الأربعاء، مارس 31، 2010

يومُ يوم ِ القيامة




في ربعِ السّاعةِ الأخير من الحصّةِ الأخيرة، وكلُّ فصولِ المدرسةِ قد خلت ، قال لنا الأستاذ خميس:


ـ أو توّا سكّروا كتاباتكم وانتبهوا لي كويّسْ، لاينّه فيه ميضوع خطير نبّي نحكي لكم عليه، واللي يقدر منكم يخش ويشارك في ها لميضوع يفكّه الله من عذاب النّار ويكتب له الجنّة.


وحتى تلك اللحظة فكّرتُ أنّ أستاذنا خميس يريد منّا مرة أخرى، أنْ نحش الحشائش للحمير المحبوسة في (الحاصل)، العمل الذي لقي على إثره استحسان وثناء القرويين، لكنّه في تلك المرّة عرض علينا موضوعاً مختلفاً، لازلتُ أذكره به ، كلّما استعدتُ وأصدقائي ذكرياتِ الدراسة الابتدائيّة.

قال الأستاذ خميس:

ـ فيه راجل مشى ليَّام اللي فاتن للحج ، وهو يطوف بالبيت كلّمه غفير الكعبة المشرّفة وقال له يا ابني نبّي نوصّيك ونعلق في رقبتك أمانة عظيمة، اسمعني يا ابني، البارح ريت في منام الله العزيز رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال لّي بلّغ لسلام أنّ يوم القيامة قريّب؛ ما بينّا وبينه شي؛ ويا ويل اللي ما يتوب ألربّه، يا ابني اكتب ها الكلام اللي قلت لك عليه سبع مرّات؛ و وزّعه على سبعة من أقاربك، وقول لكل واحد منهم يدير كيفك، و راه اللي ما يكتب ها النصيحة يموت في سبع أياّم هو وسبعة من أحبابه، أمّا اللي يكتبها سبع مرّات يحصلن له سبع كرامات في سبع أيام .

فسألتُ الأستاذ خميس، وفي بالي أختي مريم الأميّة :

ـ واللي ما يعرف يقرأ لا يكتب يا استاد؟ .

فأجابني وهو يبتسم بثقة :

ـ هذي موش مشكلة بلكل، اتغص فالزبدة حتى أنت، اللي ما يعرف يكتب يكتب له واحد من أقاربه .

ثم قام أبو بكرـ الملتحق أيامَها بدورة تعليم طباعة ـ وسأله :

- ضروري تنكتب كتيبة وإلا حتى طباعة يا استاد؟ .

فصاح الأستاذ خميس:ـ "آ ... ه طباعة لا، الكتيبة لازم باليد، والأفضل بحبر الصوف اللي يكتبوا بيه في القوران علّلوح، لكن اللي ما يلقش الله غالب عليه ؛ والدِّين يسر موش عسر، يكتب حتى بقلم رصاص باهي .

ثم أضاف وهو يرفع يده تأجيلاً لبعض أسئلة التلاميذ :

ـ أُسّسسّ، أسّ ؛ انتبه أنت وياه ؛ على ذكر الطباعة، نقول لكم أنّ الطباعة بدعة، وهي بروحها علامة من علامات يوم القيامة اللي نسيت نقول لكم عليهن .

وحينها تساءل الفصل جميعاً تقريباً:

ـ شنو هنَّ علامات يوم القيامة يا أستاد؟.

فردّ وهو يهزّ رأسه :

ـ لو صبر المقتول على القاتل لقتل؛ كنت جايكم بالكلام

ثم استطرد:ـ "علامات يوم القيامة واجدات ؛ وباينات كيف عين السمس ؛ غير اسم الله عالغافل، أوّلهن يا أبنائي على سبيل المثال العملة ورق والعيشة شرق، وثاني حاجة أن البوادي تمّو يزّابو في بني العمارات ويديرو للعبي في جيوب(وسُمع من قال حلوة هذ) وبعدين عندكم تيّار الخنافس، واللي طبعاً معظمكم وللأسف الشديد ماشيين فيه، وعندكم تشبّه الرجّالة بالصبايا وتشبّه الصبايا بالرجّالة، وعندكم التصوير، ونحت التماثيل، وموش بعيدة حتى التلفزيون ...

فصاح أحدهم: ـ والراديو ؟ .

فقال الأستاذ خميس: ـ لا ، الراديو عادي .

ثم خيّم صمتٌ تفكـّر فيه المعلّم علامات أخرى ليوم القيامة، فاقترح فتحي الفيلسوف:

ـ غلاء المهور؟.

فنهره الأستاذ خميس باشمئزاز:

ـ أيش دخّل غلاء المهور يا دبيبة.

فضجّ الفصل بقهقهات صاخبة، وعمّتْ فوضى ما كاد المدرّس اللّين يسيطر عليها، وحمدتُ الله في سرّي لأني كدتُ أقول الشيءَ نفسه، وبعد أنْ هدأ الفصل، لا هيبة من المدرّس بل انتظاراً للحظةِ التسريح، عاد الأستاذ خميس يقول:

ـ خلاص خلاص، كلمتين وتروّحوا، المهم اللي نبّيه منكم هو التوبة، وتحطّوا في بالكم أنّ يوم القيامة يمكن يطبّ عليكم في أيتها لحظة، وانتو تلعبو في البطش والاّ في الكورة والاّ تصّنتوا في المرسكاوي تحت أركان السّيسان عقابات اللّيول يا معيوف أفندي، وغافل عن يوم تشّقق فيه السما نصّين وتهزّهز لرض كيف زلزال المرج إيجي ميّه وخمسين مرّة كان ما أكثر من هكّ ، وتقربْ فيه السمس نين ما يبقى بينها وبين راس لبنادم مغير اشبر.

ثم دعا نوري الغرنوق أطولَ تلميذ في الفصل، وجعل منه وسيلة شرح قائلاً:

ـ إنْ كلاّ المومن ما يشعر بيها بلكل، والعرق يبقى أندال أندال، واحد غارق لا عند شوشته في العرق، أو وّاحد لا عند رقبته، أو وّاحد لا عند ركبيه، أو وّاحد لا عند عظيْمة الرّخا، كل واحد وعمله وبها الشّكل هذ ....

ولم أجدني كمعظم التلاميذ آخذاً الأمر بروح الهزل والتهريج، بل بدأت أشعر بالضيق شيئاً فشيئاً، خاصّة عندما همس لي جاري في المقعد حمد حمد:

ـ أبعدكْ عندنا فرح أختي في العطلة الصيفية، عليك حظ امّلّحْ .

ثم بعد أن أشار الأستاذ خميس جهة النوافذ فوقف كل التلاميذ قال:

ـ ويمتسحن ها ذكّين لجبال مسح علي وجه الوطا. فانتابني هلع انبثق من أعماق أعماقي، ولاحتْ لي وجوه أبناء خالاتي في القرية وراء تلك الهضاب، وأحسستُ بشفقة عليهم وعلى وجوه مجهولة لاحت في مخيّلتي، وتلتها حالة خوف وحاجة للذهاب إلى بيتنا، وعندما تململتُ لكي أعيد الألفة إلى المقعد عدت لأسمع الأستاذ يقول:

ـ وتجّمّعْ الناس كلّها عرايا كيما خلقهم ربي، ولا أمّك تعرفك ولا باتك، شيّ .

فاقشعرّ جلدي وطغى عليّ خوف كبير ؛ وضبّبتْ عيناي وبَردَ كلّ جسمي وهو يتعرّق، وانقطعتْ بي الهواجس عن الفصل، وصار صوت المدرس ذا صدى عالٍ رنّان غير واضح الكلمات، وقهقهة التلاميذ مثل هدير الشاحنات قربَ الطريق العام، وبعد وقتٍ ما عادت قامة الأستاذ خميس والسبّورة كأنها في سراب، وسألني:

ـ كنّكْ يا ولد؟ مريضو؟ .
فقلت:
ـ آء انحس في راسي و بطني . فقال لي:

- صبّي صبّي، لمْ كتاباتك وروّحْ الحوشكم.
فسحبتُ حقيبتي متمارضاً، وسمعتُ معيوف يصيح:

ـ أنوصّله يا أستاد؟.

ومضيتُ خفيفَ الوزن فارغ الرأس، وكانت الشمس حارّة، والأزقة خانقة، والناس في بيوتهم، وبدا لي النهار غريباً كأنما أنظر عبر زجاج ملوّن، وأنا أتساءل في نفسي لماذا اختار الله هذا التوقيت بالذات، ورغم ثقتي الطفوليّة برضا الله عليّ باعتباري نفسي ابناً لعائلة متديّنة، إلاّ أنّ ذلك لم يحُلْ دون شعوري بالحسرة الكبيرة على الحياة التي ستنتهي قريباً.

في فناءِ البيت وجدتُ أختي الصّغرى تبني بيوتاً بالطين، فسألتها:ـ

ـ قالوا لكم يا فتحية في المدرسة عليْ يوم القيامة؟". فأجابت بالنفي ممّا عمّق وحدتي، ثم استفهمَتْ، فقلتُ لها وأنا أحاول مشاركتها اللعب بلا اشتهاء:

ـ أوّلْ بادي العرب كلهم يموّتوا، هللي هنا وهللي في لبلاد، أو في الحج أو مصر كلهم كلهم، حتى القطاطيس والكلاب والطيور، وكل حاجة ....

فقاطعتني:ـ وحتى حنّي مبروكة؟.

فأجبتها بحنق:ـ أمّا لا شنو ؟ قلت لك كلهم كلهم .

فقوّستْ زاويتيْ فمها، وأخذتها نوبة بكاء ٍ لم أعرف كيف اتصرّف حيالها، إلاّ أنْ أعدو إلى البيت.

هناك تعليقان (2):

  1. قالوا لكم يا فتحية في المدرسة عليْ يوم القيامة؟". فأجابت بالنفي ممّا عمّق وحدتي، !!!!!!!!

    ردحذف
  2. كان على المعلمين والخطباء أن يحببوا إلينا نحن أبناء المؤمنين المسلمين لقاء الله تعالى .

    لا وحدة مع الأصدقاء كأبي أنس . شكراً على المرور والتعليقات ... وسلام

    ردحذف

المشاركات الشائعة