الخميس، أبريل 08، 2010

عودة حكيم




منذ البداية كان بين الحيّ الصغير الذي فيه بيت حكيم وبين بقية أحياءِ القرية الكبيرة، حيث بيوت أصدقائه طريقٌ عام، طريق له رائحة القطران والزيوت والمطاط، ، وكان دائماً على حكيم ـ لكي يكون مع الأصدقاء ـ بعد أن يطمئنّ على أن والده خارج البيت ويؤمّن على تحذيرات أمه، عبورُ تلك الأمتار السوداء المرقشة برماديّةِ ريش ِعصافير الدوري التي تسحقها كلّ صباح عجلاتُ السيارات .

لكنّ الذي لم يخطر لحكيم ولا للأصدقاءِ ببال ، هو أنّ طولَ الطريق وليس عرضها هو ما سيحول بينهم، ففي قيلولةِ يوم ثامنٍ، يوم ٍ كأنما في غير فصله كان أهل حكيم يُخرجون أشياءَهم من البيت باكينَ ضاحكين وهم يخْصِفون عليهم ُمِن ورق الذكريات، حتى كان ـ بعد زمن ٍطال ـ البيتُ وأهله وأثاثه على ظهر سيارة غادرت من مدخل القرية، إلى قرية بعيدة ، مسافة سبع وسبعين أغنية حزينة، قرية خَيّل إلينا أن لا عصافير فيها، حيث دراجاتنا لا تصل وحمام حكيم لا يعود.


ذات يوم وكنت أراود لحناً أشجاني واستدرجني حتى ، انتهت بي طريقي عند عتبة بيت حكيم ، في زركشة ظلِّ وضوءِ عريشة العنب، فوجدت عنده نصفَ اللحن ونصفَ الشجن:

ـ صح النوم تي را، صح النوم تي را.

ـ صح النوم يااحبيّب، موش هك اللحن راه.
ـ باهي ! كيف ؟ .

ـ صح النوم تي را، صح النوم تي رارا .

ـ شن اسمك ؟.

ـ حكيم ، وأنت ؟.

ـ موسى .

وبهذين الاسمين فقط بلا لقب ولا نسب صرنا صديقين، كان عصراً وكانت أجنحة الحمام بروقاً فوق أسطح البيت العالي على التبة رهنَ انهمار خيوط الشمس الصفراء في السحب، وكان هذا فقط المشهدُ الخارجيّ .

أما داخل البيت فهناك العمة سالمة والدة حكيم ، التي كانت في تلك اللحظات من كلّ يوم ، تنهضُ من إغفاءة ما بعد الظهر ـ كما ألِفتُ بعد أن توطدت بيني وبين حكيم الصداقة ـ وبالضبط عندما يمسّ قرصُ الشمس ـ المنفلتُ عبرَ أوراق العريشة فعبرَ الشّباك ـ المرآة َوسط السقيفة ، لتعِدَّ شايَ العصرية الذي تجمَعُ حواليه بلا نداء أهلَ البيت مثلَ علب السكرية، وتذوّبَ فيه من سُكّرِ ابتسامةٍ مدسوسةٍ في ملامح وجهها ، و تنعنعَه بوشم ٍفي جبينها الأصفر.

ذلك اليوم أطلّت من الباب ونادتْ:

ـ حكيم، يا حكيم، أنت وين يا ولد ؟، ما تريدشي تشرب شاهي ولاّ كي دوتك ؟ .

ثم عندما رأتني ضحكتْ ضحكة اعتذار وأضافت:

ـ و إلاّ عندك ضيف، شنو حالك يا باتي، و أنت يا بو طواله ما تقول شي عندي ضيف .

ودخلنا يتقدمني حكيم حتى باب المربوعة، وفي انتظاره، وبين نثار من الأوراق والأقلام والخطاطات، وقفت إلى الجدار أتأمل صورة جمعت رجلاً ببدلة إفرنجية و شنة ، والحاج مجحود والدَ حكيم الكهلَ النحيف ببدلة الشرطة التي ألفنا رؤيته بها يومياً في ذهابه وإيابه إلى المركز ، بهدوءٍ وسكينة، والذي كانت نصف إيماءة من رأسه ونصفُ إشارة بسبّابته ، حين تمسُّ خطواته حدَّ ملعبنا ، كفيلتين بحرمان حكيم من المباراة ، وبثِّ شيءٍ من الشجن في أرواحنا ونحن نراقبه حتى يقطع الطريق إلى الضفة الأخرى، باستثناءِ مساءِ الخميس حيث أن غداً دائما جمعة فلا مدرسة ثمة، فيسمحُ الوالدُ لابنه باللعب، فنحسّ بأنّ الملعب يبدو أكبر وأوسع وأعلى، لأن حكيم الولد العابثَ بالكرة الشغوفَ بملاحقتها حتى وهي خارج المستطيل الترابيّ ، على حافة الطريق أو عند عتبات البيوت ، استطاع أن يكون معنا.

جاءَ حكيم بالشاي وحط ّالسفرة بحركة نادل:

ـ تفضل يا موسَـزْ .

ـ زاد فضلك .... الشاهي فيه تيه صاح ؟. تساءلت ، فقال :

ـ لا تفاح .

ضحكت : ـ حلوه هذي !

رد حكيم :

ـ شن اللي حلوه ؟ الشاهي ؟ .

ـ لا التفاح اللي فالشاهي .

ـ والله صح .

ـ استغفر ربك يا راجل، وما تحلفش بالله بالبصارة .

ـ والله العظيم ما نبصر، التفاح فيه شاهي ، قصدي الشاهي فيه تفاح ، ويكون في علمك إنـّا ما عمرنا شربنا شاهي إلا بالتفاح .

ثم هبّ إلى عتبة الباب وراح يصيح منادياً عمتي سالمة وأنا ألحّ عليه أن لا داعي لذلك حتى وصلت فقال لها :

ـ النبي يمّي الشاهي اللي توا ما فيها تفاح ؟ .

وعندما أجابت بنعم ، وبأن لا أمر يدعو إلى كل ذلك الصياح، التفت إلىّ بعينين ضاحكتين بمكر وتهكم عرفته فيه فيما بعد وقال:

ـ قول لي حتى الحاجة تكذب هي يا سي .

فما كان من عمتي سالمة إلا أن تضيف ما لم يكن في حسباني :

ـ لا والله هذي خير عيد . ما زالت غير هالتالية، تشرب شاهينا واتكذب فينا .

ثم اشارت بسبابتها إلى العتبة وأضافت :

ـ نلقاني يا وليدي أني نقدتْ علي صاحبك من عند جيته بسبّاط أمه، وأنظر أنظر يا حكيم ! ما أكبر السباط !، هله هله هله يا لطيف يا لطيف، والكرعين اللي هذا سباطهن أيش شكلهن الدعوة ؟ ...

كل هذا وحكيم يقهقه ويتلوّى حينا ثم ينحني على كراس ليخط ما مرّ من كلمات : سباط . تفاح .. شاي .. تيه. يا لطيف ...

ولم أملك ما أقول إذ فوجئت بذلك السيل من الضيافة والمزاح معاً في اللقاء الأول.

في السنة الأولى لانتقال حكيم من قريتنا قمنا ببعض الزيارات له ، وكانت تتحول بمجرد الوصول إلى بيتهم إلى عملية عودة به معنا إلى القرية، وقد يسّرَها لنا سائقو الشاحنات الذين كانوا يُبدون تعاطفاً مع تلويحاتنا على جانب الطريق دون سواهم ، في آخر مرة من تلك المرات طفنا به على بيوت الأصدقاء، وحين مررنا على بيت حميد دعاه ليسلم على الحاج محمد، الذي قابل ترحيب حكيم بقوله:

ـ وأنت كيف جيت ؟ ومع من جيت ؟، وقايل الهلك ولا مانك قايل الهم ؟

فأجاب حميد بالنيابة :

ـ جا تشيير عالطريق . فقال الحاج :

ـ لا لا لا لا لا، هذي ما عادش اديرها .

ولم يفعلها حكيم بعدها أبدا، إلا عام 2000، العام الذي كان بعيداً كالنجوم ، عندما جمعتنا الطفولة التي صارت أبعدَ من النجوم والتي فرّقتنا، حيث عاد إلينا الولد حكيم كهلاً والداً مهندساً، مهتدياً ببوصلة في قلبه ، أو بخارطة في كفه، سالكاً الدرب الأوّل المهملَ إلى القرية، تتقدمه رائحة الزعتر الذي لا يزال رطباً ندياً ، أنا عرفته ، وذرى شجرٍ راوغته الطريق الجديدة ، ولم تعد تستظلُّ به البيوتُ الحديثة ، كان معه صورة كحليّة أسود وأبيض مدرسيّة ، ضمّتنا أنا وهو ورفاقَ الابتدائية ، كنا باسمين بأعيننا ابتسامة تثير حزناً أو حناناً غامضاً ، استطعنا أن نميّز الجميع داخل الكرت ، بمن فيهم البنات الأربع ، والمدرسين العرب ، لكننا لم نذكر كيف تهيّأنا للصورة، وكيف انفضضنا عن المصور.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة