الاثنين، أبريل 05، 2010

تشينما


لا مرة ولا مرتان ولا ثلاث، تنتهي فيها حركة عمال في ركن من أركان القرية إلى ارتفاع بناء آخر، غير ما كنا قد انتظرنا انتظاراً خفياً مشحوناً بأمانينا الحارة، بأنه سينما.


نهمل بيان لافتة إنشاء المشروع، يألف سمعُنا قرقعةَ "الكومبريسات "، تأخذ خطواتنا في التنحي لا إرادياً بعيداً عن حفر القواعد وارتدادات الألواح، تسلوا أعيننا مشاهدَ حميمة من قريتنا حجبتها حيطانُ "لبلوك" الأبيض، تستطيل أو تتربع أو تستدير الأبنية لكن لا لتكون سينما، بل سلخانة تفوح منها رائحة الجلود و الفرث، لا سينما بل إسطبل تصهل وتشخر فيه خيول الشرطة، لا سينما بل غرفة كهرباء يرصّع جبينها لوحة الخطر المميت، لا سينما، بل... بل يكفي.


ربما لتلك السلسلة من خبرة خيبات أمانينا الصغيرة، (الصغيرة ؟)، كنا كثيراً ما نلوذ ـ دون أن نعي ـ بجدار الحوش "لَـلْمَاني"، البيت الذي يسكنه عيت المدير، عيت المدير أهل كثلوم، كثلوم التي من أجل خاطر الأطفال عن طريق خاطرها كان (حميد فيوري) دائماً هو من يجلب "لاندروفر" السينما من لِـبْلاد، بمكافأةٍ هي عصرية مثرودة، لتسلط شعاعها الفضي المحمل بمسحوق نجوم السينما ممزوجاً بغبش الغروب وأنفاس المدخنين وآهاتهم والغبار، على جبين الجدار العالي الفسيح للمبنى الذي يكنّ كثلوم التي تمثل لبـَّه.


من مدخل الريف، الذي هو مخرجه، المسفلتِ المتعرج على التبّة والمكشوفِ لكلّ شبابيك وأبواب البيوت العَرْبيّة تلوح "اللاندروفر" الزرقاء، ذاتُ "اللاندروفر" الزرقاء : "لاندروفر التشينما"،ثم تتقدم على مرأى وترقبِ عددٍ غيرِ قليلٍ من الفتية والصِبْيَة هم أشد المعجبين المأخوذين بحميد فيوري وبها وبالشاشة الفضية، ثم تنجرف انجرافاً إلى الدرب الواطئ الترابي الذي هو الطريق الرئيسي إلى عمق القرية، ثم تسلك كما اعتادتْ واعتدنا أحدَ فروعها المنتهية عند عتبة بيت حميد فيوري، محاطةً ومتبوعة بخلية من الأطفال الصائحين(بص! شوف! فيوري يعمل أيه!) هم نفس الأطفال الذين كانوا طوالَ أقربِ الأسابيع يُنشدون له بين الجد والهزل أو بالجد الشبيه بالهزل كلما مرّ بهم في الطريق مطالبينَه ومذكرينه بالتشينما :(يا فيوري تشينمَا ! ربي ما يورّيك عمى !).


وفيما يكون الطقم السينمائي حول قصعةِ عصريّةِ المثرودة في مربوعة فيوري، يكون نبأ وصولهم قد تأكد لدى كل سكان القرية، وليتقاطروا فرادى وجماعات كما لرصد ظاهرة فلكية إلى الساحة قبالة الحوش لَلْماني، فتراهم بين شيوخ بدو ٍ جلوس متربعين أو مقرفصين على التراب، يستعين بعضُهم على أحاديثه بتقليب الحصى بين كفيه أو بتخطيط التراب بعود، وبين متعلمين وقوفٍ في حلقاتِ دردشة تبدو كأنها متكلفة، وبين شباب يتسكعون جيئة وذهاباً، وبين أطفال يمرقون كالجِداء يتصايحون ما بين المجموعات، في مشهد استثنائي في زمن القرية وجغرافيتها، لا يَخفى على مراقبه طابع القلق والتوتر الشبيه بقلق متتبعي ركلات الجزاء الترجيحية، البادي في اضطراب عصافير عيونهم واستشرافها إلى حيث اللاندروفر، غير مطيقين أدنى انحراف لها نحو الطريق العام، لتعود من حيث أتت بسبب عطل في الآلة، أو لخرقٍ في إطار، لتؤجل الزيارة إلى أجل غير مسمى، أو ليتأخر موعد العرض بسبب أن أحدهم يرغب في شراء علبة دخان من الدكاكين في آخر القرية، وهو الأمر الذي حدث غير مرة فأثار الحنق على فيوري فأنقص من شعبيته عند معجبيه.


على أنْ لا بلوغ اللاندروفر الساحةَ ولا إقرارُها في النقطة المناسبة للعرض يغنيان من القلق شيئاً، طالما حميد فيوري لا يزال غيرَ مدّخر جهداً ـ وهو واقف على ظهر اللاندروفر ـ في التأكيد على أنْ لن يُسمح ببدء العرض إلا بعد صلاة المغرب بوقت كاف، مدعوماً بلباقة طقم السينما الذين يروحون نازلين صاعدين من باب إلى باب، أو دائرين حول الآلة متحسّسين أقراصَها وشريطها، وبين هذا وذاك يعلنون مرة إثر أخرى لكل متعجل بأن العرض هاهو يبدأ الآن.


ومع ذلك فإن بعض الجمهور المحتشد للفرجة، ينتظرون ملتذين بعلمهم أن ما سيأذن فعلاً بانطلاق العرض حدث مختلف...؟ هو أن ينفتح الباب الخشبي الضخم العالي للحوش للماني، تخرج كثلوم في طقس من التنكريّة في "جَرْد"، تتجه إلى بيت الجيران المقابل، ليتسنى لها من هناك مشاركةُ حميد فيوري متعة متابعة تفاصيل الفيلم، ينغلق بابُ الجيران وراء الجمع المتلفّتِ طرَفٌ منه، ينفتح شباك حجرةٍ تنطفئ أنوارُها، يرتعش مستطيل السينما الفضي على الجدار المرقش، تنطلق الصيحات والصفير.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة