الثلاثاء، مارس 02، 2010

مبعوث الحيوانات


انتباه : صيد الليل عرضة للإنقراض بسبب الصيد الجائر ليلاً ونهاراً.



تقول حكاية شعبية ليبية ضاع نصّها هي الأخرى في لهجته الأصلية(1)، أن الحيوانات كلها بمن فيها بعض ما صار منها أليفاً بعْدُ، والمتوحشة بالطبع، عقدت اجتماعاً كبيراً لم تسعه الغابة، ناقشت فيه وضعها المتأزم مع أخيها الإنسان، وبحثت فيه عن حل، وتوصلت في نهاية الاجتماع إلى رأي هو أن تبعث إلى بني آدم ممثلاً عنها للتباحث معه، إذ لا يمكن أن يظل الحال على ماهو عليه من طراد وذبح وسلخ والتهام وحبس وسخرة، والخ من مظاهر الاضطهاد والتفرقة.


ولم يكن أمر اختيار مبعوث بأسهل من النجاح في الاجتماع فضلاً عن التطوع الحر، ولكن القرعة التي تم اللجوء إليها أسفرت عن إرسال (الشيهم): الذي لم يكن حتى ذلك الوقت كائناً ليلياً؛ فيسمى بـ (صيد الليل).


الجدّة: (مو صيد الليل أصلاً كان ابنادم، أنت مانكشي رايّ كرعيه ؟ كيف اكريعات لعويّل، وحتى حسّه كي حس لعويّل).


انطلق صيد الليل مع العشية، وعلى أنّ كلَّ الحيوانات تقريباً كانت في هدنة تقريباً أيضاً مع بعضها البعض، ورائحةَ الحصانة الدبلوماسية تفوح من بين أشواكه، إلا أنه ـ ولكي يتسنى له المزيد من التخفي فوق العادة ـ مشى بخطوات محسوبة مقدراً الوصول إلى ربوع الإنسان مع حلول الغروب.


وصل صيد الليل ولم تنبحه سوى بعض جراءٍ خلفتها الكلاب التي التحقت بالاجتماع، وقابله ابن آدم بحفاوة العادة، حيث الترحيب والترحيب وإعادة الترحيب، وأعدّ له التكية، ففرش له البسط وأحاطه بالوسائد وقدم له الماء، وكلف خادمه بأن يعجل بإشعال النار لإعداد الشاي الأحمر والأخضر، ونادى على ولد من أولاده وهمس له في أذنه وصرفه وهو يصفق وراءه، وألقى نظرة من وراء الحجاب وتنحنح مرة واحدة، ثم عاد وقعد غير قريب وغير بعيد من ضيفه، كل ذلك وهو يرحب ويرحب ويرحب بلا توقف وبلا مبالاة بردود الضيف، و بنفس الكلمات تقريباً وكأنه لا يعرف سواها.


الجدّة: (لااااااا، يعرف غيرها واجد مالكلام، وقادر ينشده أنت ألمن بلا مصغره؟ و منين جاي؟ من شرقه؟ والا من غربه؟ ولاّ وين تريد؟ ويش حال وطنكم؟ ويش ريت في طريقك؟ غير هذي موش من عادة العرب لكرام، قبل ثلاث أيام من يوم جيّة الضيف ما ينشدوه كيف سيرته، مفيت المرحبة والضيافة).


تقول الحكاية أن أول ما قُدّم للضيف من طعام كان المثرودة واللبن، وأن صيد الليل أقبل على الأكلة بنهم وتلذذ كبيرين، أبهجا مضيفه فدعاه إلى أن يزيد، ولكن صيد الليل حمد الله، وشكر المضيف، وأعرب عن شبعه، وحين اطمأن المضيف إلى ذلك نادى على ولده ليقف على غسل يدي الضيف، عاد صيد الليل فحمد الله على نعمته وسأله سبحانه أن يديمها، ثم عبر لمضيفه عن امتنانه لحسن كرم ضيافته، وأسفه على ما كلفه إياه، وكان سؤال يلح عليه فيغالب طرحه على مضيفه، إلى أن حانت لحظة تقديم الشاي:


المضيف: هي تفضل أشرب.


صيد الليل: الله يزيد فضلك، (نحنحة، ثم صوت رشف الشاي)، يا مرحبه!.


المضيف: رحبْ بّك، ياميّة مرحبه بَكْ.


صيد الليل: (يتنحنح) يا وجوه لكرام نريد نسألك علي بصيرة،متحشم فالنشده عليها، سامحني!.


المضيف: أييّيّه، ياك الا متحشم ! انشد على حاجتك اللي في بالك، وحاجتك مقضية انشا الله.


صيد الليل: ما قصرت، ولا فيه حاجة بعيدة، امغير نريد نسألك عالمية الصفره الطيبة اللي امرقرقه عالطعام الطيب اللي قدمتوه لي.


المضيف: اوماعرفتـّا شي أنت؟.


صيد الليل: لا ما عرفتـّا، اموهّم عليها توهيم لكن ماني شي متيكّد.


المضيف: هذا سمن ياسي.


صيد الليل:ـ سمن؟ طيّب العطيب، ومنين اتجيبوا فيه السمن؟.


المضيف:ـ السمن من النعجة.


صيد الليل:ـ من النعجة؟.


المضيف: آ من النعجة، وموش غير هو من النعجة.


صيد الليل: وحتى اللي قلت لي شاهي؟.


المضيف: لا ... ريت! النعجة بركتـّا واجده، كل ما ايجيك في هالبيت من طعام والا شراب والا غيره، يا من النعجة، يا للنعجة فيه سهم،تو أنت سألتني عالشاهي، الشاهي موش كي السمن والا غيره من النعجة بيدها، لكن ما انجيبوه نين انبيعو حاجة مالنعجة يا حليبها يا صوفـّا يا غيره، أنت أيش رايك في هالنطع اللي تحتك ؟.


صيد الليل: والله حتى هو كنت نريد نسألك عليه ملوّلْ، لايني صارت لي تشويبه ساعة اللي قعمزت عليه، وراني مانش رايها النعجة، نسمع بها سمع، انظني هي اللي تقول ماااااااء مااااااء؟.


المضيف: آي وهْ.


صيد الليل: وصار حتى هو قلت لي أيش اسمه ؟.


المضيف: النطع! النطع!.


صيد الليل: النطاااااع. باهي وهالبصاير هذين شنن؟.


المضيف: امخاد.


صيد الليل: اووو؟!؟!.


المضيف: .. وحتى هن وحشوهن مالنعجة.


صيد الليل: ريت باللهِ يا وجوه لكرام ! عليم الله انها مباركة النعجة كيما قلت، وتستاهل كل خير.


المضيف: قلت لك ما اتعب روحك لا انتعبك في كثرة نشده ، كل ماهو قدامك اوراك وتحت عينك مالنعجة ، هالبيت اللي تانسنا فيه في هالساعة المباركة؛ هو كله حيله مالنعجة، طعااامنا منها، دبشنا هاللي علينا منها، أوقات حتى ابلغنا منها، والدوا والسماد والحبر.


صيد الليل: الحبر؟.


المضيف: أنت ثاريتك ما تعرفش الحبر، الحبر ياسيدي هو الـ...، ألـ...، ألـ...ووجد ابن آدم صعوبة شاقة في شرح مفهوم الحبر لضيفه، فضلاً عن كيفية صناعته من الصوف ، و استعماله في الكتابة ، وما أدرى صيد الليل مالكتابة؟ ولكن صيد الليل فهم المراد فهماً ما ، على نحو يصعب في نفس الوقت على ابن آدم فهمه.


الجدّة: (مي هذي دوّة الخراريف عَيْد، الخراريف هذا لونهن. وهذي لغوتن، ما يستحقن شي ترجمة بين لنسان والحِـوان).


ومضى صيد الليل ومضيفه الإنسان في الدردشة؛ ممعنين في التوغل في الأنس مستعينين بهذه اللعبة من السؤال والجواب؛ إلى حين موعد العشاء، الذي كان لاشك كسكسو باللحم طبعاً، والذي اتبع بالشاي ؛ الأمر الذي أثار دورانُ أكوابه كوباً إثر كوب عجباً لدى صيد الليل لم يبده ، لكنه لم يكن أقوى وقعاً عليه من عجبه من عودة المضيف فيما هو ينبش ما بين أسنانه بعود ليقول : يا ربي مرحبه! كيف حالك ؟ آنست، كيف الحال، أيش لونك، كيف أنك، مرحبه ؟.


الشاي الذي لم يألفه صيد الليل، على الوليمة الدسمة، على الأجواء غير المألوفة، على قلق المهمة التي جاء من أجلها إلى ربوع بني آدم، كلها كانت عوامل ثانوية في الأرق الذي ألم به ، فتقلّب طويلاً في الفراش وتحت الغطاء ، لكن العامل الأكثر تسبباً في الحالة هو سماعه لصياح حيواني لم يكف منذ انبعاثه من أول ساعة لجلوسه في البيت.


المضيف: كنك تقول مانك شي متريّح ؟ بالك راك صقعت؟ انزيدوك غطا ؟ والا فراشك موش ريّح ؟.


صيد الليل: لا كثر خيرك ، فراش ريّح، وصقع مافيه صقع.


المضيف: لا والله مانك متريح ، انظر أيش في عقلك غير متحشّم ، قوووووووووول ياراجل لا ادّير شي غيبة؛ بالك اتريد الخلا ؟.


صيد الليل: لا.


المضيف: كانك اتريد تنشد على هالغطا ؟ راه حتى هو مالنعجة.


صيد الليل: لا قلت لي عليه من بدري.


المضيف: شوف ! إن كان موش جايك نوم ومازال في عقلك هدرزة، راني حتى نا موش هذا وقت تغفايتي، والا راه هالنعجة اللي اتصيّح ما خلاتك شي ترقد ؟.


صيد الليل: بعد قلتـّا، هي كنها النعجة من حاشن اغرب المغرب وهي اتصيّح في هالتصييحة الموحشة ؟ بالك راها جيعانة؟.


المضيف: لا ما بها جوع ، إلا اتصيح على حوليها ؟.


صيد الليل: او حوليها كنـّه ؟.


المضيف: اتريد اتحشمنا عيد، بيش انقولولك رانا درنالك ذبيحة ؟.


صيد الليل: كيف صار؟.


المضيف: حوليها هو ذبيحتك.


صيد الليل: لا ! لا تقولهش.


المضيف: أييّيهْ، هالحاجة الكبيرة اللي درناها لك ، ذبحنا لك امغير حولي.


تقول الخرافة الليبية أن صيد الليل انسل من الفراش بعد أن تعالى شخير مضيفه، وتسلل فارّاً إلى حيث تنتظره الحيوانات، وحين هبّوا إليه ليسألوه بمَ جاءهم، قال لهم :


ـ ما ني قايل لكم شي، ولا نص كلمة، نين تحفروا لي حفرة غريييييقة في هالجبل.


وحين أتمت الحيوانات عملها سألته فأجاب :


ـ ريتوا، انكلا بني آدم اللي ريته نا، بني آدم اللي وكاله. وشربه. وكسوته. وفراشه. وغطاه. وبيعه. وشراه. مالنعجة، وما يلقى بيش ايكافيها الا ابذبحة جنينها. بني آدم اللي هذا وصفه. لا اتصالحوه. ولا ايصالحكم.ولا اتجيبكم طريقاً اتجيبه. اقسموا يوم ربي بينكم وبينه، عطوه النهار وخذوا الليل، وبو حافر يحفر، وبو جناح ايطير(2)، وهي السلام عليكم علي راي لبنادم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* خرافة ليبية بتصرف كثير. إحدى حلقات برنامج صندوق القرية. إخراج محمد بالقاسم. تقديم سالم الفيتوري.(1). كما كانت تروى بألسنة الجدات والأمهات. (2). مثل شعبي ليبي .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة