذلك يدعو الناس إلى تجديد التواصل، فيهرعون إلى مدّ جسور من الحجارة ومن الخطى ومن النداءآت للعبور من و إلى إيّ من الضفتين، بعد أن يكون قد غمر عتبات كثير من البيوت التي بلغها مدّه فغسلها من آثار خطى زيارات قديمة وهيّأها لاستئناف زيارات جديدة .ولم يكن الوادي ليأخذ أحداً من الناس أو شيئاً من البهائم، لكنها ربما كلمات يعبّر بها القرويون عن الاحتفال والاحتفاء بِوُديٍّ هو فرع من أحد فروع وادي القطارة الذي هو في أغنية الأطفال كلّ عام يجيء بعجوز ويذهب بحمارة أو العكس، فهو بالكاد يحمل جماعات الضفادع التي تسارع إلى التقافز إليه، دون أن يعلم أحد من أين جاءت، أو يحمل السفن الورقية التي يرسل بها أطفالُ أعلى القرية إلى أطفال أسفلها، وهؤلاء بدورهم يضيفون إليها ثم يمررونها إلى أطفال في حي الكيش أو عند شواطئ البحر في المدينة .


وهذه صورة رومانسية حالمة بالطبع، تقابلها وتواكبها صورة لزملائهم الذين لا يكفّون ـ تعريضاً لعشية الشتاء ـ عن مطاردة الأبقار والقطط ويوجهونها ويدفعونها إلى عبور الوادي متلذّذين بحالة ذعرها ورعبها من المياه الباردة.وسوى هذا لم يكن للوادي من أثر كارثيّ على القرية، اللهم إلا إصرار خيط منه على المضيّ حتى شارع (الغراق) في الشعبية البيضاء، ليطلق العنان ـ مثل صلّ لاجئٍ إلى جحره ـ لدوّاماته المحمّلة بأغنياته داخل حجرات بيوته ـ المبنية قواعدها على أُذنٍ ألِفَ الوادي منذ حقب الانتهاءَ إليها ـ ناشراً محتوياتها بلا استثناء وبلا تفريق بين أزياء وأثاث ودواجن .الأمر الذي دعا البلدية إلى أن تتخذ تدبيراً ؛ باستدراج الوادي إلى أن يمر خلال بضع عبّارات ؛ حتى يجد نفسه فجأة في أخدود ينتهي إلى أذن أخرى خارج حدود القرية، بعيدا، حيث لم يعد يُسمع غناؤه إلا في ذاكرة كذاكرتي التي لم تزل تحتفظ بذكريين من ذكريات فيضان وادي قريتنا .


إحداهما خِفّتنا المبتهجة ـ ناجي واحميده وأنا ـ لنشهد صلاة جمع تقديم المغرب والعشاء، الشعيرة التي لم يكن يخلو شهودُها من بعض مظاهر الاحتجاج ؛ في نظرات و تمتمات البسيطين من أهل الحارة القبلية القريبِ سكناهم من المسجد، عندما يعلن المؤذن ـ وهو من سكان الحارة البحرية وراء الوادي ـ بأن الصلاة جامعة .


أما الذكرى الأخرى فهي أنّا ـ مطلوب وأنا ـ بعد الخروج من المدرسة تعللنا بفيضان الوادي وقطعه الطريق، لنبقى للغداء في بيت صديقنا في الفصل حكيم، ثم أمضينا بقية النهار معاً، ولتنشأ بيننا ونحن عند الضفة الأخرى للوادي صداقة لم تكفّ ـ رغم انقطاع وادي قريتنا عن الجريان .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعبير علم نفسي .سمير عبدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة