الأحد، مارس 28، 2010

عوضين الحسّـان


عوضين كهل من أم الدنيا امتهن الحلاقة في قريتنا منتصف السبعينيات، كأول حلاق بعد الحلاق التقليدي الشرطي بشير الذي يشحذ موس الحلاقة على قطعة جلدية ويحلق بمقص كبير بحجم "الجلم" والمشط للتخفيف وبالّلاميته للحلاقة صفر، بالإضافة إلى ممارسته الحجامة والختان، بل حلاق يقترب من العصرية حيث توافر محلّه على كرسي الحلاقة الدوّار والمرآة والماكينة الكهربائية والاستشوار والمسجل وسواها.


كان لعوضين وجه وجاكيتة مدرس تاريخ ، وحكايتان يصنع لهما أجنحة وهو يقص شعر الجالسين على الكرسي الدوّار، حكاية للشباب، وحكاية للشيوخ، أو من يحملون أرواح الشيوخ من شباب قريتنا، الحكاية الأولى للشعر الطويل الخنافس، تبدأ عند تشغيله لشريط "ما أقدرش أنساك" لعبد الوهاب تقول الحكاية : ( مرة عبد الوهاب كان عاوز يحرج فريد الأترش، قام دخل عليه وسط الشله بتاعتو في غرفتو في فندق الشيراتون، إللي كان مقر فريد الدائم لما ينزل مصر، ومحل ما كنت اشتغل حلاق قبل ما سافر الخليج إللى بعديها جيت هنا هوّنْ، لليبيا، المهم دخل الأوستاز موسيكار الأجيال عبد الوهاب وقال بالعود موش بشفايفو: السلام ُ عليكو يا جماعه، واخد بال حضرة جناب سيادتك يا فندم ؟، قالها بالعود. يعني بالمزيكا. موش بشفايفو، قال إيه ؟ عايز يحرج فريد، هو صحيح لكلٍ مقام، بس ما تنساش ياعب وهاب يا أوستاز يا فرعوني ياعبقري يا عظيم إن فريد تلميذ العملاق الكبير الأسطورة رياد السومباطي ، وعشان كده قام فريد ولا على بالو و خد عوده، ما هو راخر موسيقار برضك، ومافيش حد أحسن متاني، وقالّو. بالعود برضك موش بشفايفو . وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، إه إه إه إه إه إه، يا خرااااشي على أهل الفن، وعمايل أهل الفن ... ) ، وحكاية عوضين هذه لا تحط هكذا و هنا تماماً، بل قبل دخول التحليقة مرحلة بعيدة عن الصفر.


أما الحكاية الثانية وهي للشيوخ كما قلنا، فتبدأ مع ابتلاع المسجل لشريط قصار السور لعبد الباسط عبد الصمد ( .. ده عبد الباسط كان من حارتنا، وكان صاحب أبويا الرّوح بالرّوح، وكانوا قبلنْ زملا في الأزهر الشريف، دا حتى إف وفاة أبويا ـ الله يرحمك يا با ـ قام قعد يحيي اف ليالي المأتم بدون فلوس، أصل أبويا الله يرحمو ويحسن إليه كان ولا مواخزة مدمن عبدالباسط عبد الصمد، ينام ويصحى على سورة سيدنا يوسف على نبينا محمد وعليه السلام، وانت عارف ياحج إن عبد الباسط كان عريف فلجيش . وكان دايما بيدّن ويقرا الكورآن في مسجد المعسكر، ومرة كان الشهيد اللوا أركان حرب الجيش العربي الله يرحمو فايت عالمعسكرات، أياميها كانت حرب السبعة وستين المنيلة بستين نيلة يادوب قايمه، قام اللوا أركان حرب الجيش سمع صوت عبد الباسط ، فقام قالّوهم هاتو الراجل صاحب الصوت الحلو ده، قامو الزّوبّاط جابوهولو، فقام واقف وادّالوا سلام تعظيم، وشكرو، وإدّاه وسام، لأْ . وأيييه؟ . عشر ألاف جنيه استرليمي كمان، وموش كده بس، و سرّحو على طول مالخدمة ، و بنفس مرتبو.. ده حتى رائد الفضا أرم سترونج أعوزو بالله من دينو لما طلع القمر، وأول ما حط ّرجلو هناك، سمع أدان، قام قال لجماعتو دنا سامع الصوت ده في الكاهرة ، وسمّاهم اسمه، قال لُهم ده عبد الباسط، و إلا حاجه زي كده .. ).


ولم أكن لا أنا ولا صديقي ناجي وقليل آخرون، ونحن فتية تلاميذ المرحلة الإعدادية المشتركة من زبائن عوضين، بل كنا إقتداء بإخوتنا الأكبر سناً نحلق شعرنا عند حلاقين بعينهم في المدينة، مهما كلفنا ذلك من جهد ونقود، و كنا إذا أردنا أن نسخر من تحليقة أحدهم أو أن نقلل من قدرها ننسبها إلى عوضين .


وأذكر أن الأستاذ بوراوي مدير مدرستنا الإعدادية قام بجولة على الفصول فصلاً فصلاً و وجّه أوامره للطلبة طالباً طالبا، ولبعضهم مباشرة بالاسم بأن يحلقوا رؤوسهم على رقم واحد، وكان ذلك الأمر قد صدر إثر كلمة من كلمات الصباح الطلابية اُنتقد فيها بصراحة بعضُ المدرسين الذين ينصحون التلاميذ بقص شعرهم وأظفارهم في الوقت الذي لا يلتزمون هم بذلك، وأذكر أن الطالب ختم كلمته ببيت الشعر القائل "لا تنه عن خلق وتأتي مثله * عار عليك إذا فعلت عظيم"، وكم كان ذلك الأمر الذي شملني وناجي مزعجاً مقلقاً لنا في تلك المرحلة من العمر والعصر.
التقيت بناجي في الاستراحة غير المريحة ذلك اليوم، وكنت قد سلمت بالأمر الواقع كتلميذ تكونت حوله صورة نهائية هي الطاعة، لكن ناجي استطاع إقناعي بالذهاب عصرَ ذلك اليوم إلى المدينة، لعمل حلاقة مرتبة ووفق الموضة، وعدنا بعد أن حلّ الظلام وتطلعنا كثيراً في المرايا، وقد أرضتنا كثافة الشعر رغم ما نقص من كمّه، كما أبدت أخواتنا إعجابَهن لا سيما بتحليقة ناجي، وكان أمامنا يوم الجمعة كله لمزيد من استطلاع أراء الزملاء، الذين وإن كنّا لا ندري بما قرر بعضهم إلا أن أغلبهم قد حلق عند عوضين، أي حلاقة على رقم واحد، أو بمعنى آخر حلاقة لن يرضى بما هو فوقها الأستاذ بوراوي، وكان لناجي اقتراحات وخطط احتياطية لاحقة، بأن نغسل شعرنا بصابون لوكس، ونعصب رؤوسنا بمناشف، أو نلبس عليها طاقيات صوف لكي يصبح الشعر ملتصقا، فيبدو غير كثيف، ختمها بقوله( وبعدين يا حيّ!، ومن قال أن الأستاد بوراوي يبي يعيش لا عند يوم السبت).


ولا كان الأستاذ بوراوي من الغائبين يوم السبت، بل كان واقفاً نفس الوقفة وفي نفس النقطة التي ألفنا وقوفه عندها شابكاً يديه وراء ظهره، وهو يراقب طابور الصباح، ويتابع أداء نشيد الله أكبر، و تلاوة القرآن الكريم، ثم كلمات الصباح، لكنه ذلك اليوم لم ينصرف مع بدء تسرب الصفوف، التي تم توجيهها لتمرّ بمحاذاته، وليأخذ في تسديد قبضته إلى عضد كلّ من يرى أن حلاقته فوق رقم واحد، فيخرج من الرتل إلى يد الفراش بومليحة الذي يأخذ بذراعه إلى حجرة الرسم، حيث كرسيّ واحد في وسطها يدفعه عوضين الحلاق ليجلس عليه أحد الطلبة، أو يجرّه وينفض عنه الشعر بعد أن يتحول عنه آخر، قائلاً لهذا الطالب ولذاك :

(نعيماً يا باش مهندس!.

نعيماً يا أوستاز!.

نعيماً يا دوكتُر!.

نعيماً يا كابتن!.

نعيماً يا أفوكاتو! ..)

دون أن يجد وقتاً ليسرد أيّاً من الحكايتين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة من موقع R9naldo.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة