الجمعة، مارس 05، 2010

هَـوَا السَّـيْـقَـل



نعم ، عند الحدود الشرقية لقريتنا ، في ظل الجبل ، سقط ذات زمن مغرق في القدم نيزك أو بعض نيزك ، فشكـّل حفرة لم تزل هائلة القطر سحيقة العمق ، عصيّ على الشباب المغامرين النزول إليها حيث أعشاش الحمام النيسي المعتصم بجدرانها ، رغم أطنان الأطنان من نفايات تكب فيها من المطار والميناء والقرى الأخرى ، ورغم كميات الأمطار المنحدرة إلى جوفها من الجبال كلَّ شتاء ، إنها حفرة " هوا السَّيـْقــَلْ"* ، التي هي ربما كلمة إيطالية ، (في المرحلة الإعدادية احتفاء بالهوا وباللغة الإنجليزية راق لنا أن نسميها نورس البحرsea gul ) ، ولعلها ليست سوى كلمة ليبية جامدة لمعنى غير معلوم ، وفي كل الأحوال هي كلمة تعني الكثير بالنسبة لنا أولاد القرية خاصة ، فقد ارتبط ذكرها بحكاية نصفها ألم ونصفها الآخر فروسية ، وتلك أيضاً هي حكاية الإنسان والحياة .

ففي ذات يوم من الأيام كان حول هوا السيقـل سيارة بها طفلان "أوليد و بنيّة" جلست أمهما تعد أول وجبات الزرده فيما ابتعد أبوهما يجمع الحطب ، وكانت الأم قد افتقدت الملح ، أما الأب فقد استدرجته أغنية رائحة الزعتر ، قامت الأم وفتحت "شنطة" السيارة وراحت تفتش في بعض الآنية ، وهي تستفز بإغراء في ذات الوقت الولدين للنزول ، ثم صفقت في الختام باب الشنطة فاهتز جسم السيارة ، فطقطقت مفاصلها ، فدبّت مثل السلحفاة في الصيف أولا ، ثم تقافزت كالضفدع في الخريف ثانياً ، ثم مثل الجربوع في الربيع ثالثاً ، ثم كرّت وفرّت وأقبلت وأدبرت معا كالصخور من أعالي الجبال المجاورة في الشتاء رابعاً ، ثم صفرت حديداً في هواء الهوا دهراً من االثواني ، ثم أحدثت دُمّـاً واحدة في قاعه أخيراً ، فبعثت سحابة كثيفة زاعقة من أسراب النيسي والسليو والبورقيص والرماد ، غطت فوهة الهوا الواسعة .

هل بإمكان أي روائي أو مؤرخ أن يصف لكم مدى الفاجعة التي حلت في فؤاديّ الأم والأب معاً تلك اللحظة فتشابها وتطابقا ، حتى اتفقا على العدْو بذعر تجاه القرية التي تبدو منازلها مؤتلفة على بعد بعض الكيلو مترات ، إذ لم يكن هناك طريق معبّد قريب ، ولا أحد سوى صوت راعٍ مختبئ بين صياح الجداء في سفح الجبل المقابل ، بعد ساعة كان هناك حول فوّهة الهوا عدد غير قليل من الناس من القرية ومن نجوع متناثرة وجنود القوة المتحركة ، وكان الجميع في انتظار بطل ينفذ الخطة الوحيدة للوصول إلى قاع الهوا السحيق الكريه الرائحة ، والمسكون بمخلوقات شرسة أقلها خطراً كلاب انحشرت بشكل ما هناك وتكاثرت .

ولم يكن ولن يكون ذلك البطل سوى الشريف ، الشاب الطويل الموشم الذراعين المفتول العضلات ؛ سائق الجيب ريم الوديان ؛ القناص صائد صيد الليل والنهار وغزلان البر والقرية والمدينة ؛ التقـّاز الزمّار لعّاب الحجّالات والكارطة السبّاح النجّار الميكانيكيّ الكهربائي الأسطى بنّاي السّباك الزّلاز الزوّاق الجلاّم فنيّ الساعات و التليفونات والراديوات والتلفزيونات والهوائيات والسخانات ، الذي يعلق الذئاب والضباع على أفرع أشجار الغابة على حافة الطريق ، الذي يجمع العسل من الجبوحة بلا دخان أو مسكرة ، الذي سبح في خزان المجاري واستخرج جثمان حياة الحاج حمدنه ، الذي تسلـّق صومعة المسجد الملساء لتثبيت الهلال النحاسي عام العجاج ، الذي تسلق حتى الحقفة المعلقة لإحضار عشبة القبّار دواء لكلى الأستاذ ميلود ، الذي نزل منحدر طريق مرتفعات الرجمة واقفاً على كرسي دراجته ، الذي رفع مقدمة فردينو بو زايد حتى غير إطارها ، الذي انقذ خزينة السوق العام من الحريق ... الذي كان في موعده قبل أن تغرب شمس ذلك اليوم على الطفلين في قاع الهوا .

لكن كيف وصل الشريف إلى هناك ؟ ، وأين كان قبل ذلك ؟ ، قال لي علي بو محمد ـ وهو نجم آخر من نجوم الحكاية الفكاهية في القرية وبطل أنوية بعض حكايات أخرى ـ :

ـ نا مشيت جبته ؛ بعد العصر في التاونس أمتاعتي من مقر شركة (ميتشل كوتش ) اللي كنا نشتغلوا فيها أمعا بعضنا .

وكيف تمت عملية النزول إلى الهوا ؟ ، يروق للناس حكاية أنه نزل بحبل يتدلى من طائرة هيليو كابتر ، وهي الرواية التي راقت لنا منذ الطفولة ، وما هو تاريخ هذه الحادثة ولو بالتقريب ؟

قال لي جارنا بوجمعة ذات مرة:
ـ في السبعين ، واحد او سبعين ، اثنين او سبعين ، ثلاثة و.....

دعكم من بو جمعة ؛ فالحادثة حسب ما أذكر كانت قد صارت من الماضي في هذا التاريخ ، ولهذا كان على سنوات وسنوات أن تمر ، يصبح الشريف بعدها مستشاراً من أعيان عائلته لا يستريح حتى أيام يستريح الناس ، لتتاح لي فرصة ظننتها مناسِبة لأن أسأله شخصياً :

ـ قلتلك يا سي الشريف! فيّنْ سنة كانت تطليعتك للعويلة اللي طاحوا في هوا السيجل؟

ـ وين يا ابناخييّ ؟ مدة طايلة ، والعقل دامر.

ـ في السبعين واحد أو سبعين ؟

ـ لا لا لا قبلها ابواجد ، في الستينات.

ـ في أولهن؟ ، آخرهن ؟.

ـ ما قلتلك الذاكرة بلهون ... ريت ! أرجى أرجى ، نلقاني كنت كيف بادي نشتغل في شركة ميتشل كوتش ، يا آخر الثلاثة وستين يا أوايل لربعة وستين ، إيوا .

ـ ربيع؟ .

ـ .............. شاهي يا ليد ، وشوف من اللي ايرن في الجرس .

ـ معلش أيش قلت ؟.

ـ قلتلك كان الوقت ربيع لاينه العيلة جاية زردة طبعاً ؟.

ـ والله ما نقدر اِن... كان جو عادي يعني لو مطر لو عجاج لو..

ـ نزلت في بتيّه مربوطة في طيار بو فرارة ؟.

ـ لا ، نزلت ابحبل ، حبل عادي بس غليظ متين من بكرة اندروفل ، نزلت عناد في ضابط متحركة تما ايلزز فالناس او نَتّ فيّ وينما جبّيْت عالهوا وقاللي كنك يا شاب؟ ، قلت له نبي ننزل ، شوي اضحك وقالي تبي تنزل؟ ، امالا تحسابها سيزة.

طبعاً هو كان عارفني اوهو اللي راسل وراي بيش ننزل ، أو ما صدق حقني ، غير أيش من قال قدام الناس الشـّبـّوب اطوّع بروحه ، لاينهم هم لو كانهم قادرين ولاّ يبو ايطلعوا لعويله راهم كانوا الهم نهار امطلعينهم ، موش قاعدين اينقوا في القعمول ...

ـ قعمول معناها وقت ربيع؟.

ـ إي وا صحيح ربيع ، أول ربيع ؛ لاينه القعمول اصغار، دوبه طالع مالخرشوف..... أوينما يا سيدي ربطت الحبل علي روحي او هو ايقوللي لي أتحمّل مسؤولية نفسك يا ولد ؟ ، درت روحي ما اسمعتش اولا هو ايريد يسمعني ، ودّلْولتْ فالهوا ، وثاريته مايل مالجيهة الشرقية وخاش لا جوّا نين يبقى كاينه سقف فوق منك ، ولونه أربد كي العوين ، وتما الحبل ايحك فالحواشي ويطيّح علي راسي فالحيط والتراب ، حصلت كم فجخة فالنزلة او فالطلعة ، لكن فالطلعة أكثر واصعب ، لايني كنت انعطي فالحيط بظهري بيش ما ايطبش فالعويلة ، ... طبعا غير لبنية اللي كانت اتنفس ، انكلا لوليد القيته متوفي مسّاعة .

ـ باهي لعويلة كم عمارهم ؟ .

ـ اصغيرين ، ثمانية ؛ تسعة.

ـ هلهم مالبلاد طبعاً ؟.

ـ آ مالبلاد.

ـ والمن هم ؟ .
................................... ـ آلو! من ؟ ، آ ياحاج ، مرحبه ، الله يسلمك ، أي نعم ، ... أمتي ؟ ، أممممم ، خلاص ، اتمروا علي تلقوني قاعد ... لا ، واتي واتي ، بالسلامة ... والله قصة حتى قصة هالسهريات ، ماعليش يا بوبناخي ، تي وين الشاهي ياولد ؟.

ـ ما قلت لش ألمن هم يا سي الشريف؟.

ـ عيت بوشوالين عندهم عزوز متوفية الليلة ثالث ليلة ...

ونهض مستأذناً ، ودعا أحد الأولاد للبقاء معي ، دون أن أعرف من هم أهل لبنيّه و لوليد ، وهل تم التعارف بينهم وبين الشريف ، وهل تم مثلاً تكريم الشريف من قبل المسئولين في القرية ، وإجابات أخرى كان يمكن أن أختم بها هذه الحكاية ، ولكن بعض الحكايات تنتهي بأسئلة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة