الثلاثاء، سبتمبر 07، 2010

الدّكـّة


لوحده ذهب يونس إلى المدينة ؛ بعد أن اتخذ قراراً سريّاً مهما ؛ معِدّاً أجوبة احتياطية لأي سؤال مفاجئ ؛ مثل رجل يريد عرض نفسه على طبيب نفسية أو مسالك .

كان مساء خاصّاً في حياته ذلك المساء الرمضاني ؛ فللمرة الأولى تقوده أقدامه إلى جهة جديدة وبانتباه شديد ، فقد اعتاد منذ سنوات ـ في مثل هذه الساعة ـ أن تثير خطواته غبار الدروب الحمراء الضيقة المتعرجة إلى الزرائب ليعلف الأبقار ، كان يحس أن القرية كلها ؛ ليس بسكانها وحسب ؛ بل وببهائمها ودواجنها وأشجارها ومبانيها وأعمدتها الكهربائية ، تراقبه وهو يمشي وهي تهمس (وين ماشي يونس ؟ ) .

زمان ، أيام طفولته كان أبوه يرسل مع البقال ليحضر لهم ملابس العيد ، هو وأخيه ، السراويل مقاسة طولاً وحزاماً بخيط سباولو ، الحذاء ورقة كرتون تقص على مساحة القدم ، لكن القياسات قد لا تجيء دقيقة في آخر دقيقة من ليلة العيد : الكندرة قد تصل ضيقة تترك ندبة أسفل الكعب أو بأصابع القدم ، فحمّى مساء العيد الشجية ، أو واسعة يتقلقل فيها القدم ، فيتخلف غائصاً في وحل ، أو مقلوباً عند عتبة ، الجاكة أو السورية إما نص كم أو (2/1كم) .

ربما لتلك الذكريات وجد يونس نفسه أو والده أن الملابس العربية (الصينية) ، حيث المقاسات بالكلمات لا بالأرقام ، بدء من واسعة . نص ونص . كبيرة . مخبخبة . مهبهبة. امهشكة. وافية. إلى سخاسخي . أغسل وألبس . ما ايخشش. ما يطلقش . مروراً بسمول لارج إكس لارج .

لكن السبعينيات من القرن الماضي دخلت عليه بالخنافس والمدارس الإعدادية المشتركة ، ومداليات الحروف الأجنبية التي ما لها أين تعلق في السراويل العربية ولا الصينية ، أي دخلت عليه بالمراهقة والمراهقة دخلت عليه بالحب ، الحب الكلمة البديل لكلمة الغية ، كيف يستطيع أن يقول بالبدلة العربية (بحبك ياحبيبتي) ، بالبدلة العربية يستطيع القول (غاوي فيك ياحويمتي) .

ثم ـ لتعزيز قرار التغيير ـ الملابس العربية كم أوقعته في مواقف محرجة لا تنسى ، مرة انقطعت دكة سرواله وسقط حتى حذائه بين قائمتي المرمى الذي يحرسه بالدوري المدرسي ، مرة ثانية ، ترك سرواله العربي القديم في حجرة القياس ولم ينبهه إلى نصف عريه سوى صياح التاجر وراءه ، مرة ثالثة انقطعت الدكة حين فرج ساقيه ليتحكم من خصم عريض ، بل ومواقف خطرة ، مرة نطح دينمو السيارة كم نطحة إثر التهام الشينقة لعمامته ، والسورية مرة كان ذيلها عالقاً بالدكة من دبر وهو عابر الصالة خارجاً من الحمام تحت عيني بنت الجيران ، وكثيراً جداً في رفعه من الركوع ...


تنهد حين جلس على الكرسي الخلفي للحافلة ، حين تحركت ألقى نظرة إلى الوراء حيث مشهد القرية وهي تنأى عن الحافلة ، وبعينين تنتظران أكثر من بشر كان يراقب انفتاح باب الحافلة فاغراً فاه متفحصاً الركاب الوافدين كل مرة ، اهتم لكثرة الراكبين والنازلين وتذكر قولة أبيه (الدنيا كيف التابوس ؛ واحد راكب و واحد نازل) رأى كم وجهاً ذكرته بوجوه من القرية ، تساءل بحيرة في ذهنه

ـ تي هضوم وين يريدو ؟ .

أزعجته بعض الوجوه من المراهقين خاصة ، وكان ينتابه شعور غير مصنّف وهو يراقب الصِّبْية المثرثرين بألفاظ الكبار والمقهقهين بلا خجل ويناوش بعضهم بعضاً .

زفرت الحافلة زفرة قوية وميّدت الركاب الذي هبوا واقفين جميعاً معاً ؛ ثم اندفعوا عند الباب فلاح في ذهنه تدافع أبقاره عند مدخل الزريبة ، دفعته أكتافهم معها إلى خارج الحافلة ، وجد نفسه رغم زحام البنايات والبشر كأنه في خلاء بلا جهات ، وبخريطة حكايات زملائه في القرية توجه إلى سوق الجريد ؛ فكر : سوق الجريد شارع واحد متصل أوله يدل على آخره ؛ فرجحت كفة الاطمئنان في صدره ، تعثر في الأشياء في طريقه ؛ اصطدم ببعض من مضوا في طريقهم دون أن يلتفتوا إليه ، وهو في ذروة الانتباه والتركيز ذكـّرته الروائح العبقة بحجرة جدته ، بعد مسافة أحس فيها بروعة فتوحاته في شوارع المدينة قدّر أنه في منتصف السوق ؛ فعرّج على محل ، تأمل البنطلونات والقمصان المعروضة وراء الزجاج ؛ شعر باطمئنان ختامي كامل تام على توفيق رحلته حين لمح في زجاج عرض أحد المحلات أزياء مألوفة يرتديها بعض أقرانه في القرية ؛ ورغم ذلك قرر أن يشتري لبسة مختلفة ولو في اللون في النهاية ؛ فقال لأحدهم في المحل :

ـ نريد سروال .

فسأله الرجل وهو يلف كيساً لغيره :

ـ أيّن نوع؟ .

فبصم يونس بعرَق سبّابته على الزجاج :

ـ هالنوع هض .

دعاه الرجل ومدّ له بنطلوناً وأفهمه أن يتجه إلى حجرة القياس ، احمرّ وجهه حتى أذنيه من فكرة أن يخلع ملابسه في سوق ؛ ولو من وراء جدار ، دخل الحجيرة ؛ قابلته هيأته كاملة في المرآة ، تأملا بعضهما جيّداً ، بدا له كأنه خارج من محجر ، بلغة الملابس العرْبية الفصحى تحدث إلى ملابسه التي قرر التخلي عنها هذا العيد وتحدثت إليه ، لاح لنفسه في مرآة مخيلته وهو يخفي ارتباك مشيته في الملابس الجديدة مع رفاقه يوم العيد ، عضّ على البنطلون الجديد بأسنانه وتحسس قفل حجرة القياس ؛ دسّ يده تحت قميصه ليسحب تكة السروال ، وتحسس قفل الحجرة ؛ جذب الدكة ، لم تنحل ؛ تحسس قفل الحجرة ، جذب الدكة مرة أخرى أقوى انعقدت ؛ تحسس قفل الحجرة ، حاول شد االدكة بجماع قوته فاستحكمت أكثر ؛ حدج قفل الحجرة ، خلع قميصه وأخذ يعالج العقدة برؤوس أصابعه حتى أحس بفشل في ذراعه ، حدج قفل الحجرة ؛ حاول أن يخفض رأسه ليفك الدكة بأسنانه ؛ حال دون ذلك غلظ عنقه واندلاق كرشه ؛ حدج القفل و شدّ التكة ؛ شدّ شدّ شدّ ؛ دون جدوى ؛ تلوّى ؛ دون جدوى ؛ أحنقته طرقات على الباب فارتدى بعجل قميصه وهو يسمع بعد انقطاع همهمات أناس في المحل ؛ كان جسده قد نضح ببقية ما فيه من سوائل ؛ خرج محرجاً مرتبكاً ماسحاً جبينه بالسروال الإفرنجي ؛ ومتفادياً النظرات ؛ سأله الرجل :

ـ آء ، شنو؟ أكويّس؟ .

تحسس الدكة ولم يجبه ، وخرج ... قاصداً محطة الحافلات .

مرة رابعة ـ بعد النكوص ـ خبر يونس الحيرة بين رفع السروال واستلام الفرّارة في الزحام قدام الجمعية التعاونية الاستهلاكية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة