الأحد، يوليو 11، 2010

أول يوم في العمل












ما زلت أذكر تفاصيل ذلك اليوم الذي وجدتني – بخلاف المعتاد – مستيقظاً باكراً لأبدأ أول يوم جديد في حياتي ، أول يوم في عملي ، في مكتب بريد القرية ، وكنت أثناء إعدادي لملابسي وتناولي لإفطاري أغالب قلقاً من سؤال يلح عليّ منذ الليلة الفائتة : ضروري ساعي البريد يوزع الرسايل علي بشكليطة ؟ ، وهو ما خطر لي ساعة كنت أفرغ البيانات بعد تقديمي للطلب ، ورغم أنه لم يكن من عادتي أن أفتح فمي في الصباح إلا لقول كلمة وحيدة وبصعوبة هي (خير ) ، إلا أنني استفهمت من أخي ، و كـان يسـّوّي حزامه العسكري ، ويبدو أن اليوم لم يكن جديدا إلا عليّ ، فقد أجابني دون أن ينظر إليّ :
ـ وين نندري عليه ..
ثم بعصبية أقل :
ـ غير امسك في عملك ، مدني ..... .

كان شتاء قارساً ، تسوط فيه الرياح البريكات المترعة بماء مطر ليلةِ وفجرِ ذلك اليوم ، وتئـن في أسلاك الكهرباء ، وكان التلاميذُ والناس غير منتشرين ولا صاخبين كالعادة في الطريق ، بل يسيرون مثل جماعات البطريق متلاصقين يغالبون الرياح ، بينما يلوذ آخرون بالجدران في انتظار الحافلة ، وأبوابُ الدكاكين مواربة تزدحم مداخلها بالبضائع ، أما المخبز الذي لازحام أمامه ، فكانت مدخنته تتثاءب بدخان ثقيل ؛ ما إن يرتفع حتى يضطرب وتمزقه الرياح ، والأشجارُ تتلوى وتكاد تنقصف ، و العصافير تُجذب إليها كأنها هاوية ؛ وكنت أنا الوحيد الذي تدفعه الرياح إلى الأمام ، و يمكنني أن أتخيل الآن كيف كانت شعلة شعري الطويل على الموضة ، وأشرعة بنطلوني الواسع ، ولا شك أني كنت مشغولا بأحاديثَ ، افترضتُ و قدّرت أن الناس عند الجدران يديرونها حولي ( أهو عندك بولافي ماشي العمله) ، (اوْ هوْ عمله وين ؟) ( مو عمه كلّمْ عليه الجماعة ، او دبّروله في وظيفه فالبريد ) ، وكنت أهرب من هذه الخواطر التي تربك خطواتي إلى التشاغل بمراقبة السماء الرمادية والمباني والأشجار في مرايا الغدران كلما أمرّ بها ، حتى لاح لي من بعيد باب مكتب البريد مقفلاً ، فساورتني فكرة الرجوع و مواصلة النوم ، ثم فكرت أنهم لابدّ أقفلوه الباب بسبب العاصفة ، ثم لم أرَ أنه من التفاؤل النكوص في اليوم الأول .

عندما دفعت الباب وجدته محكماً ، درت وأنا أفرك يديّ من الحرج أكثر منه من البرد ، وأنظر حولي ، لكنّ طقطقة فوق رأسي نبّهتني ، طالعني وجه مدير المكتب من وراء زجاج نافذة عالية كثيراً ، وبعينيه خلف نظارته خلف الزجاج بدا وكأنه في صندوق للتعقيم ، أشار لي بأبهامه ، وهو يحاول التحدث بجانب فمه الذي حوّل عنه الغليون ، فهمت أنه يدعوني للدخول من الباب الخلفيّ ، عادت ملابسي إلى سكينتها فجأة وركدتْ تسريحتي ، ومثل محرك انقطع عنه التيار الكهربيّ كُتمت الرياحُ في لحظة ، وكانت تلك هي المرة الأولى التي تطأ فيها قدماي ذلك المدخل ؛ أنا المقيم بالقرية منذ ثلاثين سنة ، نفحتني رائحةٌ هي مزيج من بول ٍ وسجائر وشاي بولغَ في غليه ، وبين بابين أحدهما أسوأ حالاً من الآخر رفعت صوتي بصباح الخير ، فجاءتني صيحة من وراء الباب المرصّع بآثار مسامير عشرات الرتاجات والأقفال ، دفعته بأقوى مما استحمل ، فصاح أحدهم :
ـ سَكّرْ سّـكّرْ سـَكّر .
وما كان سوى المدير على قمة سلّمٍ ألمونيوم ، حيّيّته:
ـ صباح الخير .
لكنه واصل صياحه:
ـ سكّر الباب يا راجل تيّار. صقع . سَـكّر .
أقفلت الباب ، ولست أدري لماذا كنت مصرّا على التحية فكررتها ، فردّ دون أن ينظر إليّ وهو يُحكم سـدّ النافذة الزجاجية المخلوعة :
ـ خير خير ليش موش خير .
ثم أضاف بتنغيم :
ـ آهه ْ! . الروشن اللي تجيك منه الريح سده واستريح ، حتـّى الروشن ! . موش امغير الباب .
ثم وهو يلتفت من على قمةالسلم كأنما بتهكم :
ـ أهـْـلَـنْ .
لم أعرف بماذا أفكر أو أقول أو أفعل ، أحسست أن حالة الحجرة الضيّقة ، بخزانتها الحديدية المخلوعة الأبواب ؛ والكراسي المكسرة والمقلوبة والخربشات على الجدران والطاولة وجرادل الزّواق وتسلخات جلد المكتب ، كلَها ، تنظر إليّ معاً مرة واحدة ، لم أستطع ترتيب خواطري وتقسيمها بين الحجرة والمدير والأفكار المسبقة وخاصة دراجة ساعي البريد ، فقط ، قررت أني يجب أن أرتب ذلك المخزن ، لكن صوت المدير جاء وهو ينزل بحذرٍ السلمَ درجة فدرجة :
ـ والنبّي كذا نزّل هالشاهي عندك ؛ ما اطبخت إلا واجد ، وشوف السكر ، بلكي شوىّ .
وجرّ كرسيّا بلاستيكياً أعرجاً وقال:
ـ كرّ حكيّة هالنيدو عندك ، وقعمز، آيوه ، تريّح وحياة سيدك .
ثم اختصر زمن حيرتي أمام أكواب الشاي بقوله :
ـ صبّ ؛ صب ياراجل حتى بلا مصمصه ؛ صبْ صبْ ؛ صبْ وعدّي .
ثم راح يرشف الشاي ساهمَ الطرف ، حتى شعرت بأن الرجل لا يشعر بوجودي ، وظل كذلك فترة ، إلى أن سمعتُ صوت قادم ، فقال وهو يشير إلىّ بذيل الغليون:
ـ أسمع أسمع ، أكرسْ وراء هالدولاب) .
وحين لاحظ حيرتي أصرّ :
ـ تي اكرس ياراجل ، اكرس بس ، غير اكرس وما تطلع نين نقول لك .
ومن وراء الخزانة عرفت أن القادم هو الحاج اكريّم ؛ صاحبُ الدراجة التي نراها دائماً أمام مكتب البريد ، تناولا حالة الطقس العاصف ومقتطفات أخرى من أخبار القرية ، ثم سأل المدير:
ـ فيه العيّل هذا اللي كلمنا عليه الأستاذ حامد ...
فأجاب الحاج اكريم بسؤال :
آ إيوهْ عرفته ؛ كنـّهْ؟ .
فأكمل المدير:
والنبي أيش رايك فيه ياحاج اكريم؟ .
فأجاب الحاج :
ـ هالشكل هذا ما عندش فيه راي ، خسارة لو مو خاله حامد .
فقال المدير:
ـ أوْ هوْ كنـّه ؟.
فردّ الحاج:
ـ ما ريت جميمته اللي كي جميمة البنيّه؟ .
فقال المدير :
ـ وانت مالك ومال جمته ؟ .
فردّ الحاج اكريم بانفعال:
ـ تي والله ما ودّك الاّ تمسكه وتجلمه .
فقهقه المدير ، وقهقه الحاج انسجاماً مع ذلك ، لكنّ المدير قطع ضحكته من منتصفها وقال:
ـ و الله يا سي كريّم هذا ما جلموه هله ، تريد اتجلمه انت !.
فصاح الشيخ:
ـ تي عليّ اليمين عليّ اليمين لو ايجي و اتجيبلي جلم انجلمه ، ونكان ما جلمته عليّ ابحولي ابقشاطته.
فصاح المدير ممطـّطاً كلماته:
ـ ابعاااااااااااء ؛ خلاااااص ، اظهر وبان عليك الأمان .
وانتفض الحاج كريّم عندما رءآني ، حتى كادت عيناه تفرّان من محجريهما ، بينما راح المدير يغرق في نوبة من ضحك حقيقيّ شهيقاً فقط .


وعلى هذا النحو من العمل مضت سنوات العمل.

هناك تعليق واحد:

  1. I have enjoyed with these stories, especially last one. I need to talk about many things but I can not becuase I do not have much time and arabic keyboard,

    ردحذف

المشاركات الشائعة