السبت، يوليو 24، 2010

مشكلة الخبزة









كان المرتضي قد فرغ لتوّه من شجار ساخن مع أحد المتعاطفين مع أصحاب الدكاكين في قضية الخبزة، ولقد تركه مثل كوم عجين بلا ملح ولا خميرة قاب قوسين أو أدني من قطـّاعة الحطب، وإذ ظن المرتضي أن الرجل مرسل إليه بأمر دبّر بفجر؛ فقد واصل طريقه بمشية تحدٍ وتحديجات استفزاز، شاقاً السوق وهو لايزال يلتقط أنفاسه، حينما اعترضه ثانٍ، وبادره بالقول:

- أنت كنك يا كوشة يا لئيم ؟ أيش تحساب روحك نين تعرض إلسيارة الخبزه، ولاّ تبينا انكملوا عمارنا انرمرموا في خبزتك المحمضة!.

فردّ المرتضي وهو يتقدم باحتراس فهد:

- ايش حسك قلت ؟ .

ولم تلتئم شفتا الرجل إلا على لكمة عاجله بها المرتضي كلسعة تحت فكه، رفعت جسده الضئيل النحيل شيئاً عن الرصيف، فارتمى كقشرة موزة على أحد كراسي المقهى خلفه، وتقدم المرتضي وتطلع بنصف جذعه في المقهى وصاح:

- أيه يا !؛ أنت يا شنابو!؟ .

فأجاب القهواجي: - أيوا .

- تعال هن، اقرب جاي، اتحق في هالمودير اللي عالكرسي هذا؟ .

- اسم الله الكريم وهذا كنه ؟ .

- ما كان بك سو، لما يوعى عطيه وحده سيناليكو ليمون؛ علي حسابي.

- حاضر غير إنشالله يوعى.

ثم تقدم المرتضي في وادي السوق الذي صمتت وسكنت ضفتاه حتى كاد الزبائن يسمعون ارتعاش العلب والزجاجات على الأرفف.

هذه هي التفاصيل التي كادت تنتهي إلى أن تكون حقيقية، رغم عدم حدوثها في الواقع، وذلك بفعل هوى الحكائين والمحكي لهم في جعلها قصيصة هزلية قصيرة، كلما طاب لهم أن يستعيدوا سيرة مشكلة الخبزة في القرية أوائل الستينيات؛ على هامش كل سيرة مشكلة جديدة للخبزة، قلت كادت هذه الحكاية أن تكون حقيقية لو لم تزاحمها روايات صغيرة أخرى، طفحت على قشرة الحكاية الأم، التي علينا أن نحكيها لكم من حرف الحاء.

فذات يوم صار للقرية مخبز؛ أو صار مخبز للقرية، فسرح في سمائها صباح ذلك اليوم مع الضباب ونتف السحاب وأسراب الحمام، دخان آخر غير دخان التنانير المسائي الكحلي الثقيل، دخان صباحي مشبع ببخار الماء ومشوب بمزيج من رائحة الكيروسين والخبز الأبيض، وزيد على فروض التلاميذ فرض آخر؛ غير غسل أعينهم بالصابون والنفخ في أكفهم المتجمدة وهم في طريقهم إلى المدرسة، هو إحضار الخبز الساخن لا من الدكاكين وسط القرية، إنما من المبنى الأشبه بمنزل، الذي أريد له أن يكون مخبزاً فكان، فالتقت عند عتبته عشرات الدروب الترابية النحيلة من كل بيت، بعد أن بدا المبنى نفسه كالرغيف؛ بانتفاخ جدرانه وانسيابها واحمرارها الطيني على ابيضاضها الجيري، وبدفئه كالمح من الداخل، حيث الجسم الرصاصي اللون كخزانة حديدية كبيرة، ذو السّرّة ذاتِ العين الحمئة التي قد يصادف وصولك فتحها والتهامها الجهنمي لقطع الحطب ذات اللحاء البني، الذي تأخذ ذوائبه في الارتعاش قبيل أن تسقط في السعير الوردي ذي الأهداب البيضاء للرماد الأول في جنب جسم الكوشة ، وهو العمل الذي كان يبدو وكأنه غير ذي علاقة بصناعة الخبز، وبمنأى تام عما يتم في الداخل، وراء وأمام النافذة المستطيلة - على حدّ سواء - من حيث تمدّ إثرَ العجن حاملات الأرغفة، ليستلمها العامل الوحيد المرئي والمرائي الزبائنَ بحركته الشبيهة بحركة الحلاق حول أول رأس، وهو يجرح صفحات أقراص العجين بموسى حلاقة يعيدها بين حين وآخر إلى ما بين أسنانه؛ ويداويها فوراً بإبهامه برشة من عرق جبينه؛ حتى أن صيحاته المكتومة الآمرة للعجانين تخرج مع ذلك حادة جدا: - (متيلّه يا اولاد الإيه، هوّ احنا هنعطل الأفندية على مكاتبهم يعني، جاتكو نيلة منيلة بستين نيلة عالنهار اللي موش فايت ده).

غير أن المخبز الذي ابتدأ مخبزاً للقرية صار يتحول تحول العجين في الفرن إلى أن يسمى كوشة المرتضي؛ الذي صار يسمى المرتضي الكواش، وعائلته إلى عيت الكواش غيبة وعيت كوشة سخرية، وفوق ذلك لم يكن إطلاق الاسم من قبيل إعطاء الخبز للخباز، إنما لمجرد التهيئة لرصف صفوف الانتقادات التي صارت تنضج وتتالى تترى فيما بعد، على طعم الرغيف. وشكل الرغيف . وما في بطن الرغيف من مفاجأت؛ ليس أولها (نسبة الدّهم) أي مقدار حشرات الدهيمه في الفردة الواحدة؛ وليس آخرها ميدالية مفاتيح المخبز .

وما كانت تلك التعليقات الساخرة التي شارك فيها كل أهل القرية من شباب وشيوخ وعجائز وتلاميذ مدارس، لتصل إلى مسامع المرتضي، كيف وهو الذي كثيراً ما يكون هناك بعيداً عن القرية، في الدواخل يلاحق أوحال وعجاج أسطوله من ماكينات الحرث شتاءً، أو ماكينات الحصاد صيفاً، أو في أعماق الصحراء يواجه سيوف الرمال وراء الطيور "الحرار"، أو غارقاً إلى رقبته في حفر الروماتيزم في أقاصي الواحات، كما أنها لم تكن لتثير فيه شيئاً من الانتباه؛ حتى وهو في القرية؛ إذ غالباً ما يكون في إحدى غمرتين، إما غمرة الإجرآت والاستعدادات و الترتيبات لحفل توديعه وهو يتوجه إلى بيت الله الحرام، أو غمرة المراسم والولائم والتشطيبات من احتفالات عودته من سابع حج مبرور.

وقبل وبعد كل مرة من مرات ذهابه أو غيابه أو إيابه الكثيرة والطويلة، وبينما يكون أصحاب الدكاكين قد أبرم واحدٌ آخر منهم - وما أكثرهم أمام الكواش الوحيد - عقداً مع سائق آخر من المدينة لجلب الخبز إلى القرية، لا يكون أمام المرتضي الكواش إلا أن يتخذ نفس الإجراء؛ بأن يعترض سيارة الخبز عند مفترق الطرق أمام المخبز، ليقنعه أو ينذره أو يتبرأ منه براءة أخيرة؛ من أن تـُرى سيارته في قرية بها مبنى علم ترصّع جبينه لوحة براقة؛ تصيح لكل مقيم أو عابر بأن (مشا الله . والله وكبر. هذا فظلو ربي . نحنو خيرن من عرب واجدة. عين الحسود فيها عود. مخبز المرتضي الحديث) .

وهي اللعبة من الكرّ والفرّ بين المرتضي الكوّاش وأصحاب الدكاكين طالت؛ لكنها لم تدم، ففي يوم من الأيام تقدم لهذه المهمة سائق مختلف تماماً؛ فهو لا إلى أولئك الذين ضعفوا أمام المرتضي الكوّاش فكفوا عن جلب الخبز من المدينة، ولا هو إلى أولئك الذين استدرجهم عنادهم إلى مركز شرطة القرية حيث دحضتهم حجة وجود مخبز للقرية، سائق طويل عريض ذو شاربين كثين وذراعين مفتولين موشمين، قال الناس أنه أرهب المرتضي الكواش دون أن ينبس له بكلمة، قابلها المرتضي بما هو أقل من الصمت؛ إذ لم يستطع رفع مجرد نظرة إلى السيارة وهي تعبر من أمام مخبزه مضببة الزجاج من بخار ماء خبز المدينة، غير أن آخرين قالوا أن المرتضي أكثر فروسية من أن يرهبه سوّاق؛ فيما فريق ثالث يدعي أنه قد تم اتفاق بين الرجلين يروونه على هذا النحو:

- أسمع يا بوصاحب . نا ماني شي ولد حرام . ولا رزقي رزق حرام نين انحط محة كبدي في كوشة ونقعد انتفرج علي سيارتك جاية ماشية بالخبزة من قدامي كل صبح . ولا نا اللي نريد نقطع رزق جابه لك ربك . ريت يا سيدي . خلينا انديرو راي .

- ها . شنو الراي ياحاج ؟ .

- أنت جاي لها النقطة الخاربة يومياً وسيارتك امثقله بالعبو.انظني ما تكره الجية ابها فاضية . وتاخذ التفتوفة اللي تاخذ فيها.

- فاضية ؟.

- إيوا يا سي . تعال قبل الوقت اللي تجي فيه ابنص ساعة . وابرم من هن ودرس قدّام الباب الوراني . وعبي سيارتك . وبعدها خوذ لك برمة لا عند الجبانة. ورد وزع الخبزة عالدكاكين.

- لكن ..

- لا لكن لا شي، وحياتك ما فيه واحد في هالمنطقة المعفنة يشم ولاّ يستطعم، غير توكل على الله، وخلي عندك أثيقة في كلامي . اتفقنا؟.

- اتفقنا.

ومع هذا يبقى هناك من يقول بأن هذه الحكاية أيضاً غير صحيحة، فيبدو إنه إلى أن يتقن الخبازون في قريتنا صناعة الخبز، ستكون الرواية الحقيقية قد ظهرت.

الثلاثاء، يوليو 20، 2010

رفقة





حين تتبعني في طريقي إلى البيت



حبّي



يبللنا مطر واحدٌ



و معاً يظللنا شجر



وتنشر أنفاسنا نسمة



وتكثـّرُ مرّتـَـنا بركٌ تتلون .تحلو . تفيض . بصورتنا



وتغادر للعشب



فلا تمش دوني



وامضي أنا دون قلبي



ورائي!



لنرسم درباً



غداً



يسمونه شارع الحبّ



مثنى به العاشقون يمشون...

جنباً لجنب


ــــــــــ


ربيع 2010م

الثلاثاء، يوليو 13، 2010

دو يو سبيك إنجلش ؟

ليس غريباً من بومفتاح أن يفعل ذلك ، فالجندي والطالب وكبار السن ، هم عادة من يقف بسيارته ليقلهم معه في طريقه ، بل وأكثر بعداً وعمقاً وعوجاً من طريقه ، أما ذلك اليوم فقد نقل شخصاً مختلفاً ، كهلاً ذا بشرة بلون زواق (البرايمر) ، يرتدي سروالا وسورية بيضاوين فضفاضين ، كثيف الشعر و ناعمه ، أسود العينين ، كث الشاربين والحاجبين ، ليس لذلك الوصف الباكستاني الزيّ أو الهندي وقفَ ، بل لأن السيارة التي كانت أمام سيارته تخطت الكهل إلى فتى من القرية بقربه ، فرأى أنه من العيب أن يعامل الضيوف على هذا النحو ، وتراجع (إندياترو) إليه قليلا ، وقد أخذه ما يأخذه عادة من حمية و اهتزاز المتعاطفين ، ومدّ ذراعه وجذب (ماناويلاّ) الباب وقال :
ـ وِلْ كـَمْ ، تفضل صديق ، وِلْ كـَمْ .
بدت علامات البشر على وجه الرجل ، وردّ مع شيء من التردد قائلاً :
ـ ثانك يو صديك ، ثانك يو فري متش.
أعطى بو مفتاح السيارة (مارشة) أولى وانطلقت ، وقد طاب له أن يجرب إنجليزيته الإعدادية مع الرجل .
بعد وقت التقت نظراتهما فكررا نفس الكلمات فأتبعها بومفتاح بقوله :
ـ فرومّ وير مستر ؟ .
فأجاب الرجل :
ـ المساكن .
فقال بومفتاح مصححاً مبتسماً :
ـ لا . قصدي نو نو ، آي مين ذِ كانتري .
فقال الرجل :
ـ باكستان.
فقال بومفتاح :
ـ أوكي ، آي سِدْ ذات فيرست آي سَوْ يو ، صديك ! ، باكستان آر موسلمز.
فرد الرجل :
ـ فري جود . يو سبيك إنجلش .
فسُرّ بومفتاح لرأي الرجل ، وإن أحس أنه للتشجيع ، وشيء من الامتنان ، ورأى أن يوضح بإنجليزية تعرب عن نفسها ، ودون حرج من رجل لا ريب يجيدها ، وسيجد له عذراً :
: نـَـتْ فري متش ، آي ليرن إنجلش إن ذي ساكاندري سكول ، أباوت ثري يير ، ييرز! أقو ، بت آي فورجيت ، قصدي فورجوت إتْ .
فقال الرجل :
ـ أووو بروبليم !
فأكد بومفتاح :
ـ يس ، إتز أبيج بروبليم إن ذس تايم .
وردّ الرجل :
ـ يس . شووور .
إلا أن بو مفتاح لم ينس أن ينبه الرجل الغريب ، ويعتذر منه لضعف لغته الإنجليزية ، فقال بما لديه منها سائلا عن عمل الرجل :
ـ بليز إكسكيوز مي فور ماي لانقويج ، بَت ، وير إز يور جوب ؟ آي مين وير يو وورك ؟.
فقال الرجل :
ـ وات ؟.
ففكر بومفتاح :
( يا إمّنْ البوكستاني سمعه ثقيل ، ولاّ السيارة هي اللي قربعته واجدة ) ، فرفع صوته :
ـ آي مين آر يو أتيتشر؟ أور اكاربينتر؟ أور ادرايفر؟ أور افارمر؟ أور ... .
فقاطعه الرجل :
ـ درايفر. درايفر .
فقال بومفتاح مسروراً لصدى لغته أكثر من تلقيه المعلومة :
ـ أووو فري جود فري جود ، درايفر ، درايفر إن أكامباني ؟ .
فأجاب الرجل :
ـ يس كامباني .
فقال بو مفتاح :
ـ وِلْ ، كامباني ، بَتْ وتش كامباني ؟ .
فرد الرجل :
ـ أوكي كامباني .
فقال بومفتاح :
ـ آي نوْ ذات ، بت يو دونت ، أور ديدنت سَيَْ وتش كامباني)؟ .
لكن الرجل نظر إلى بومفتاح مبتسماً ابتسامة حرج وهزّ رأسه ، ورغم أنه خطر لبومفتاح أن الرجل ربما عاطل عن العمل ، أو يعمل في حرفة يستحي من ذكرها ، فيكذب عليه في ادعائه العمل في شركة من الشركات ، أو لا يريد لسبب ما أن يعطي عنوانه لأحد ، والغرباء لديهم أفكار غريبة ، إلا أنه أخذ يوضح له أكثر :
ـ وير إز يور كامباني ؟ أور وات إز يور كامباني ؟ .
وعندما لم يجبه تمادى في التوضيح بقصد طمأنة الرجل :
ـ آي ، فور مي ، فور إكزامبل ، ويرك إن ذا أير بورت ، آند يو إز ، يو آر درايفر، وير يو ويرك ، إن اسكووول ؟ إن بترول كامباني ؟ إن سوبر ماركت ؟ إن هوسبيتال ؟ .
لكن الرجل لم يجب أيضاً ، بل راح تلك المرة يدير ماناويلا النافذة ، فأحس بومفتاح أنه ربما أزعج الرجل ، فكرر له قولاً لم ينتبه إليه في البداية :
ـ يو سِدْ ذات يو آر موسلم صديك ؟ .
فقال الرجل بارتياح :
ـ يس موسلم .
فقال بومفتاح :
ـ ما شاء الله ، وي آر ابراذرز إن إسلام ، وت إز يور نيْم ؟ .
فبادر الرجل بإجابة فورية :
ـ ماي نيم إز أزيز .
فقال بومفتاح :
ـ عزيز ، أوكي ، يس عزيز أز مسلم نيم .
ثم أضاف بصوت أخفض :
ـ وهذي شتاوة يا باكستاني .
وقرر بعد تلك اللطيفة أن يترك الرجل ليرتاح قليلا من أسئلته ، غير أن الرجل بادر تلك المرة بنفسه بالقول :
ـ وات إز يور نيم ؟ .
فكان ذلك إشارة لبومفتاح بأن الرجل قد أستؤنس ، إثر علمه بديانة بومفتاح ، وطبيعة عمله فأجابه بسرور وبيسر أيضاً :
ـ ماي نيم إز يادم بومفتاح . يادم : واي ، آيْ ، دي ، إم . يادم إن ليبيا إز آدم إن أرابيك لانجويج ، يو نو ؟ .
فقال الرجل :
ـ يادم سوا سوا آدم .
فأكد بومفتاح بأسلوب ليبي بكلمة إنجليزية :
ـ أوكيييييييي .
ثم عاد إلى تماديه :
ـ دِدْ يو نَوْ وات إز ذا مينِنغ أوف موفتاح ؟ موفتاح إز أَ كِي .
وقهقه بومفتاح بمفرده وقتاً ، ثم تبعه الرجل بقهقهة أعلى وأطول وكانت أجمل لحظة في اللقاء ، وفي آخر ضحكته سأل الرجل :
ـ دو يو سبيك كلام باكستاني مستر بو موفتاح ؟ .
فقال بومفتاح :
ـ نو ، أ يآم سوري ، بَتْ لوكْ ، إن ليبيا ، وير صم بيبول سبيك إيتالي ، ذا بيج بيبول لايك ماي ماذر ، نو نو نو فاذر ، آند ماي جراند فاذر ، بيكوْز إيتالي واز إن ليبيا ون دَيْ ، لايك إنجلش أت باكستان ، آند ذا تيليان سِدْ تو ليبي بيبول : أراب لانجويج نو ، إيتليان لانجويج يَسْ ، أور إيتاليان بوليس كِلْ ذا بيبول ليبي ، هانج ذِم ، لايك أومر موكتار .
ثم نظر في عيني الرجل وسأله :
ـ يو نو أومر موكتار؟ .
فأجاب الرجل :
ـ ياس .
فواصل بومفتاح :
ـ سَوْ يو كان ليسِن متش متش متش متش ويردز باي إيتالي ، فور إكزامبل: شرياتوري. رادياتوري. كارباراتوري. كوشينيتي. مازاتوري. دومان. افريتشه. مارشه. جاللّوني. استاسيوني. كالشو تيرسو. ريجولي . اسكامبيا. اتشينما . إندياترو. افرينو. مارشا بادي ...
وقبل أن يضيف بومفتاح كلمة واحدة أخرى من القاموس الإيطاليبي فاجأه الرجل بقوله :
ـ آي وَهْ ياحاج ، الله يبارك فيك ويرحم ولديك ، ويشيلك من دار الهانه ، امسك افرينواتك ، او صبي لي عند هالمارشا بادي عندك ...

الأحد، يوليو 11، 2010

أول يوم في العمل












ما زلت أذكر تفاصيل ذلك اليوم الذي وجدتني – بخلاف المعتاد – مستيقظاً باكراً لأبدأ أول يوم جديد في حياتي ، أول يوم في عملي ، في مكتب بريد القرية ، وكنت أثناء إعدادي لملابسي وتناولي لإفطاري أغالب قلقاً من سؤال يلح عليّ منذ الليلة الفائتة : ضروري ساعي البريد يوزع الرسايل علي بشكليطة ؟ ، وهو ما خطر لي ساعة كنت أفرغ البيانات بعد تقديمي للطلب ، ورغم أنه لم يكن من عادتي أن أفتح فمي في الصباح إلا لقول كلمة وحيدة وبصعوبة هي (خير ) ، إلا أنني استفهمت من أخي ، و كـان يسـّوّي حزامه العسكري ، ويبدو أن اليوم لم يكن جديدا إلا عليّ ، فقد أجابني دون أن ينظر إليّ :
ـ وين نندري عليه ..
ثم بعصبية أقل :
ـ غير امسك في عملك ، مدني ..... .

كان شتاء قارساً ، تسوط فيه الرياح البريكات المترعة بماء مطر ليلةِ وفجرِ ذلك اليوم ، وتئـن في أسلاك الكهرباء ، وكان التلاميذُ والناس غير منتشرين ولا صاخبين كالعادة في الطريق ، بل يسيرون مثل جماعات البطريق متلاصقين يغالبون الرياح ، بينما يلوذ آخرون بالجدران في انتظار الحافلة ، وأبوابُ الدكاكين مواربة تزدحم مداخلها بالبضائع ، أما المخبز الذي لازحام أمامه ، فكانت مدخنته تتثاءب بدخان ثقيل ؛ ما إن يرتفع حتى يضطرب وتمزقه الرياح ، والأشجارُ تتلوى وتكاد تنقصف ، و العصافير تُجذب إليها كأنها هاوية ؛ وكنت أنا الوحيد الذي تدفعه الرياح إلى الأمام ، و يمكنني أن أتخيل الآن كيف كانت شعلة شعري الطويل على الموضة ، وأشرعة بنطلوني الواسع ، ولا شك أني كنت مشغولا بأحاديثَ ، افترضتُ و قدّرت أن الناس عند الجدران يديرونها حولي ( أهو عندك بولافي ماشي العمله) ، (اوْ هوْ عمله وين ؟) ( مو عمه كلّمْ عليه الجماعة ، او دبّروله في وظيفه فالبريد ) ، وكنت أهرب من هذه الخواطر التي تربك خطواتي إلى التشاغل بمراقبة السماء الرمادية والمباني والأشجار في مرايا الغدران كلما أمرّ بها ، حتى لاح لي من بعيد باب مكتب البريد مقفلاً ، فساورتني فكرة الرجوع و مواصلة النوم ، ثم فكرت أنهم لابدّ أقفلوه الباب بسبب العاصفة ، ثم لم أرَ أنه من التفاؤل النكوص في اليوم الأول .

عندما دفعت الباب وجدته محكماً ، درت وأنا أفرك يديّ من الحرج أكثر منه من البرد ، وأنظر حولي ، لكنّ طقطقة فوق رأسي نبّهتني ، طالعني وجه مدير المكتب من وراء زجاج نافذة عالية كثيراً ، وبعينيه خلف نظارته خلف الزجاج بدا وكأنه في صندوق للتعقيم ، أشار لي بأبهامه ، وهو يحاول التحدث بجانب فمه الذي حوّل عنه الغليون ، فهمت أنه يدعوني للدخول من الباب الخلفيّ ، عادت ملابسي إلى سكينتها فجأة وركدتْ تسريحتي ، ومثل محرك انقطع عنه التيار الكهربيّ كُتمت الرياحُ في لحظة ، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي ذلك المدخل ؛ أنا المقيم بالقرية منذ ثلاثين سنة ، نفحتني رائحةٌ هي مزيج من بول ٍ وسجائر وشاي بولغَ في غليه ، وبين بابين أحدهما أسوأ حالاً من الآخر رفعت صوتي بصباح الخير ، فجاءتني صيحة من وراء الباب المرصّع بآثار مسامير عشرات الرتاجات والأقفال ، دفعته بأقوى مما استحمل ، فصاح أحدهم :
ـ سَكّرْ سّـكّرْ سـَكّر .
وما كان سوى المدير على قمة سلّمٍ ألمونيوم ، حيّيّته:
ـ صباح الخير .
لكنه واصل صياحه:
ـ سكّر الباب يا راجل تيّار. صقع . سَـكّر .
أقفلت الباب ، ولست أدري لماذا كنت مصرّا على التحية فكررتها ، فردّ دون أن ينظر إليّ وهو يُحكم سـدّ النافذة الزجاجية المخلوعة :
ـ خير خير ليش موش خير .
ثم أضاف بتنغيم :
ـ آهه ْ! . الروشن اللي تجيك منه الريح سده واستريح ، حتـّى الروشن ! . موش امغير الباب .
ثم وهو يلتفت من على قمةالسلم كأنما بتهكم :
ـ أهـْـلَـنْ .
لم أعرف بماذا أفكر أو أقول أو أفعل ، أحسست أن حالة الحجرة الضيّقة ، بخزانتها الحديدية المخلوعة الأبواب ؛ والكراسي المكسرة والمقلوبة والخربشات على الجدران والطاولة وجرادل الزّواق وتسلخات جلد المكتب ، كلَها ، تنظر إليّ معاً مرة واحدة ، لم أستطع ترتيب خواطري وتقسيمها بين الحجرة والمدير والأفكار المسبقة وخاصة دراجة ساعي البريد ، فقط ، قررت أني يجب أن أرتب ذلك المخزن ، لكن صوت المدير جاء وهو ينزل بحذرٍ السلمَ درجة فدرجة :
ـ والنبّي كذا نزّل هالشاهي عندك ؛ ما اطبخت إلا واجد ، وشوف السكر ، بلكي شوىّ .
وجرّ كرسيّا بلاستيكياً أعرجاً وقال:
ـ كرّ حكيّة هالنيدو عندك ، وقعمز، آيوه ، تريّح وحياة سيدك .
ثم اختصر زمن حيرتي أمام أكواب الشاي بقوله :
ـ صبّ ؛ صب ياراجل حتى بلا مصمصه ؛ صبْ صبْ ؛ صبْ وعدّي .
ثم راح يرشف الشاي ساهمَ الطرف ، حتى شعرت بأن الرجل لا يشعر بوجودي ، وظل كذلك فترة ، إلى أن سمعتُ صوت قادم ، فقال وهو يشير إلىّ بذيل الغليون:
ـ أسمع أسمع ، أكرسْ وراء هالدولاب) .
وحين لاحظ حيرتي أصرّ :
ـ تي اكرس ياراجل ، اكرس بس ، غير اكرس وما تطلع نين نقول لك .
ومن وراء الخزانة عرفت أن القادم هو الحاج اكريّم ؛ صاحبُ الدراجة التي نراها دائماً أمام مكتب البريد ، تناولا حالة الطقس العاصف ومقتطفات أخرى من أخبار القرية ، ثم سأل المدير:
ـ فيه العيّل هذا اللي كلمنا عليه الأستاذ حامد ...
فأجاب الحاج اكريم بسؤال :
آ إيوهْ عرفته ؛ كنـّهْ؟ .
فأكمل المدير:
والنبي أيش رايك فيه ياحاج اكريم؟ .
فأجاب الحاج :
ـ هالشكل هذا ما عندش فيه راي ، خسارة لو مو خاله حامد .
فقال المدير:
ـ أوْ هوْ كنـّه ؟.
فردّ الحاج:
ـ ما ريت جميمته اللي كي جميمة البنيّه؟ .
فقال المدير :
ـ وانت مالك ومال جمته ؟ .
فردّ الحاج اكريم بانفعال:
ـ تي والله ما ودّك الاّ تمسكه وتجلمه .
فقهقه المدير ، وقهقه الحاج انسجاماً مع ذلك ، لكنّ المدير قطع ضحكته من منتصفها وقال:
ـ و الله يا سي كريّم هذا ما جلموه هله ، تريد اتجلمه انت !.
فصاح الشيخ:
ـ تي عليّ اليمين عليّ اليمين لو ايجي و اتجيبلي جلم انجلمه ، ونكان ما جلمته عليّ ابحولي ابقشاطته.
فصاح المدير ممطـّطاً كلماته:
ـ ابعاااااااااااء ؛ خلاااااص ، اظهر وبان عليك الأمان .
وانتفض الحاج كريّم عندما رءآني ، حتى كادت عيناه تفرّان من محجريهما ، بينما راح المدير يغرق في نوبة من ضحك حقيقيّ شهيقاً فقط .


وعلى هذا النحو من العمل مضت سنوات العمل.

الثلاثاء، يوليو 06، 2010

دخان




لدى أستاذ يادم عداوة للتدخين لا يمكن تفسيرها فقط بكراهة التدخين أو حرمته، فكم من المعلمين يوصون أو يعاقبون تلاميذهم على التدخين إذا وجدوهم متلبسين بذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للوالدين والأخوة الكبار والأعمام وسواهم، أما بالنسبة للأستاذ يادم فالمسألة أبعد من ذلك، فهو يمر مثلاً على طابور الصباح وطابور ما بعد الاستراحة يتشمم أفواه التلاميذ وينظر في أسنانهم وأظافرهم وأناملهم، أو يختبر هذه بغطسها في سطل ماء، فإن رأى أثر صفرة عليها، أنزل العقوبة بهذه البيّنة، بل إنه يعرف أنواع السجاير التي يدخنها زملاؤه من المعلمين والفراشين.
فالأستاذ صالح يدخن الرياضي والحاج سالم يدخن الجفارة والمدير يدخن السفير وهكذا، فأي عقب سيجارة تقع عليه عينه الحادة في أي زاوية من زوايا المدرسة، لا بد وأن يتفحصه عسى أن يكون غريباً، فيفتح تحقيقاً دقيقاً في ذلك حتى ينتهي إلى يقين، بل إنه يفتن التلاميذ ويختبرهم بأن يلقي في ممر من الممرات عقباً، ويكمن وراء الأبواب مراقباً، عسى أن ينحني أحدهم عليه، أو يقترب منه، ولكنها خطة صارت مع الأيام وبفضل اقترانها بالعقوبات الشديدة، معروفة مجتنبة مشتبه فيها، بل إن أحد التلاميذ إذا أراد الكيد بزميله، فما عليه إلا أن يدس عقباً في حقيبته أو جيبه، ويبلغ عنه أستاذ الدخان، أستاذ يادم.


وكان للأستاذ يادم نص كلمة واحد في كل اجتماع لأولياء أمور التلاميذ:ـ


(أيها لخوه الآباء وأولياء الأمور التلاميذ السلامو عليكم ورحمة الله وبركاتو .. نذَّكَر ونا عيّل في سنة ثالثة ابتدائي، والحالة حالة شتا وصقع، لكن ياجماعة كان الصقع دافي، انظر مالصغر، انظر من سماحة الوقت، الغايتو كان جاينا خالي رافع، مراكم الا تعرفوه الله يرحمه ويسامحه! كان ادخاخني تايحه، سبسي في جرة سبسي، نين العرب امسميينه البابور مالدخاخين، مات عالتسعين وهو ايدخن، ويمضغ وينفنف، وتو هناك عرب ايقولو لك الدخان ايسبب الوفاة، لا إله إلا الله محمد رسول الله، العمار فيد الله يا اسلام، الحصيلو كنت قاعد احذاه هو وباتي الله يرحمه ويسامحه فالمربوعه، وما شر من خالي فالدخان إلا باتي، الله يرحمهم ويسامحهم، هاذك الليلة خلوا مربوعتنا فوق السحاب مالدخاخين، قول تمددوا عالفراشات والسباسي ما زالن في أفواههم، ونا انتفرج عالتلفزيون، نرجا في اغنية أم كثلوم امتى اتفض، بيش نحضر السهرة، وهو باتي ايطوح سبسي ودّان كامل إلا حاجة ساهله، وما يطب هاذك السبيسي إلا قدامي، وحط يا رحيمته العباه علي وجهه، هو حط العباه علي وجهه وخيّكم ينط اتقول قط ويلقط السبسي، واللي مانش فاطنلها إن العملية كانت موجرد كمين من باتي، ثاريته ايبصكل فيّ من تحت العباه، كان امنقد عليّ إني اندخن وموش متيكّد، والا قيسّا العزوز قايلتله عالدوّة، لا جل هي كم مرة لاقية في جيوب سراويلي عقابات، نا ما حطيت السبسي في فمي زين نين حياة باتي ينفض العباه من علي وجهه ويقول لي: (كما كنت!) إي والله (كما كنت!) مو عَيْد هو كمّل عمره فالعسكرية، ويصبي ويهد علي، وهذي اتصيدك، وهذي اتخطاك، شي ابواني، وشي كالشوات، وشي روسيات، وشي كفوف، وخيكم طالق لعياطات، وينما ادهش ياخذ وينزل سير البدلة العسكرية يريد ينزل فيّ بيه، رميت علي خالي، ويا نازل مالعلة يا طايح في سلاّل القلوب، اينوض خالي ويشيلني شيل، لاعند التركينه اللي فيها العقاب، وياخذه ويبقى ايلذّع في بيه علي شواربي وخشمي، وحتى ذاني، إي والله، شور أيش ذاني؟ ما نيش عارف، قيسه إيريدني نكره بنة الدخان وطعمته، وحتى طاريّه، أهن هاللطاطيع هذين هاللي اتحقو فيهن علي ذاني راكم تحسابوهن كَيّ والا خرت، لا والله إلا من تلذيع خالي لي هاذك الليلة اللي انموت ولا ننساها، ابهاذك السبسي اللي كان آخر سبسي انحطه بين شواربي).


وكان بعض أولياء الأمور بمن فيهم المدخنون يقرونه على ما توحي به الحكاية ويؤيدونه ويدعون لأبيه ولخاله بالرحمة والمغفرة، وأول بند يناقشونه في مجلس الآباء تحت سحب دخان المدخنين منهم، هو بند آفة التدخين، ويعبق مجلسهم بتقريع أنفسهم آباء ومعلمين مدخنين، وبأسفِهم على أن لم يجدوا من يحول بينهم وبينه ولو ببتر السبابة أو الوسطى، ثم يختمون مجلسهم بأن لا هوادة مع الأولاد والتلاميذ في هذا الشأن أبداً، موصين الأستاذ يادم خاصة بأن له مطلق اليدين في العقوبة.


ولا توصي يتيماً ببكاء، فالأستاذ يادم بغير حاجة إلى أن يوصيه أحد، والحق يقال فإنه قد قضى على دابر الدخان في المدرسة، حتى ولو كان علبة علكة أو شوكولاطة على شكل سجائر تباع في المقصف المدرسي، كما كانت له أعمال جبارة في هذا الشأن، منها قيادة حملات على أعقاب السجائر على حواف الطرقات العامة والأرصفة في سوق القرية، وإقناع خطيب الجمعة مرات ومرات لتناول آفة التدخين.


ومما يروى من قصص على شدة حرصه، في تتبع المدخنين أنه ذات يوم من أيام أول الأعوام الدراسية، كانت قد وصلت على ظهر فيات شاحنة بالجرار حمولة / طلبية مقاعد دراسية، انهمك التلاميذ في إنزالها تحت إشراف الأستاذ يادم، الذي لم يلهه العمل عن همه الأول: مكافحة الدخان، حيث تمكن من شم رائحة دخان غريب، ما هو بدخان أي من أفراد طاقم المدرسة، فاستطلع المكان، فعثر على ولد قاعدٍ متكئاً على عجلة الشاحنة يدخن، فجثم عليه، وصاح ببعض التلاميذ فأمكنوه منه في محله، وشرع في إنزال الفلقة به، ولم يكن الولد سوى الأوتانتي / مساعد سائق الشاحنة.

المشاركات الشائعة