الأربعاء، يونيو 09، 2010

محو الأمية





قبل أن يكمل الأستاذ علي قوله " ذهب محمّد إلى السوق " ، قاطعه الشيوخ قائلين معا "صلّى الله عليه وسلّم".


في أولِ مرّة في الحصّة الأولى ردّدَ هو أيضاً معهم التصلية والتسليم ، لكنّ الشيوخ لم يكفّوا عن ذلك في كلِّ مرة ، فاضطرّ إلى أن يقطع الدرس ويبيّن لهم المسألة قائلاً :


ـ " ريتو يا حِجّاج ، نحنَ توّا نتكلموا علي شخص عادي كيفنا اسمه محمّد " . فهمهم الفصل :


ـ" صلّى الله عليه وسلّم " . فانفلتتْ من الأستاذ علي ضحكة وهو يقول

ـ" دخيلتك يا رسول الله " ، وتقدّم وراح يستلم كتب القراءة من كل واحد ثم عاد وجلس إلى الطاولة وبدأ في تحويل اسم محمد إلى محمود تفادياً للّبس الطريف ، وأذن للشيوخ المدردشين بالتدخين حتى حين .

يومَ تطوّعَ الأستاذ علي ـ المعلم بالابتدائي ـ في دورة محو الأميّة لم يتصوّر أنّ التعامل مع تلاميذ شيوخ لا يقلّ إزعاجاً عن التعامل مع تلاميذ أطفال ، فلم يصدّق أنّ هؤلاءِ أيضاً يتشاجر بعضهم على المقاعد الأماميّة والجيّدة بل والملساء ، أو التي بجوار الشبابيك ، بل إنهم وقد وجدوا ساحة ثانية ، نقلوا إليها مشاكلهم في العمل والبيت والشارع ، وكان موقف الأستاذ علي حرجاً ؛ حيث لا يكون بوسعه نهر أحدٍ منهم ، ناهيك عن معاقبته كالتلاميذ الصّغار .

كانوا سبعة ًمن الشيوخ هم كلُّ طلبة الصّفِّ الأول الابتدائي من كثير لم يتحمّسوا ، متّخذين موقفاً هازئاً تحت الشّعار المعروف (وينما شاب خشّ الكتّاب) ، كان الحاج مفتاح ـ الفرّاش بالمدرسة نفسها صباحاً ـ أكثرَهم حيويّة وسلاسة ، ولم يخلُ أسلوبه من دهاء ؛ فهو يخلط في الظهيرة المقاعدَ ، مدندناً ( قروة عقاب العمر موش قراية تكمل الحصة كلها سهراية) لكي يستمتع بما سيدور بين الشيوخ من شجار حولها في المساء ، والحاج إبراهيم الخضّار الذي كان يبادر دائما ـ وقبل أن ينهي الأستاذ إحدى مسائل الحساب ـ بقوله مثلا :


ـ " خمسه وثلاثين خمسه وثلاثين ، هذي ما تبّيش فقيه ، ما اتنشفش ريقك يا اوستاد " .


وعبثا حاول الأستاذ أن يعلمه ترتيب خطوات المسألة الحسابيّة ، أو استعمال القلم أو الطباشير أو النظر إلى السبّورة أثناءَ الإجابة كلما أوقفه أمامها .


ثم الحاج يادم الذي ظلّ طيلة الدورة التعليمية يضطر إلى التردّد المستمر على دورة المياه ، بسبب السُّكريّ ، ولطالما تكرّر قوله :


ـ " أرجاني شوي يا عليوه نين انطق في بيت الراحة ونجيك ونقول لك " ثم بعد وقت يدخل الفصلَ وهويمسح يديه بمنديله الأصفر ويقدِّم الإجابة في تأكيد و زهوٍّ ، ما يثير جلبة يشارك فيها الأستاذ علي أيضاً ، ويعتبرها الجميع محطّة استراحة من عناء الدروس .

بعد أن أنهى الأستاذ علي شغله في كتب التلاميذ ، وكان طوال ذلك الوقت يهمهم ويبتسم أو يكتفي بهز رأسه ، دون أن يشارك في الأحاديث الملغّمة بالمقالب ، وقد نجح في عدم الوقوع في مصيدة ( الحقوق) التي اخترعها خامس الشيوخ الحاج الساكت الذي يسمّونه النّاكت ؛ تلك المصيدة التي كثيرا ما وقع في حبائلها سادسهم الحاج هارون ، نظرا لعصبيّته المفرطة ، التي كلّفته ـ مع العفو أحياناً ـ ثلاثة غداوات منذ انطلاق الدورة ، كان آخرها غداءُ أيام قريبة انطلقوا بعد الإتيان عليه إلى المدرسة معاً هم وأستاذهم ، وقصة الغداء هي أنّ الحاج هارون قدّمَ في حصة الحساب قائمة بأرقام طالباً من الأستاذ حاصل جمعها بالضبط ولم تكن تلك القائمة سوى أسعار خضروات الغداء المعلوم التي اشتراها من دكان الحاج إبراهيم ذلك الصباح .

استأذن الأستاذ علي بعد ذلك ، واكتفى بقوله " يعني " ردّاً على اقتراح الحاج مفتاح بأنْ تكون الأسماء والرسومات في كتاب المطالعة لشيوخ وعجائز بدل أطفال ، وطلب الأستاذ من هذا الأخير أن يوزّع الدفاتر عليهم وخرج .

لكنّ الأستاذ ، بعد خلوِّ المدرسة وسكونها ، فوجئ َ وهو يهمُّ بإقفال الباب بالحاج هارون مقبلاً نحوه فبادره بالقول :


ـ " ها ياسي هارون ، لاباس " . فأجاب الحاج هارون :

ـ " لا ، غير أنت فيه كتاب عطيت منّه الجماعة ونا ما حسبتنش فيه " .

فرفع الأستاذ حاجبيه متسائلا : " كتاب ؟ " .

فقال الحاج " آ...ء كتاب " . فاكتفى الأستاذ بهزّ رأسه سلباً ، فصاح الحاج

ـ " أيّ يِهْ !! كتاب أزرق أملس طوييييل " ، فسأله الأستاذ :

ـ " وانت وين ريته وين ؟ " ، فنتر الحاج هارون جسده وصاح أعلى أكثر:

ـ " انت كنك اتحقق امعاي ؟ امكذّبني ولاّ ايش ؟ ، راني انبيت عليك حق

وتصاعد بينهما جدال ، قرقعت أثناءه سلسلة الحديد بشباك الباب ، لم يسمح للأستاذ أن يتذكّر أنّ الكتاب ما هو إلاّ سجِلّ الغياب والحضور، تأبّطه الحاج الساكت عفواً .... أو قصداً .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة