الاثنين، سبتمبر 20، 2010

النـّحـّاس



( النّحاسْ انقرضْ ) ، خاطرة حادّة ، تطِنُّ ـ منذ الليلةِ البارحة في رأسِ "بلْحسَنْ " ، ولقد تحدّى نفسه المنقسمة عليه بالخصوص ، فكان ينهزم أمامها كلّ مرّة ، مقتنعاً بأنّ النحاس قد نفد من القرية والقرى المجاورة ؛ من "الروابش " ومخلّفات الكسّارات والشركات التي يمكن أنْ تخطر له ببال ، فلا أثر حتى لـ" تلّ " في شبكة زريبة :





ـ اقرضوه الجّربْ الله يقرضهم ، انزعوه مالوطن عطهم ما ينزعهم .

وبهذه العبارة كان بلْحسَنْ وبهمس يختم تجواله الفكريّ اليائس في أثر النّحاس ، دون أن تفرقع في أعماقه فتنوّر في أساريره فتسري في أعصابه بُشرى خاطرةٍ ، حاملة خريطة منجم ِ نحاسٍ أنساهُ إيّاه الشيطان الرجيم ، وفي كلِّ مرة يلهث فيها فكره المكرّس منذ أشهر للنحاس ، يزوغ إلى خواطر تزعجه مثل : أنّ النحاس موصّلٌ جيّد للكهرباءِ كما تعلّم في دراسته التي ظلتْ ابتدائية ، ومثل لماذا أسلاك الخطوط الكهربية خمسة ، أو لماذا ترنُّ آنية النّحاس، وسرعان ما تنقله خواطره كعادته إلى طفولته فيذكر أنّ حياة جدّته كانت تقتني"ليّان" نُحاس أصفر كبير، من مخلّفات جيوش الحرب العالميّة ، وكيف أنه كم كان يركزه على حافّته في عزّ "القايله" ، ويشرع في قرعه قرعاتٍ متتالية ، ثم يصيح ( هنا لندن! ) ، فيقول في ذهنه



ـ كان يوزن قريّبْ خمسة وعشرين كيلو!



ثم يكتم تحسّرَه بلوم نفسه :




ـ خرّفْ يا بلْحسن ، كان كان كان ، الدوّهْ في توّهْ ، إن كان ردّتْ جدّتكْ إيردّ هاذك الليّان .

هل يخرج بلحسن من جنة النحاس؟ وهو الذي منذ أشهر ـ كأنها ملايين من السنوات ـ ينام ويصحو على النحاس : ملابسه مشبعة وملّطخة بغبار النحاس، بصماته النحاسية تلطِّخ الجدران والأوراق والزجاج وكلّ الملموسات ، حتى حبّات "الزريعة" التي أدمنها بطعم غبرة النحاس ، حوارات بلحسن الداخلية وأحاديثه حتى مع الأطفال، وأحلامه ونكاته ، كلّها ذات رنين نحاسي ، تقصّي النحاس بالنسبة لـ بلحسنْ صار عادة إدمان هواية حاجة ، بلحسَنْ أمام النحاس ـ ولو شُعيرة منه ـ طفل أمام لعب ، بلْحسنْ " مارد النحاس " كما يسمّيه أطفال القرية ، لم يَبق شبرٌ من جلده لم تخدشه أدغال النحاس التي اخترقها نهاراً أو ليلاً ، وهو لم يُبقِ سلكاً كهربيّاً إلاّ سلّه وعرّاه ولفّه بعناية عمّال الحرير، ولا "شبردق" إلا فحصه فحصاً وفلاّه ليستخلص منه ولو عشرة سنتمتر نحاساً ، ولا "كابل" هواتف أو سواه إلا شقَّ عليه بطن الأرض وسلخه وشواه ، بلْحَسَنْ الذي باع أطناناً من الآنية النحاسية ولفّ الكيلو مترات من أسلاك الكهرباء ، وكوّم أهراماً من " "الفوشيك" .

بلحسنْ هذا الذي فعل به النحاس ما لم يفعله به بيعُ " الشوالات" في "الحصيدة "، ولا بيع الزعتر في الخريف ، ولا بيع اللبن وخبزة التنّور في رمضان ، ولا بيع الأعشاب و"القعمول" في الربيع ، ولا بيع الجلود و"الزمامير" في العيد ، ولا أيّ "بزنس" آخر عرفه وعُرف به خلال مراهقته ، ورفض كلّ وظيفة أو حرفة عُرضت عليه ، حتى تأكد له أنّ النحاس "موش مطلوق" ، بلْحسنْ الذي فعل وفُعِل به كلّ هذا ، يجلس الآن على "بلوكّه حرشه" مسنداً ظهره إلى جدار بيته ـ وربما هي المرة الوحيدة التي يستريح فيها جسده بعيدا عن "القوراج" ، حيث أعمال مسح وجلي وتفكيك وتقطيع وتحميل النحاس ـ يجلس شارداً صامتاً متعب الروح ، ونواقيس نحاسية تضجُّ وتصكُّ مسامعه (نحاس !نحاس!نحاس) ، حتى تكاد تفجّر جمجمته .


فهل يخرج بلحسن من جنة النحاس ؟ .

ـ ولا يمكنْ عليّْ الطلاق ما نقعد ها القعده .



هكذا يقول بلحسن بصوت يقترب من الجهر بإصرار أطباء السرطان




ـ لسْبدّ فيه ميكان فيه نحاس أو ما مشيتْ لهْ ، وين ؟ وين ؟ وين ؟ وين يا بلْحَسَنْ ؟ .



ويطلق بلْحسنْ كلابَ خاطره النحاسيّة ؛ تشقّ الأزقة زقاقاً فزقاقاً ؛ تصّعد الهضاب ؛ تنزل الأودية ؛ تقلّب هياكل السيارات المعطّلة أمام البيوت ، تجرد على الزرائب والخرائب ؛ تشمّم أعمدة الكهرباء القديمة ؛ تلصّص على شبكات محطات الكهرباء ؛ تدور حول أسوار المعسكرات ؛ تخوض المجاري ؛ تلج العبّارات ؛ تعود إليه لاهثة ؛ يعيد ترتيب المكان متخيّلاً القديم ومتصوّرا الجديد ، ويرسلها مرة أخرى وراء النحاس الذهبيّ الغالي ، وبلْحسنْ جسد يابس لا يتمدّد ولا ينكمش مستند إلى الجدار، بعينين فارغتين ، لاتريان العابرين ، وأذنين لا تسمعان التحيّات .

لكنّ الآذان يرتفع فينبّهه ، فينفض ثوبه متعوّذا بالله من الشيطان ومستغفراً ربّه ، داعياً في أعماقه أن يدلّه على منجم للنحاس ، ويتوجّه في برتقالية الأصيل للصلاة ، دون أن ينتبه لخيوط الشمس التي تحاول أن تنعكس فيمتصها الهلال النحاسيِّ لقبّة الجامع .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة