الأربعاء، مارس 10، 2010

الراعية





حيث يقيّل أو يبيت القطيع تقيّل أو تبيت امدلّلة الراعية، فقد صارت مع الأيام فرداً من القطيع، تتبعه طوال النهار، وفي الليل يقوم على حراسته زوجها، الجنّيّ الذي سكنها منذ الطفولة، ثم أخذ يستدرجها يوماً فيوماً إلى الخلاء، بعد أن أعجز الفقهاء والمشعوذين وأطبّاء الأعشاب الشعبيين والكيّ والجَلْد المبرّح عن أن يُخرجوه منها، كان آخرَهم فقيه مغربيّ عابرٌ إلى البيت الحرام أشار عليهم أن يدلقوا عليها دلواً من ماء السماء ساعة جماعها وزوجها الجنّيّ .




ومنذ تلك الوصفة فرّت امدلّلة ولم ترجع إلى القرية قَطّ، وصارت تنظر إليها من بعيد بحذر حيوان برّي، وفي بحر أيّام قليلة أو كثيرة حسب زمن الجنّ، تعلمت لغة زوجها، فأصبحت سميعةً لطقطقة العشب، جذوره وفروعه وأوراقه، بصيرة لزحفه إلى بعضه بعض، أو نحو الطرقات .




غيّر الزمن خارطة القرية تغييراً خفيّاً، ناغمه صدأٌ على اللوحة المعدنيّة اللافتة لاسم القرية وحدودها، وتجعّدٌ في قسمات وجه امدلّلة، التي ظلّتْ في عالمها الثالث، لا مع الذين ماتوا ولا مع الذين وُلدوا، كأنها كائنٌ خرافيّ، ولا مع من حزنوا ولا مع من فرحوا من أهل القرية الإنس، فحتى بعد أن صار القرويون يلمحون في الليل على أضواء سيّاراتهم ـ بل وفي القيلولات ـ الثّعالبَ وقد أنست على حوافّ الطرقات أو عند أكوام القمامة، إلا أن امدللة لم تدْن من أرض القرية التي كأنما اكتفت بآثار أقدامها الصغيرة في صباها، وعبثاً حاولت أسرتها أن تستأنسها فتُحَضّرها عرساً من الأعراس أو مأتماً، إذ كان زوجها الجنيّ العاشق الغيور العنيد، ما أن يفيق مع حلول المغرب حتى يُقبل مسرعاً في موكب من الزعازع الرمادية أو الحمراء حيناً، أو وسط مُواءٍ مرعب حادّ طويل، يعقبه صمت وسكون عميقان يهيمنان حيث هي، ثم يأخذ بيده الخفية يدها، يخترق بها الجدران والأجسام، ويعبر بها نهر سيارات الطريق العام، دون مساس، ولا نامت أعين القرويين جميعاً تحت الأسطح الزنكية المرجومة بأمطار من الحجارة، إذا حجزوها بالقرآن والتعاويذ ليلة أو بعض ليلة .




امدللة اسم تطلقه الأمهات على بناتهن حين يُغضبنهن أو يتشاجرن معهن، ويخوّفن بذكرها ـ مثل غول أو عفريت ـ الصغار المشاغبين، وينعت به المعلمون التلميذات الضعيفات في فصول مدرسة القرية .




ولعلّ كثيرين من العابرين رأوا كثيراً امدللة في الصباح الباكر أو القيلولة، صيفاً أو شتاءً عبر زجاج السيّارات، وهي تدبّ معتمدة على عكاز مثل علامة استفهام طويلة، ينطّ أعلى من قامتها المنحنية، وقد اقترب وجهها من الأرض، ولعلّ بعضهم تساءل سرّاً أو جهراً، تساؤلات وتعليقات، وأحياناً صيحات مناكفة ساخرة، أو تمتمات شفيقة، بعدد وجوه وأصوات وأرواح العابرين والمسافرين،الذين يرمونها لتنطفئ مع أعقاب السجائر على حافة الطريق، دون أن تسبّب حريقاً ولو صغيراً في بال العجوز الراعية المصمت، التي تنظر ولا تنظر وتسمع ولا تسمع وتنفعل ولا تنفعل إزاء ما حولها من غير قطيعها العزيز .




منذ أشهر مضت عُثر على امدلّلة جثّة رماها الوادي، الذي تدفّقت فيه مياه أمطار الخريف المفاجئة، ملقاة جوار سدرة على فراش من الهشيم الجفاء والقواقع، فيما الأرض جنادب تتقافز من الوادي إلى السّهل وضفادع تتقافز من السهل إلى الوادي، كان ينام بجوارها كلبٌ تخلّف عن القطيع .




تناقل القرويون خبر وفاتها في الصباح الباكر مع رشفات الحليب، وكأنه حادثة في قرية أخرى بعيدة، أو كنهاية شخص في رواية، وعلم الأطفال أنها هي التي كانت تترك لهم وراءها ـ في علب الصفيح الصدئ، أو على ظهور الصخور كويمات القمحي*.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصورة من (ugaidi.com).

القمحي أو الفقـّاع : الفطر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة