الأربعاء، مارس 31، 2010

يومُ يوم ِ القيامة




في ربعِ السّاعةِ الأخير من الحصّةِ الأخيرة، وكلُّ فصولِ المدرسةِ قد خلت ، قال لنا الأستاذ خميس:


ـ أو توّا سكّروا كتاباتكم وانتبهوا لي كويّسْ، لاينّه فيه ميضوع خطير نبّي نحكي لكم عليه، واللي يقدر منكم يخش ويشارك في ها لميضوع يفكّه الله من عذاب النّار ويكتب له الجنّة.


وحتى تلك اللحظة فكّرتُ أنّ أستاذنا خميس يريد منّا مرة أخرى، أنْ نحش الحشائش للحمير المحبوسة في (الحاصل)، العمل الذي لقي على إثره استحسان وثناء القرويين، لكنّه في تلك المرّة عرض علينا موضوعاً مختلفاً، لازلتُ أذكره به ، كلّما استعدتُ وأصدقائي ذكرياتِ الدراسة الابتدائيّة.

قال الأستاذ خميس:

ـ فيه راجل مشى ليَّام اللي فاتن للحج ، وهو يطوف بالبيت كلّمه غفير الكعبة المشرّفة وقال له يا ابني نبّي نوصّيك ونعلق في رقبتك أمانة عظيمة، اسمعني يا ابني، البارح ريت في منام الله العزيز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لّي بلّغ لسلام أنّ يوم القيامة قريّب؛ ما بينّا وبينه شي؛ ويا ويل اللي ما يتوب ألربّه، يا ابني اكتب ها الكلام اللي قلت لك عليه سبع مرّات؛ و وزّعه على سبعة من أقاربك، وقول لكل واحد منهم يدير كيفك، و راه اللي ما يكتب ها النصيحة يموت في سبع أياّم هو وسبعة من أحبابه، أمّا اللي يكتبها سبع مرّات يحصلن له سبع كرامات في سبع أيام .

فسألتُ الأستاذ خميس، وفي بالي أختي مريم الأميّة :

ـ واللي ما يعرف يقرأ لا يكتب يا استاد؟ .

فأجابني وهو يبتسم بثقة :

ـ هذي موش مشكلة بلكل، اتغص فالزبدة حتى أنت، اللي ما يعرف يكتب يكتب له واحد من أقاربه .

ثم قام أبو بكرـ الملتحق أيامَها بدورة تعليم طباعة ـ وسأله :

- ضروري تنكتب كتيبة وإلا حتى طباعة يا استاد؟ .

فصاح الأستاذ خميس:ـ "آ ... ه طباعة لا، الكتيبة لازم باليد، والأفضل بحبر الصوف اللي يكتبوا بيه في القوران علّلوح، لكن اللي ما يلقش الله غالب عليه ؛ والدِّين يسر موش عسر، يكتب حتى بقلم رصاص باهي .

ثم أضاف وهو يرفع يده تأجيلاً لبعض أسئلة التلاميذ :

ـ أُسّسسّ، أسّ ؛ انتبه أنت وياه ؛ على ذكر الطباعة، نقول لكم أنّ الطباعة بدعة، وهي بروحها علامة من علامات يوم القيامة اللي نسيت نقول لكم عليهن .

وحينها تساءل الفصل جميعاً تقريباً:

ـ شنو هنَّ علامات يوم القيامة يا أستاد؟.

فردّ وهو يهزّ رأسه :

ـ لو صبر المقتول على القاتل لقتل؛ كنت جايكم بالكلام

ثم استطرد:ـ "علامات يوم القيامة واجدات ؛ وباينات كيف عين السمس ؛ غير اسم الله عالغافل، أوّلهن يا أبنائي على سبيل المثال العملة ورق والعيشة شرق، وثاني حاجة أن البوادي تمّو يزّابو في بني العمارات ويديرو للعبي في جيوب(وسُمع من قال حلوة هذ) وبعدين عندكم تيّار الخنافس، واللي طبعاً معظمكم وللأسف الشديد ماشيين فيه، وعندكم تشبّه الرجّالة بالصبايا وتشبّه الصبايا بالرجّالة، وعندكم التصوير، ونحت التماثيل، وموش بعيدة حتى التلفزيون ...

فصاح أحدهم: ـ والراديو ؟ .

فقال الأستاذ خميس: ـ لا ، الراديو عادي .

ثم خيّم صمتٌ تفكـّر فيه المعلّم علامات أخرى ليوم القيامة، فاقترح فتحي الفيلسوف:

ـ غلاء المهور؟.

فنهره الأستاذ خميس باشمئزاز:

ـ أيش دخّل غلاء المهور يا دبيبة.

فضجّ الفصل بقهقهات صاخبة، وعمّتْ فوضى ما كاد المدرّس اللّين يسيطر عليها، وحمدتُ الله في سرّي لأني كدتُ أقول الشيءَ نفسه، وبعد أنْ هدأ الفصل، لا هيبة من المدرّس بل انتظاراً للحظةِ التسريح، عاد الأستاذ خميس يقول:

ـ خلاص خلاص، كلمتين وتروّحوا، المهم اللي نبّيه منكم هو التوبة، وتحطّوا في بالكم أنّ يوم القيامة يمكن يطبّ عليكم في أيتها لحظة، وانتو تلعبو في البطش والاّ في الكورة والاّ تصّنتوا في المرسكاوي تحت أركان السّيسان عقابات اللّيول يا معيوف أفندي، وغافل عن يوم تشّقق فيه السما نصّين وتهزّهز لرض كيف زلزال المرج إيجي ميّه وخمسين مرّة كان ما أكثر من هكّ ، وتقربْ فيه السمس نين ما يبقى بينها وبين راس لبنادم مغير اشبر.

ثم دعا نوري الغرنوق أطولَ تلميذ في الفصل، وجعل منه وسيلة شرح قائلاً:

ـ إنْ كلاّ المومن ما يشعر بيها بلكل، والعرق يبقى أندال أندال، واحد غارق لا عند شوشته في العرق، أو وّاحد لا عند رقبته، أو وّاحد لا عند ركبيه، أو وّاحد لا عند عظيْمة الرّخا، كل واحد وعمله وبها الشّكل هذ ....

ولم أجدني كمعظم التلاميذ آخذاً الأمر بروح الهزل والتهريج، بل بدأت أشعر بالضيق شيئاً فشيئاً، خاصّة عندما همس لي جاري في المقعد حمد حمد:

ـ أبعدكْ عندنا فرح أختي في العطلة الصيفية، عليك حظ امّلّحْ .

ثم بعد أن أشار الأستاذ خميس جهة النوافذ فوقف كل التلاميذ قال:

ـ ويمتسحن ها ذكّين لجبال مسح علي وجه الوطا. فانتابني هلع انبثق من أعماق أعماقي، ولاحتْ لي وجوه أبناء خالاتي في القرية وراء تلك الهضاب، وأحسستُ بشفقة عليهم وعلى وجوه مجهولة لاحت في مخيّلتي، وتلتها حالة خوف وحاجة للذهاب إلى بيتنا، وعندما تململتُ لكي أعيد الألفة إلى المقعد عدت لأسمع الأستاذ يقول:

ـ وتجّمّعْ الناس كلّها عرايا كيما خلقهم ربي، ولا أمّك تعرفك ولا باتك، شيّ .

فاقشعرّ جلدي وطغى عليّ خوف كبير ؛ وضبّبتْ عيناي وبَردَ كلّ جسمي وهو يتعرّق، وانقطعتْ بي الهواجس عن الفصل، وصار صوت المدرس ذا صدى عالٍ رنّان غير واضح الكلمات، وقهقهة التلاميذ مثل هدير الشاحنات قربَ الطريق العام، وبعد وقتٍ ما عادت قامة الأستاذ خميس والسبّورة كأنها في سراب، وسألني:

ـ كنّكْ يا ولد؟ مريضو؟ .
فقلت:
ـ آء انحس في راسي و بطني . فقال لي:

- صبّي صبّي، لمْ كتاباتك وروّحْ الحوشكم.
فسحبتُ حقيبتي متمارضاً، وسمعتُ معيوف يصيح:

ـ أنوصّله يا أستاد؟.

ومضيتُ خفيفَ الوزن فارغ الرأس، وكانت الشمس حارّة، والأزقة خانقة، والناس في بيوتهم، وبدا لي النهار غريباً كأنما أنظر عبر زجاج ملوّن، وأنا أتساءل في نفسي لماذا اختار الله هذا التوقيت بالذات، ورغم ثقتي الطفوليّة برضا الله عليّ باعتباري نفسي ابناً لعائلة متديّنة، إلاّ أنّ ذلك لم يحُلْ دون شعوري بالحسرة الكبيرة على الحياة التي ستنتهي قريباً.

في فناءِ البيت وجدتُ أختي الصّغرى تبني بيوتاً بالطين، فسألتها:ـ

ـ قالوا لكم يا فتحية في المدرسة عليْ يوم القيامة؟". فأجابت بالنفي ممّا عمّق وحدتي، ثم استفهمَتْ، فقلتُ لها وأنا أحاول مشاركتها اللعب بلا اشتهاء:

ـ أوّلْ بادي العرب كلهم يموّتوا، هللي هنا وهللي في لبلاد، أو في الحج أو مصر كلهم كلهم، حتى القطاطيس والكلاب والطيور، وكل حاجة ....

فقاطعتني:ـ وحتى حنّي مبروكة؟.

فأجبتها بحنق:ـ أمّا لا شنو ؟ قلت لك كلهم كلهم .

فقوّستْ زاويتيْ فمها، وأخذتها نوبة بكاء ٍ لم أعرف كيف اتصرّف حيالها، إلاّ أنْ أعدو إلى البيت.

الأحد، مارس 28، 2010

عوضين الحسّـان


عوضين كهل من أم الدنيا امتهن الحلاقة في قريتنا منتصف السبعينيات، كأول حلاق بعد الحلاق التقليدي الشرطي بشير الذي يشحذ موس الحلاقة على قطعة جلدية ويحلق بمقص كبير بحجم "الجلم" والمشط للتخفيف وبالّلاميته للحلاقة صفر، بالإضافة إلى ممارسته الحجامة والختان، بل حلاق يقترب من العصرية حيث توافر محلّه على كرسي الحلاقة الدوّار والمرآة والماكينة الكهربائية والاستشوار والمسجل وسواها.


كان لعوضين وجه وجاكيتة مدرس تاريخ ، وحكايتان يصنع لهما أجنحة وهو يقص شعر الجالسين على الكرسي الدوّار، حكاية للشباب، وحكاية للشيوخ، أو من يحملون أرواح الشيوخ من شباب قريتنا، الحكاية الأولى للشعر الطويل الخنافس، تبدأ عند تشغيله لشريط "ما أقدرش أنساك" لعبد الوهاب تقول الحكاية : ( مرة عبد الوهاب كان عاوز يحرج فريد الأترش، قام دخل عليه وسط الشله بتاعتو في غرفتو في فندق الشيراتون، إللي كان مقر فريد الدائم لما ينزل مصر، ومحل ما كنت اشتغل حلاق قبل ما سافر الخليج إللى بعديها جيت هنا هوّنْ، لليبيا، المهم دخل الأوستاز موسيكار الأجيال عبد الوهاب وقال بالعود موش بشفايفو: السلام ُ عليكو يا جماعه، واخد بال حضرة جناب سيادتك يا فندم ؟، قالها بالعود. يعني بالمزيكا. موش بشفايفو، قال إيه ؟ عايز يحرج فريد، هو صحيح لكلٍ مقام، بس ما تنساش ياعب وهاب يا أوستاز يا فرعوني ياعبقري يا عظيم إن فريد تلميذ العملاق الكبير الأسطورة رياد السومباطي ، وعشان كده قام فريد ولا على بالو و خد عوده، ما هو راخر موسيقار برضك، ومافيش حد أحسن متاني، وقالّو. بالعود برضك موش بشفايفو . وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إه إه إه إه إه إه، يا خرااااشي على أهل الفن، وعمايل أهل الفن ... ) ، وحكاية عوضين هذه لا تحط هكذا و هنا تماماً، بل قبل دخول التحليقة مرحلة بعيدة عن الصفر.


أما الحكاية الثانية وهي للشيوخ كما قلنا، فتبدأ مع ابتلاع المسجل لشريط قصار السور لعبد الباسط عبد الصمد ( .. ده عبد الباسط كان من حارتنا، وكان صاحب أبويا الرّوح بالرّوح، وكانوا قبلنْ زملا في الأزهر الشريف، دا حتى إف وفاة أبويا ـ الله يرحمك يا با ـ قام قعد يحيي اف ليالي المأتم بدون فلوس، أصل أبويا الله يرحمو ويحسن إليه كان ولا مواخزة مدمن عبدالباسط عبد الصمد، ينام ويصحى على سورة سيدنا يوسف على نبينا محمد وعليه السلام، وانت عارف ياحج إن عبد الباسط كان عريف فلجيش . وكان دايما بيدّن ويقرا الكورآن في مسجد المعسكر، ومرة كان الشهيد اللوا أركان حرب الجيش العربي الله يرحمو فايت عالمعسكرات، أياميها كانت حرب السبعة وستين المنيلة بستين نيلة يادوب قايمه، قام اللوا أركان حرب الجيش سمع صوت عبد الباسط ، فقام قالّوهم هاتو الراجل صاحب الصوت الحلو ده، قامو الزّوبّاط جابوهولو، فقام واقف وادّالوا سلام تعظيم، وشكرو، وإدّاه وسام، لأْ . وأيييه؟ . عشر ألاف جنيه استرليمي كمان، وموش كده بس، و سرّحو على طول مالخدمة ، و بنفس مرتبو.. ده حتى رائد الفضا أرم سترونج أعوزو بالله من دينو لما طلع القمر، وأول ما حط ّرجلو هناك، سمع أدان، قام قال لجماعتو دنا سامع الصوت ده في الكاهرة ، وسمّاهم اسمه، قال لُهم ده عبد الباسط، و إلا حاجه زي كده .. ).


ولم أكن لا أنا ولا صديقي ناجي وقليل آخرون، ونحن فتية تلاميذ المرحلة الإعدادية المشتركة من زبائن عوضين، بل كنا إقتداء بإخوتنا الأكبر سناً نحلق شعرنا عند حلاقين بعينهم في المدينة، مهما كلفنا ذلك من جهد ونقود، و كنا إذا أردنا أن نسخر من تحليقة أحدهم أو أن نقلل من قدرها ننسبها إلى عوضين .


وأذكر أن الأستاذ بوراوي مدير مدرستنا الإعدادية قام بجولة على الفصول فصلاً فصلاً و وجّه أوامره للطلبة طالباً طالبا، ولبعضهم مباشرة بالاسم بأن يحلقوا رؤوسهم على رقم واحد، وكان ذلك الأمر قد صدر إثر كلمة من كلمات الصباح الطلابية اُنتقد فيها بصراحة بعضُ المدرسين الذين ينصحون التلاميذ بقص شعرهم وأظفارهم في الوقت الذي لا يلتزمون هم بذلك، وأذكر أن الطالب ختم كلمته ببيت الشعر القائل "لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم"، وكم كان ذلك الأمر الذي شملني وناجي مزعجاً مقلقاً لنا في تلك المرحلة من العمر والعصر.
التقيت بناجي في الاستراحة غير المريحة ذلك اليوم، وكنت قد سلمت بالأمر الواقع كتلميذ تكونت حوله صورة نهائية هي الطاعة، لكن ناجي استطاع إقناعي بالذهاب عصرَ ذلك اليوم إلى المدينة، لعمل حلاقة مرتبة ووفق الموضة، وعدنا بعد أن حلّ الظلام وتطلعنا كثيراً في المرايا، وقد أرضتنا كثافة الشعر رغم ما نقص من كمّه، كما أبدت أخواتنا إعجابَهن لا سيما بتحليقة ناجي، وكان أمامنا يوم الجمعة كله لمزيد من استطلاع أراء الزملاء، الذين وإن كنّا لا ندري بما قرر بعضهم إلا أن أغلبهم قد حلق عند عوضين، أي حلاقة على رقم واحد، أو بمعنى آخر حلاقة لن يرضى بما هو فوقها الأستاذ بوراوي، وكان لناجي اقتراحات وخطط احتياطية لاحقة، بأن نغسل شعرنا بصابون لوكس، ونعصب رؤوسنا بمناشف، أو نلبس عليها طاقيات صوف لكي يصبح الشعر ملتصقا، فيبدو غير كثيف، ختمها بقوله( وبعدين يا حيّ!، ومن قال أن الأستاد بوراوي يبي يعيش لا عند يوم السبت).


ولا كان الأستاذ بوراوي من الغائبين يوم السبت، بل كان واقفاً نفس الوقفة وفي نفس النقطة التي ألفنا وقوفه عندها شابكاً يديه وراء ظهره، وهو يراقب طابور الصباح، ويتابع أداء نشيد الله أكبر، و تلاوة القرآن الكريم، ثم كلمات الصباح، لكنه ذلك اليوم لم ينصرف مع بدء تسرب الصفوف، التي تم توجيهها لتمرّ بمحاذاته، وليأخذ في تسديد قبضته إلى عضد كلّ من يرى أن حلاقته فوق رقم واحد، فيخرج من الرتل إلى يد الفراش بومليحة الذي يأخذ بذراعه إلى حجرة الرسم، حيث كرسيّ واحد في وسطها يدفعه عوضين الحلاق ليجلس عليه أحد الطلبة، أو يجرّه وينفض عنه الشعر بعد أن يتحول عنه آخر، قائلاً لهذا الطالب ولذاك :

(نعيماً يا باش مهندس!.

نعيماً يا أوستاز!.

نعيماً يا دوكتُر!.

نعيماً يا كابتن!.

نعيماً يا أفوكاتو! ..)

دون أن يجد وقتاً ليسرد أيّاً من الحكايتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة من موقع R9naldo.com

الجمعة، مارس 26، 2010

بصَـلْ ، رزقاً حصَـلْ




(أسمع يا صالحين !، بكره وينما انقعمزوا عالشاهي انريدك تقول قدّام "الهَبـِيلْ" هذْ ، انّك ريْتَه في المنام إيدقّ في البصل .. فهمت و؟ ، لكن فكني من سَهْوكتَكْ ، قولها و ردّ بالك تضحك ، أو توّ اربح ، وبكره تعال علي ما هَلَك) .


وافترق الشيخ وابنُ أخته الفتى تحت غبار الغروب منهكين متثاقلي الخطوات ، بعد يوم من الحصاد في الزرع الذي اشترياه مناصفة ، الذي اكتشف الشيخ بعد نقلتيْ "سبَلْ" عبوّةَ "فُردينه" إلى سوق الحشيش أن المشروع عبث في عبث ؛ غير مربح اللهم إلا لسائق السيارة ، وقد فهم الفتى أن خاله بقوله "الهبيل" إنما يقصد رمضان بو زينوبة ؛ الكهل الذي طرأ عليه ما طرأ إثر إنفراده بميراث قريبته العجوز ، فاشترى "شنة" ومعطفاً برتقالياً يدليه على كتفيه ، وهو منذ أسابيع يطقطق بـ "التشيكية" دم الغزال ؛ كحصان معافى في الشارع جيئة وذهاباً ؛ من أمام بيت الكهلة كاملة ابنةِ الشيخ مومن صاحب الزرع ، ويراقص حدقتيه وحاجبيه مبتسماً لكل من يلقاه من العابرين ؛ منتشياً بشعوره أنه يعرف أنهم يعرفون لماذا أو لا يعرفون لماذا هو صباح مساء يمرّ من هنا .


وبالكاد غلبت هذه الخاطرة الكاريكاتورية للكهل التي دارت في ذهن الفتى ـ مؤيدة بثقته في حكمة الشيخ ـ إحساسَه بالخيبة من نصف حلم امتلاك نصف الزرع بذهب سنابله وهسهستها وزقزقة العصافير ودفء ودهشة العثور على أعشاشها* بينها وطنين جنادبه وخشخشة الدواب والجذور في ترابه...
في العشيّة التالية وفوق أرضٍ من السنابل المكسّرة ، وتحت سماءٍ من صفير "القنبير" كان ثلاثتهم : الشيخ والفتى والكهل جالسين منتعشين لحضور الشاي بـ "الفريكة" .

غمز الشيخ لابن أخته مع رشفة أولى من الدور الأول من الشاي ، فتململ الفتى وتحنحن
وقال : أيش انقولك يا بوخال ! .

فقال الشيخ : قول لا إله إلا الله ! .

فردّ الفتى : لا إله إلا الله محمدْ رسول الله ، البارح يا خالي ، والكلام ألكم كلّكم ؛ ريت في منام الله العزيز ...

فقاطعه الرجلان : خير انشاللهْ ! .

فواصَلَ : خير ، ما يكون إلا خير ، ريت ارمضان هذْ ((وحينها احمرّتْ أذنا الكهل)) إيدق في بصلْ .

وفوراً صاح الشيخ : بصلْ ؟ ، بصل حويل ؟.

فأثبت الفتى : عليم الله إنه بصل ، وبصل حويل ، وحلو زاد.

فعاد الشيخ لصياحه وهو يرفع كفيه كأنما يدعو و يقلب وجهه في السماء : ما شا الله ! ما شا الله ! ؛ ما شا الله عليك حلاّمه سمحه ، ملاّ روْيَه سمحه هذْ ! ،((ثم وجّه كلامه للفتى)) موش ديمه انقولك يا بناخييّ إن ارمضان بوزينوبه موش مطلوق ؟ .

وأكّد الفتى قول خاله ، في حين تنهّد الكهل رمضان وعدّل جلسته ومسح على المعطف المطوي في حجره .وانطلق الشيخ يؤول الحلم المزعوم : هذا يا سيدي خوك رمضان ناوي علي عولة همّ ، قضْيةْ حاجة ، شرْوةْ بصيرة ، كي ما اتقول قطعة أرض ؛ غلة ، زريع صابه ، حاجة من هالحوايج.

فابتسم الكهل وسوَيقُ سنبلة بين أسنانه ، وبسط كفّه للشيخ وقال : امّالا يا جماعة بعد ما جت من فوق ؛ ونا كنت متحشّم منكم فيها ، أيش رايكم لو نعطيكم التفتوفة اللي دفعتوها للحاج مومن ، وتطلعوا منـّه هالزرع؟.

ولم يلحظ الكهل بريق عيني الفتى ؛ ولا حتى تهلل وجه الشيخ حتى أذنيه حين أجابه : واللهِ يا رموضه ما نقدر انقول لك شي ابروحي ، لا جل ـ ونْت عارف ـ الزرع ما نش فيه اوحدي.

والتفت إلى ابن أخته : أيش قولك يا بو بناخي في هالكلام ؟.

فرد الفتى : والله الزرع مو هاين علي ، لكن الكلام كلامك يا خالي ؛ ما عندي معاك كلام.

فقال الشيخ : انبيعوه؟.

فأجاب الفتى : بييييعه ! .

فمدّ الشيخ يده وخبط كفّه بكف الكهل وقال (( في اللحظة التي ثار فيها الرمادُ من حفرة النار التي شلّت إثر كبِّ الفتى الشايَ عليها)) : انشالله تربح .

السبت، مارس 13، 2010

ونـَا عَـمْ غنـّي







غَنـِّي !

كالبحر أزرق وكبير
والسما ... وبعيد

غـَيرَ أَنْ نَطْـرَبَ
ـ وأنت لمن تطربين ؟ـ


ما بِوِسْعِنـَا فِعْـلُ شـيءٍ
ولَوْ مُجَـرّدَ التّصْفيق

و لا قـَولُ شـَيءٍ صَعـْبٍ
صعوبة البساطة التي بها ُتغَنـّين .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

· من "سلّمْ لي عليه " للسّـ...... أقصد فيروز بلا لقب وبس .

الأربعاء، مارس 10، 2010

الراعية





حيث يقيّل أو يبيت القطيع تقيّل أو تبيت امدلّلة الراعية، فقد صارت مع الأيام فرداً من القطيع، تتبعه طوال النهار، وفي الليل يقوم على حراسته زوجها، الجنّيّ الذي سكنها منذ الطفولة، ثم أخذ يستدرجها يوماً فيوماً إلى الخلاء، بعد أن أعجز الفقهاء والمشعوذين وأطبّاء الأعشاب الشعبيين والكيّ والجَلْد المبرّح عن أن يُخرجوه منها، كان آخرَهم فقيه مغربيّ عابرٌ إلى البيت الحرام أشار عليهم أن يدلقوا عليها دلواً من ماء السماء ساعة جماعها وزوجها الجنّيّ .




ومنذ تلك الوصفة فرّت امدلّلة ولم ترجع إلى القرية قَطّ، وصارت تنظر إليها من بعيد بحذر حيوان برّي، وفي بحر أيّام قليلة أو كثيرة حسب زمن الجنّ، تعلمت لغة زوجها، فأصبحت سميعةً لطقطقة العشب، جذوره وفروعه وأوراقه، بصيرة لزحفه إلى بعضه بعض، أو نحو الطرقات .




غيّر الزمن خارطة القرية تغييراً خفيّاً، ناغمه صدأٌ على اللوحة المعدنيّة اللافتة لاسم القرية وحدودها، وتجعّدٌ في قسمات وجه امدلّلة، التي ظلّتْ في عالمها الثالث، لا مع الذين ماتوا ولا مع الذين وُلدوا، كأنها كائنٌ خرافيّ، ولا مع من حزنوا ولا مع من فرحوا من أهل القرية الإنس، فحتى بعد أن صار القرويون يلمحون في الليل على أضواء سيّاراتهم ـ بل وفي القيلولات ـ الثّعالبَ وقد أنست على حوافّ الطرقات أو عند أكوام القمامة، إلا أن امدللة لم تدْن من أرض القرية التي كأنما اكتفت بآثار أقدامها الصغيرة في صباها، وعبثاً حاولت أسرتها أن تستأنسها فتُحَضّرها عرساً من الأعراس أو مأتماً، إذ كان زوجها الجنيّ العاشق الغيور العنيد، ما أن يفيق مع حلول المغرب حتى يُقبل مسرعاً في موكب من الزعازع الرمادية أو الحمراء حيناً، أو وسط مُواءٍ مرعب حادّ طويل، يعقبه صمت وسكون عميقان يهيمنان حيث هي، ثم يأخذ بيده الخفية يدها، يخترق بها الجدران والأجسام، ويعبر بها نهر سيارات الطريق العام، دون مساس، ولا نامت أعين القرويين جميعاً تحت الأسطح الزنكية المرجومة بأمطار من الحجارة، إذا حجزوها بالقرآن والتعاويذ ليلة أو بعض ليلة .




امدللة اسم تطلقه الأمهات على بناتهن حين يُغضبنهن أو يتشاجرن معهن، ويخوّفن بذكرها ـ مثل غول أو عفريت ـ الصغار المشاغبين، وينعت به المعلمون التلميذات الضعيفات في فصول مدرسة القرية .




ولعلّ كثيرين من العابرين رأوا كثيراً امدللة في الصباح الباكر أو القيلولة، صيفاً أو شتاءً عبر زجاج السيّارات، وهي تدبّ معتمدة على عكاز مثل علامة استفهام طويلة، ينطّ أعلى من قامتها المنحنية، وقد اقترب وجهها من الأرض، ولعلّ بعضهم تساءل سرّاً أو جهراً، تساؤلات وتعليقات، وأحياناً صيحات مناكفة ساخرة، أو تمتمات شفيقة، بعدد وجوه وأصوات وأرواح العابرين والمسافرين،الذين يرمونها لتنطفئ مع أعقاب السجائر على حافة الطريق، دون أن تسبّب حريقاً ولو صغيراً في بال العجوز الراعية المصمت، التي تنظر ولا تنظر وتسمع ولا تسمع وتنفعل ولا تنفعل إزاء ما حولها من غير قطيعها العزيز .




منذ أشهر مضت عُثر على امدلّلة جثّة رماها الوادي، الذي تدفّقت فيه مياه أمطار الخريف المفاجئة، ملقاة جوار سدرة على فراش من الهشيم الجفاء والقواقع، فيما الأرض جنادب تتقافز من الوادي إلى السّهل وضفادع تتقافز من السهل إلى الوادي، كان ينام بجوارها كلبٌ تخلّف عن القطيع .




تناقل القرويون خبر وفاتها في الصباح الباكر مع رشفات الحليب، وكأنه حادثة في قرية أخرى بعيدة، أو كنهاية شخص في رواية، وعلم الأطفال أنها هي التي كانت تترك لهم وراءها ـ في علب الصفيح الصدئ، أو على ظهور الصخور كويمات القمحي*.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة من (ugaidi.com).

القمحي أو الفقـّاع : الفطر.

الجمعة، مارس 05، 2010

هَـوَا السَّـيْـقَـل



نعم ، عند الحدود الشرقية لقريتنا ، في ظل الجبل ، سقط ذات زمن مغرق في القدم نيزك أو بعض نيزك ، فشكـّل حفرة لم تزل هائلة القطر سحيقة العمق ، عصيّ على الشباب المغامرين النزول إليها حيث أعشاش الحمام النيسي المعتصم بجدرانها ، رغم أطنان الأطنان من نفايات تكب فيها من المطار والميناء والقرى الأخرى ، ورغم كميات الأمطار المنحدرة إلى جوفها من الجبال كلَّ شتاء ، إنها حفرة " هوا السَّيـْقــَلْ"* ، التي هي ربما كلمة إيطالية ، (في المرحلة الإعدادية احتفاء بالهوا وباللغة الإنجليزية راق لنا أن نسميها نورس البحرsea gul ) ، ولعلها ليست سوى كلمة ليبية جامدة لمعنى غير معلوم ، وفي كل الأحوال هي كلمة تعني الكثير بالنسبة لنا أولاد القرية خاصة ، فقد ارتبط ذكرها بحكاية نصفها ألم ونصفها الآخر فروسية ، وتلك أيضاً هي حكاية الإنسان والحياة .

ففي ذات يوم من الأيام كان حول هوا السيقـل سيارة بها طفلان "أوليد و بنيّة" جلست أمهما تعد أول وجبات الزرده فيما ابتعد أبوهما يجمع الحطب ، وكانت الأم قد افتقدت الملح ، أما الأب فقد استدرجته أغنية رائحة الزعتر ، قامت الأم وفتحت "شنطة" السيارة وراحت تفتش في بعض الآنية ، وهي تستفز بإغراء في ذات الوقت الولدين للنزول ، ثم صفقت في الختام باب الشنطة فاهتز جسم السيارة ، فطقطقت مفاصلها ، فدبّت مثل السلحفاة في الصيف أولا ، ثم تقافزت كالضفدع في الخريف ثانياً ، ثم مثل الجربوع في الربيع ثالثاً ، ثم كرّت وفرّت وأقبلت وأدبرت معا كالصخور من أعالي الجبال المجاورة في الشتاء رابعاً ، ثم صفرت حديداً في هواء الهوا دهراً من االثواني ، ثم أحدثت دُمّـاً واحدة في قاعه أخيراً ، فبعثت سحابة كثيفة زاعقة من أسراب النيسي والسليو والبورقيص والرماد ، غطت فوهة الهوا الواسعة .

هل بإمكان أي روائي أو مؤرخ أن يصف لكم مدى الفاجعة التي حلت في فؤاديّ الأم والأب معاً تلك اللحظة فتشابها وتطابقا ، حتى اتفقا على العدْو بذعر تجاه القرية التي تبدو منازلها مؤتلفة على بعد بعض الكيلو مترات ، إذ لم يكن هناك طريق معبّد قريب ، ولا أحد سوى صوت راعٍ مختبئ بين صياح الجداء في سفح الجبل المقابل ، بعد ساعة كان هناك حول فوّهة الهوا عدد غير قليل من الناس من القرية ومن نجوع متناثرة وجنود القوة المتحركة ، وكان الجميع في انتظار بطل ينفذ الخطة الوحيدة للوصول إلى قاع الهوا السحيق الكريه الرائحة ، والمسكون بمخلوقات شرسة أقلها خطراً كلاب انحشرت بشكل ما هناك وتكاثرت .

ولم يكن ولن يكون ذلك البطل سوى الشريف ، الشاب الطويل الموشم الذراعين المفتول العضلات ؛ سائق الجيب ريم الوديان ؛ القناص صائد صيد الليل والنهار وغزلان البر والقرية والمدينة ؛ التقـّاز الزمّار لعّاب الحجّالات والكارطة السبّاح النجّار الميكانيكيّ الكهربائي الأسطى بنّاي السّباك الزّلاز الزوّاق الجلاّم فنيّ الساعات و التليفونات والراديوات والتلفزيونات والهوائيات والسخانات ، الذي يعلق الذئاب والضباع على أفرع أشجار الغابة على حافة الطريق ، الذي يجمع العسل من الجبوحة بلا دخان أو مسكرة ، الذي سبح في خزان المجاري واستخرج جثمان حياة الحاج حمدنه ، الذي تسلـّق صومعة المسجد الملساء لتثبيت الهلال النحاسي عام العجاج ، الذي تسلق حتى الحقفة المعلقة لإحضار عشبة القبّار دواء لكلى الأستاذ ميلود ، الذي نزل منحدر طريق مرتفعات الرجمة واقفاً على كرسي دراجته ، الذي رفع مقدمة فردينو بو زايد حتى غير إطارها ، الذي انقذ خزينة السوق العام من الحريق ... الذي كان في موعده قبل أن تغرب شمس ذلك اليوم على الطفلين في قاع الهوا .

لكن كيف وصل الشريف إلى هناك ؟ ، وأين كان قبل ذلك ؟ ، قال لي علي بو محمد ـ وهو نجم آخر من نجوم الحكاية الفكاهية في القرية وبطل أنوية بعض حكايات أخرى ـ :

ـ نا مشيت جبته ؛ بعد العصر في التاونس أمتاعتي من مقر شركة (ميتشل كوتش ) اللي كنا نشتغلوا فيها أمعا بعضنا .

وكيف تمت عملية النزول إلى الهوا ؟ ، يروق للناس حكاية أنه نزل بحبل يتدلى من طائرة هيليو كابتر ، وهي الرواية التي راقت لنا منذ الطفولة ، وما هو تاريخ هذه الحادثة ولو بالتقريب ؟

قال لي جارنا بوجمعة ذات مرة:
ـ في السبعين ، واحد او سبعين ، اثنين او سبعين ، ثلاثة و.....

دعكم من بو جمعة ؛ فالحادثة حسب ما أذكر كانت قد صارت من الماضي في هذا التاريخ ، ولهذا كان على سنوات وسنوات أن تمر ، يصبح الشريف بعدها مستشاراً من أعيان عائلته لا يستريح حتى أيام يستريح الناس ، لتتاح لي فرصة ظننتها مناسِبة لأن أسأله شخصياً :

ـ قلتلك يا سي الشريف! فيّنْ سنة كانت تطليعتك للعويلة اللي طاحوا في هوا السيجل؟

ـ وين يا ابناخييّ ؟ مدة طايلة ، والعقل دامر.

ـ في السبعين واحد أو سبعين ؟

ـ لا لا لا قبلها ابواجد ، في الستينات.

ـ في أولهن؟ ، آخرهن ؟.

ـ ما قلتلك الذاكرة بلهون ... ريت ! أرجى أرجى ، نلقاني كنت كيف بادي نشتغل في شركة ميتشل كوتش ، يا آخر الثلاثة وستين يا أوايل لربعة وستين ، إيوا .

ـ ربيع؟ .

ـ .............. شاهي يا ليد ، وشوف من اللي ايرن في الجرس .

ـ معلش أيش قلت ؟.

ـ قلتلك كان الوقت ربيع لاينه العيلة جاية زردة طبعاً ؟.

ـ والله ما نقدر اِن... كان جو عادي يعني لو مطر لو عجاج لو..

ـ نزلت في بتيّه مربوطة في طيار بو فرارة ؟.

ـ لا ، نزلت ابحبل ، حبل عادي بس غليظ متين من بكرة اندروفل ، نزلت عناد في ضابط متحركة تما ايلزز فالناس او نَتّ فيّ وينما جبّيْت عالهوا وقاللي كنك يا شاب؟ ، قلت له نبي ننزل ، شوي اضحك وقالي تبي تنزل؟ ، امالا تحسابها سيزة.

طبعاً هو كان عارفني اوهو اللي راسل وراي بيش ننزل ، أو ما صدق حقني ، غير أيش من قال قدام الناس الشـّبـّوب اطوّع بروحه ، لاينهم هم لو كانهم قادرين ولاّ يبو ايطلعوا لعويله راهم كانوا الهم نهار امطلعينهم ، موش قاعدين اينقوا في القعمول ...

ـ قعمول معناها وقت ربيع؟.

ـ إي وا صحيح ربيع ، أول ربيع ؛ لاينه القعمول اصغار، دوبه طالع مالخرشوف..... أوينما يا سيدي ربطت الحبل علي روحي او هو ايقوللي لي أتحمّل مسؤولية نفسك يا ولد ؟ ، درت روحي ما اسمعتش اولا هو ايريد يسمعني ، ودّلْولتْ فالهوا ، وثاريته مايل مالجيهة الشرقية وخاش لا جوّا نين يبقى كاينه سقف فوق منك ، ولونه أربد كي العوين ، وتما الحبل ايحك فالحواشي ويطيّح علي راسي فالحيط والتراب ، حصلت كم فجخة فالنزلة او فالطلعة ، لكن فالطلعة أكثر واصعب ، لايني كنت انعطي فالحيط بظهري بيش ما ايطبش فالعويلة ، ... طبعا غير لبنية اللي كانت اتنفس ، انكلا لوليد القيته متوفي مسّاعة .

ـ باهي لعويلة كم عمارهم ؟ .

ـ اصغيرين ، ثمانية ؛ تسعة.

ـ هلهم مالبلاد طبعاً ؟.

ـ آ مالبلاد.

ـ والمن هم ؟ .
................................... ـ آلو! من ؟ ، آ ياحاج ، مرحبه ، الله يسلمك ، أي نعم ، ... أمتي ؟ ، أممممم ، خلاص ، اتمروا علي تلقوني قاعد ... لا ، واتي واتي ، بالسلامة ... والله قصة حتى قصة هالسهريات ، ماعليش يا بوبناخي ، تي وين الشاهي ياولد ؟.

ـ ما قلت لش ألمن هم يا سي الشريف؟.

ـ عيت بوشوالين عندهم عزوز متوفية الليلة ثالث ليلة ...

ونهض مستأذناً ، ودعا أحد الأولاد للبقاء معي ، دون أن أعرف من هم أهل لبنيّه و لوليد ، وهل تم التعارف بينهم وبين الشريف ، وهل تم مثلاً تكريم الشريف من قبل المسئولين في القرية ، وإجابات أخرى كان يمكن أن أختم بها هذه الحكاية ، ولكن بعض الحكايات تنتهي بأسئلة .

الثلاثاء، مارس 02، 2010

مبعوث الحيوانات


انتباه : صيد الليل عرضة للإنقراض بسبب الصيد الجائر ليلاً ونهاراً.



تقول حكاية شعبية ليبية ضاع نصّها هي الأخرى في لهجته الأصلية(1)، أن الحيوانات كلها بمن فيها بعض ما صار منها أليفاً بعْدُ، والمتوحشة بالطبع، عقدت اجتماعاً كبيراً لم تسعه الغابة، ناقشت فيه وضعها المتأزم مع أخيها الإنسان، وبحثت فيه عن حل، وتوصلت في نهاية الاجتماع إلى رأي هو أن تبعث إلى بني آدم ممثلاً عنها للتباحث معه، إذ لا يمكن أن يظل الحال على ماهو عليه من طراد وذبح وسلخ والتهام وحبس وسخرة، والخ من مظاهر الاضطهاد والتفرقة.


ولم يكن أمر اختيار مبعوث بأسهل من النجاح في الاجتماع فضلاً عن التطوع الحر، ولكن القرعة التي تم اللجوء إليها أسفرت عن إرسال (الشيهم): الذي لم يكن حتى ذلك الوقت كائناً ليلياً؛ فيسمى بـ (صيد الليل).


الجدّة: (مو صيد الليل أصلاً كان ابنادم، أنت مانكشي رايّ كرعيه ؟ كيف اكريعات لعويّل، وحتى حسّه كي حس لعويّل).


انطلق صيد الليل مع العشية، وعلى أنّ كلَّ الحيوانات تقريباً كانت في هدنة تقريباً أيضاً مع بعضها البعض، ورائحةَ الحصانة الدبلوماسية تفوح من بين أشواكه، إلا أنه ـ ولكي يتسنى له المزيد من التخفي فوق العادة ـ مشى بخطوات محسوبة مقدراً الوصول إلى ربوع الإنسان مع حلول الغروب.


وصل صيد الليل ولم تنبحه سوى بعض جراءٍ خلفتها الكلاب التي التحقت بالاجتماع، وقابله ابن آدم بحفاوة العادة، حيث الترحيب والترحيب وإعادة الترحيب، وأعدّ له التكية، ففرش له البسط وأحاطه بالوسائد وقدم له الماء، وكلف خادمه بأن يعجل بإشعال النار لإعداد الشاي الأحمر والأخضر، ونادى على ولد من أولاده وهمس له في أذنه وصرفه وهو يصفق وراءه، وألقى نظرة من وراء الحجاب وتنحنح مرة واحدة، ثم عاد وقعد غير قريب وغير بعيد من ضيفه، كل ذلك وهو يرحب ويرحب ويرحب بلا توقف وبلا مبالاة بردود الضيف، و بنفس الكلمات تقريباً وكأنه لا يعرف سواها.


الجدّة: (لااااااا، يعرف غيرها واجد مالكلام، وقادر ينشده أنت ألمن بلا مصغره؟ و منين جاي؟ من شرقه؟ والا من غربه؟ ولاّ وين تريد؟ ويش حال وطنكم؟ ويش ريت في طريقك؟ غير هذي موش من عادة العرب لكرام، قبل ثلاث أيام من يوم جيّة الضيف ما ينشدوه كيف سيرته، مفيت المرحبة والضيافة).


تقول الحكاية أن أول ما قُدّم للضيف من طعام كان المثرودة واللبن، وأن صيد الليل أقبل على الأكلة بنهم وتلذذ كبيرين، أبهجا مضيفه فدعاه إلى أن يزيد، ولكن صيد الليل حمد الله، وشكر المضيف، وأعرب عن شبعه، وحين اطمأن المضيف إلى ذلك نادى على ولده ليقف على غسل يدي الضيف، عاد صيد الليل فحمد الله على نعمته وسأله سبحانه أن يديمها، ثم عبر لمضيفه عن امتنانه لحسن كرم ضيافته، وأسفه على ما كلفه إياه، وكان سؤال يلح عليه فيغالب طرحه على مضيفه، إلى أن حانت لحظة تقديم الشاي:


المضيف: هي تفضل أشرب.


صيد الليل: الله يزيد فضلك، (نحنحة، ثم صوت رشف الشاي)، يا مرحبه!.


المضيف: رحبْ بّك، ياميّة مرحبه بَكْ.


صيد الليل: (يتنحنح) يا وجوه لكرام نريد نسألك علي بصيرة،متحشم فالنشده عليها، سامحني!.


المضيف: أييّيّه، ياك الا متحشم ! انشد على حاجتك اللي في بالك، وحاجتك مقضية انشا الله.


صيد الليل: ما قصرت، ولا فيه حاجة بعيدة، امغير نريد نسألك عالمية الصفره الطيبة اللي امرقرقه عالطعام الطيب اللي قدمتوه لي.


المضيف: اوماعرفتـّا شي أنت؟.


صيد الليل: لا ما عرفتـّا، اموهّم عليها توهيم لكن ماني شي متيكّد.


المضيف: هذا سمن ياسي.


صيد الليل:ـ سمن؟ طيّب العطيب، ومنين اتجيبوا فيه السمن؟.


المضيف:ـ السمن من النعجة.


صيد الليل:ـ من النعجة؟.


المضيف: آ من النعجة، وموش غير هو من النعجة.


صيد الليل: وحتى اللي قلت لي شاهي؟.


المضيف: لا ... ريت! النعجة بركتـّا واجده، كل ما ايجيك في هالبيت من طعام والا شراب والا غيره، يا من النعجة، يا للنعجة فيه سهم،تو أنت سألتني عالشاهي، الشاهي موش كي السمن والا غيره من النعجة بيدها، لكن ما انجيبوه نين انبيعو حاجة مالنعجة يا حليبها يا صوفـّا يا غيره، أنت أيش رايك في هالنطع اللي تحتك ؟.


صيد الليل: والله حتى هو كنت نريد نسألك عليه ملوّلْ، لايني صارت لي تشويبه ساعة اللي قعمزت عليه، وراني مانش رايها النعجة، نسمع بها سمع، انظني هي اللي تقول ماااااااء مااااااء؟.


المضيف: آي وهْ.


صيد الليل: وصار حتى هو قلت لي أيش اسمه ؟.


المضيف: النطع! النطع!.


صيد الليل: النطاااااع. باهي وهالبصاير هذين شنن؟.


المضيف: امخاد.


صيد الليل: اووو؟!؟!.


المضيف: .. وحتى هن وحشوهن مالنعجة.


صيد الليل: ريت باللهِ يا وجوه لكرام ! عليم الله انها مباركة النعجة كيما قلت، وتستاهل كل خير.


المضيف: قلت لك ما اتعب روحك لا انتعبك في كثرة نشده ، كل ماهو قدامك اوراك وتحت عينك مالنعجة ، هالبيت اللي تانسنا فيه في هالساعة المباركة؛ هو كله حيله مالنعجة، طعااامنا منها، دبشنا هاللي علينا منها، أوقات حتى ابلغنا منها، والدوا والسماد والحبر.


صيد الليل: الحبر؟.


المضيف: أنت ثاريتك ما تعرفش الحبر، الحبر ياسيدي هو الـ...، ألـ...، ألـ...ووجد ابن آدم صعوبة شاقة في شرح مفهوم الحبر لضيفه، فضلاً عن كيفية صناعته من الصوف ، و استعماله في الكتابة ، وما أدرى صيد الليل مالكتابة؟ ولكن صيد الليل فهم المراد فهماً ما ، على نحو يصعب في نفس الوقت على ابن آدم فهمه.


الجدّة: (مي هذي دوّة الخراريف عَيْد، الخراريف هذا لونهن. وهذي لغوتن، ما يستحقن شي ترجمة بين لنسان والحِـوان).


ومضى صيد الليل ومضيفه الإنسان في الدردشة؛ ممعنين في التوغل في الأنس مستعينين بهذه اللعبة من السؤال والجواب؛ إلى حين موعد العشاء، الذي كان لاشك كسكسو باللحم طبعاً، والذي اتبع بالشاي ؛ الأمر الذي أثار دورانُ أكوابه كوباً إثر كوب عجباً لدى صيد الليل لم يبده ، لكنه لم يكن أقوى وقعاً عليه من عجبه من عودة المضيف فيما هو ينبش ما بين أسنانه بعود ليقول : يا ربي مرحبه! كيف حالك ؟ آنست، كيف الحال، أيش لونك، كيف أنك، مرحبه ؟.


الشاي الذي لم يألفه صيد الليل، على الوليمة الدسمة، على الأجواء غير المألوفة، على قلق المهمة التي جاء من أجلها إلى ربوع بني آدم، كلها كانت عوامل ثانوية في الأرق الذي ألم به ، فتقلّب طويلاً في الفراش وتحت الغطاء ، لكن العامل الأكثر تسبباً في الحالة هو سماعه لصياح حيواني لم يكف منذ انبعاثه من أول ساعة لجلوسه في البيت.


المضيف: كنك تقول مانك شي متريّح ؟ بالك راك صقعت؟ انزيدوك غطا ؟ والا فراشك موش ريّح ؟.


صيد الليل: لا كثر خيرك ، فراش ريّح، وصقع مافيه صقع.


المضيف: لا والله مانك متريح ، انظر أيش في عقلك غير متحشّم ، قوووووووووول ياراجل لا ادّير شي غيبة؛ بالك اتريد الخلا ؟.


صيد الليل: لا.


المضيف: كانك اتريد تنشد على هالغطا ؟ راه حتى هو مالنعجة.


صيد الليل: لا قلت لي عليه من بدري.


المضيف: شوف ! إن كان موش جايك نوم ومازال في عقلك هدرزة، راني حتى نا موش هذا وقت تغفايتي، والا راه هالنعجة اللي اتصيّح ما خلاتك شي ترقد ؟.


صيد الليل: بعد قلتـّا، هي كنها النعجة من حاشن اغرب المغرب وهي اتصيّح في هالتصييحة الموحشة ؟ بالك راها جيعانة؟.


المضيف: لا ما بها جوع ، إلا اتصيح على حوليها ؟.


صيد الليل: او حوليها كنـّه ؟.


المضيف: اتريد اتحشمنا عيد، بيش انقولولك رانا درنالك ذبيحة ؟.


صيد الليل: كيف صار؟.


المضيف: حوليها هو ذبيحتك.


صيد الليل: لا ! لا تقولهش.


المضيف: أييّيهْ، هالحاجة الكبيرة اللي درناها لك ، ذبحنا لك امغير حولي.


تقول الخرافة الليبية أن صيد الليل انسل من الفراش بعد أن تعالى شخير مضيفه، وتسلل فارّاً إلى حيث تنتظره الحيوانات، وحين هبّوا إليه ليسألوه بمَ جاءهم، قال لهم :


ـ ما ني قايل لكم شي، ولا نص كلمة، نين تحفروا لي حفرة غريييييقة في هالجبل.


وحين أتمت الحيوانات عملها سألته فأجاب :


ـ ريتوا، انكلا بني آدم اللي ريته نا، بني آدم اللي وكاله. وشربه. وكسوته. وفراشه. وغطاه. وبيعه. وشراه. مالنعجة، وما يلقى بيش ايكافيها الا ابذبحة جنينها. بني آدم اللي هذا وصفه. لا اتصالحوه. ولا ايصالحكم.ولا اتجيبكم طريقاً اتجيبه. اقسموا يوم ربي بينكم وبينه، عطوه النهار وخذوا الليل، وبو حافر يحفر، وبو جناح ايطير(2)، وهي السلام عليكم علي راي لبنادم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* خرافة ليبية بتصرف كثير. إحدى حلقات برنامج صندوق القرية. إخراج محمد بالقاسم. تقديم سالم الفيتوري.(1). كما كانت تروى بألسنة الجدات والأمهات. (2). مثل شعبي ليبي .

المشاركات الشائعة