الأربعاء، أبريل 28، 2010

رجب البابور


يتوالى صياح الديوك، وصخب الشاحنات على الطريق العام، وتخفق أجنحة الحمام؛ في كل صباح من صباحات قريتنا، لكن ليس قبل أن يكركر مصراع الباب الخشب الأخضر العتيق لدكان البابور، ويتبدد رذاذ الفجر الفضّى على السطوح وعلى الملابس على حبال الغسيل، وتفوح رائحة الأرغفة الطازجة من المخابز، لكن ليس قبل أن يتسرب من المطحن إلى الشارع فوح غبار القمح والشعير والبنّ، وتنبعث الأنغام من مسجلات المقاهي، وأصداء نواقيس المدارس، و رنين الهواتف وتكتكات آلات الطباعة من المرافق العامة، لكن ليس قبل أن تنطلق جعجعة جنزير وتروس الآلة العتيقة الجبّارة في المطحن.


سـي رجب، ذو الوجه والابتسامة والكلمة البيضاء؛ مثل محّ الرغيف والحليب والبيض والجبن؛ وأغنيات الصباح، وكراسات التلاميذ؛ يفتتح كل يوم؛ نهار قريتنا والعمل؛ ويستقبل أو يبثّ أولى تحيات الصباح البسيط المستبشرة الطيبة.


رجب البابور، هكذا عرفناه منذ أن كان عمر هذه الدنيا خمسة أو ستة، وبهذا الاسم المضاف إلى أول آلة جلبها هو إلى قريتنا؛ أيام كانت أكثر بدائية .في البداية – وكأطفال- كانت معرفتنا لاسمه هذا اكتشافا طريفا عجيبا، لكننا فيما بعد؛ علمنا أن إخوتنا الكبار يعرفونه، وآباؤنا أيضا؛ بل وحتى أمهاتنا وجدّاتنا، وكان ذلك مصدر دهشة لنا، ثم – ذات موسم لا نذكره – عرفنا بعد فواته أننا صرنا كبارا؛ أدركنا أن رجب البابور اسم علم معروف في القرى المجاورة، والدواخل البعيدة أيضا؛ التي كان أهلها ـ على مدى عشرات السنين؛ وقبيل انتشار السيارات؛ يحجّون على خيل وحمير أو راجلين؛ إلى مطحن في قريتنا ، حاملين مكاييل من القمح والشعير، لتصف ّطوابير مسنودة على جدار المحل؛ في انتظار موعد صبّ محتوياتها في فم آلة الطحن المقابلة؛ التي لا تكفّ طوال النهار عن الضجيج والتلوي؛ مثل هامّة؛ تلتهم البذور المتراقصة؛ لتحيلها طعاما للناس؛ من دشيشة أو زمّيتة أو روّينة؛ تعطّر رائحتها الزكية حيّنا المجاور للمطحن.


بين صف تلك الأكياس المرقمة والمعلّمة بالأسماء؛ وبين جسم تلك الآلة المتوازيين؛مابين البابين التوأمين – الأمامي والخلفي – للدكان المستطيل؛ كم كان يطيب لنا في قيلولات الصيف ـ حين يرسلنا أهلنا إلى السوق ـ أن نعبر ذلك الممر الظليل المنعش؛ بأمان ؛ دون خوف من الرجل الهيّن الليّن الهامس حتى وهو ينهرنا؛ وقلّما يفعل، وكثيرا ما كنا نجده مستلقيا مفترشا(شلته)مورّدة؛ غافيا عن طنجرة الدشيشة المتكتكة؛ وبرّاد الشاي المتشاهق غير بعيد من هدير نشرة لندن ممزوجة بأزيز الموجات؛ عبر صدر الراديو العجوز.


ممّا يتحدث به أصحاب الدكاكين أن سي رجب ـ الذي اعتاد منذ عشرات السنين أن يقفل باب المطحن الخلفي من الداخل أولا؛ ثم يقفل الباب الأمامي آخرا ـ كان ذلك اليوم ـ الذي لم يرجع بعده إلى مطحنه أبدا ـ قد خالف هذه العادة، فأغلق الباب الأمامي من الداخل أولا.
والمارّ هذه الأيام من وسط سوق القرية القديم سيلاحظ أن باب المطحن مغلقٌ بلا قفل ، كأنما بكلمة سر سحرية همس بها سي رجب لباب مطحنه، ومضى إلى عالم الأرواح، دون أن يعلم بها أحدا، حتى من أبنائه . رحم الله سي رجب رحمة تعداد ذرات غبار القمح والشعير.

الجمعة، أبريل 09، 2010

قِـبــلي






أهلاً


يا أيّام القبلي


ها أنا


خارج بيتي


وبلا أهلي


معك


منك


فيك


راع ٍ عشٌ دربٌ ...


بين الفصل ـ بين الحقل ِ وبين الحقل ِ ـ وبين الفصل

ها أنا أنت

*

وليس الآن

وبعد البعد ِ

وقبل َ القبل ِ

ولد ٌ ألقف

فستاناً ورديّا

منفلتا ً نحوي من حبل .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصورة من :

alhsa.com

الخميس، أبريل 08، 2010

عودة حكيم




منذ البداية كان بين الحيّ الصغير الذي فيه بيت حكيم وبين بقية أحياءِ القرية الكبيرة، حيث بيوت أصدقائه طريقٌ عام، طريق له رائحة القطران والزيوت والمطاط، ، وكان دائماً على حكيم ـ لكي يكون مع الأصدقاء ـ بعد أن يطمئنّ على أن والده خارج البيت ويؤمّن على تحذيرات أمه، عبورُ تلك الأمتار السوداء المرقشة برماديّةِ ريش ِعصافير الدوري التي تسحقها كلّ صباح عجلاتُ السيارات .

لكنّ الذي لم يخطر لحكيم ولا للأصدقاءِ ببال ، هو أنّ طولَ الطريق وليس عرضها هو ما سيحول بينهم، ففي قيلولةِ يوم ثامنٍ، يوم ٍ كأنما في غير فصله كان أهل حكيم يُخرجون أشياءَهم من البيت باكينَ ضاحكين وهم يخْصِفون عليهم ُمِن ورق الذكريات، حتى كان ـ بعد زمن ٍطال ـ البيتُ وأهله وأثاثه على ظهر سيارة غادرت من مدخل القرية، إلى قرية بعيدة ، مسافة سبع وسبعين أغنية حزينة، قرية خَيّل إلينا أن لا عصافير فيها، حيث دراجاتنا لا تصل وحمام حكيم لا يعود.


ذات يوم وكنت أراود لحناً أشجاني واستدرجني حتى ، انتهت بي طريقي عند عتبة بيت حكيم ، في زركشة ظلِّ وضوءِ عريشة العنب، فوجدت عنده نصفَ اللحن ونصفَ الشجن:

ـ صح النوم تي را، صح النوم تي را.

ـ صح النوم يااحبيّب، موش هك اللحن راه.
ـ باهي ! كيف ؟ .

ـ صح النوم تي را، صح النوم تي رارا .

ـ شن اسمك ؟.

ـ حكيم ، وأنت ؟.

ـ موسى .

وبهذين الاسمين فقط بلا لقب ولا نسب صرنا صديقين، كان عصراً وكانت أجنحة الحمام بروقاً فوق أسطح البيت العالي على التبة رهنَ انهمار خيوط الشمس الصفراء في السحب، وكان هذا فقط المشهدُ الخارجيّ .

أما داخل البيت فهناك العمة سالمة والدة حكيم ، التي كانت في تلك اللحظات من كلّ يوم ، تنهضُ من إغفاءة ما بعد الظهر ـ كما ألِفتُ بعد أن توطدت بيني وبين حكيم الصداقة ـ وبالضبط عندما يمسّ قرصُ الشمس ـ المنفلتُ عبرَ أوراق العريشة فعبرَ الشّباك ـ المرآة َوسط السقيفة ، لتعِدَّ شايَ العصرية الذي تجمَعُ حواليه بلا نداء أهلَ البيت مثلَ علب السكرية، وتذوّبَ فيه من سُكّرِ ابتسامةٍ مدسوسةٍ في ملامح وجهها ، و تنعنعَه بوشم ٍفي جبينها الأصفر.

ذلك اليوم أطلّت من الباب ونادتْ:

ـ حكيم، يا حكيم، أنت وين يا ولد ؟، ما تريدشي تشرب شاهي ولاّ كي دوتك ؟ .

ثم عندما رأتني ضحكتْ ضحكة اعتذار وأضافت:

ـ و إلاّ عندك ضيف، شنو حالك يا باتي، و أنت يا بو طواله ما تقول شي عندي ضيف .

ودخلنا يتقدمني حكيم حتى باب المربوعة، وفي انتظاره، وبين نثار من الأوراق والأقلام والخطاطات، وقفت إلى الجدار أتأمل صورة جمعت رجلاً ببدلة إفرنجية و شنة ، والحاج مجحود والدَ حكيم الكهلَ النحيف ببدلة الشرطة التي ألفنا رؤيته بها يومياً في ذهابه وإيابه إلى المركز ، بهدوءٍ وسكينة، والذي كانت نصف إيماءة من رأسه ونصفُ إشارة بسبّابته ، حين تمسُّ خطواته حدَّ ملعبنا ، كفيلتين بحرمان حكيم من المباراة ، وبثِّ شيءٍ من الشجن في أرواحنا ونحن نراقبه حتى يقطع الطريق إلى الضفة الأخرى، باستثناءِ مساءِ الخميس حيث أن غداً دائما جمعة فلا مدرسة ثمة، فيسمحُ الوالدُ لابنه باللعب، فنحسّ بأنّ الملعب يبدو أكبر وأوسع وأعلى، لأن حكيم الولد العابثَ بالكرة الشغوفَ بملاحقتها حتى وهي خارج المستطيل الترابيّ ، على حافة الطريق أو عند عتبات البيوت ، استطاع أن يكون معنا.

جاءَ حكيم بالشاي وحط ّالسفرة بحركة نادل:

ـ تفضل يا موسَـزْ .

ـ زاد فضلك .... الشاهي فيه تيه صاح ؟. تساءلت ، فقال :

ـ لا تفاح .

ضحكت : ـ حلوه هذي !

رد حكيم :

ـ شن اللي حلوه ؟ الشاهي ؟ .

ـ لا التفاح اللي فالشاهي .

ـ والله صح .

ـ استغفر ربك يا راجل، وما تحلفش بالله بالبصارة .

ـ والله العظيم ما نبصر، التفاح فيه شاهي ، قصدي الشاهي فيه تفاح ، ويكون في علمك إنـّا ما عمرنا شربنا شاهي إلا بالتفاح .

ثم هبّ إلى عتبة الباب وراح يصيح منادياً عمتي سالمة وأنا ألحّ عليه أن لا داعي لذلك حتى وصلت فقال لها :

ـ النبي يمّي الشاهي اللي توا ما فيها تفاح ؟ .

وعندما أجابت بنعم ، وبأن لا أمر يدعو إلى كل ذلك الصياح، التفت إلىّ بعينين ضاحكتين بمكر وتهكم عرفته فيه فيما بعد وقال:

ـ قول لي حتى الحاجة تكذب هي يا سي .

فما كان من عمتي سالمة إلا أن تضيف ما لم يكن في حسباني :

ـ لا والله هذي خير عيد . ما زالت غير هالتالية، تشرب شاهينا واتكذب فينا .

ثم اشارت بسبابتها إلى العتبة وأضافت :

ـ نلقاني يا وليدي أني نقدتْ علي صاحبك من عند جيته بسبّاط أمه، وأنظر أنظر يا حكيم ! ما أكبر السباط !، هله هله هله يا لطيف يا لطيف، والكرعين اللي هذا سباطهن أيش شكلهن الدعوة ؟ ...

كل هذا وحكيم يقهقه ويتلوّى حينا ثم ينحني على كراس ليخط ما مرّ من كلمات : سباط . تفاح .. شاي .. تيه. يا لطيف ...

ولم أملك ما أقول إذ فوجئت بذلك السيل من الضيافة والمزاح معاً في اللقاء الأول.

في السنة الأولى لانتقال حكيم من قريتنا قمنا ببعض الزيارات له ، وكانت تتحول بمجرد الوصول إلى بيتهم إلى عملية عودة به معنا إلى القرية، وقد يسّرَها لنا سائقو الشاحنات الذين كانوا يُبدون تعاطفاً مع تلويحاتنا على جانب الطريق دون سواهم ، في آخر مرة من تلك المرات طفنا به على بيوت الأصدقاء، وحين مررنا على بيت حميد دعاه ليسلم على الحاج محمد، الذي قابل ترحيب حكيم بقوله:

ـ وأنت كيف جيت ؟ ومع من جيت ؟، وقايل الهلك ولا مانك قايل الهم ؟

فأجاب حميد بالنيابة :

ـ جا تشيير عالطريق . فقال الحاج :

ـ لا لا لا لا لا، هذي ما عادش اديرها .

ولم يفعلها حكيم بعدها أبدا، إلا عام 2000، العام الذي كان بعيداً كالنجوم ، عندما جمعتنا الطفولة التي صارت أبعدَ من النجوم والتي فرّقتنا، حيث عاد إلينا الولد حكيم كهلاً والداً مهندساً، مهتدياً ببوصلة في قلبه ، أو بخارطة في كفه، سالكاً الدرب الأوّل المهملَ إلى القرية، تتقدمه رائحة الزعتر الذي لا يزال رطباً ندياً ، أنا عرفته ، وذرى شجرٍ راوغته الطريق الجديدة ، ولم تعد تستظلُّ به البيوتُ الحديثة ، كان معه صورة كحليّة أسود وأبيض مدرسيّة ، ضمّتنا أنا وهو ورفاقَ الابتدائية ، كنا باسمين بأعيننا ابتسامة تثير حزناً أو حناناً غامضاً ، استطعنا أن نميّز الجميع داخل الكرت ، بمن فيهم البنات الأربع ، والمدرسين العرب ، لكننا لم نذكر كيف تهيّأنا للصورة، وكيف انفضضنا عن المصور.

الاثنين، أبريل 05، 2010

أغنية



(زهر)


يا زهر!
يا المسكونَ بالجمال
والعابر الموقوتَ بالطفولة
يا لؤلؤ البرّ
وزبد المروج
يا جسدَ اللون
وبهلوانَ الطيب
يا بطاقة السرور والأسى
ويا هدية مؤبداً
يا زهرُ
يا ابنَ الماءِ والتراب
يا أخي
كيف تخلصت من الخضرة
كالعينين والقصيدة ؟


~~~~~~~~~~


(وَرْدَتان)

الوَردةُ التي قطفتها لك ِ
تفيق كُلّمـَا تمسُّهـَا يـَدَاكْ
و أنتِ لا تـَدْرينَ مـَا الذي يَنهضُ فـيّ كُلّمَـا ألقاكْ
و النّظرة ُ التي أُرسِلهَا تجرحُهَا أهْدابُكِ
و تَرْتوي مِنْ دَمِهَا الدافِئ وجْنتَاكْ
و أنتِ عَيْناكِ
وعَيْنايَ هُمـَا
أرْجـوكِ
ألاً تُغْمِضيهِمَا فَلا أرَاك ْ .


~~~~~~~~~~

(بـاقة)


ما الذي أحمله للورد
نام
يا حرام !
لعن الله الزكام
وأحييه بـِمَ ؟
ومن الزيتون عيناه
وكفاه
حمام
ومحياه
سلام

تشينما


لا مرة ولا مرتان ولا ثلاث، تنتهي فيها حركة عمال في ركن من أركان القرية إلى ارتفاع بناء آخر، غير ما كنا قد انتظرنا انتظاراً خفياً مشحوناً بأمانينا الحارة، بأنه سينما.


نهمل بيان لافتة إنشاء المشروع، يألف سمعُنا قرقعةَ "الكومبريسات "، تأخذ خطواتنا في التنحي لا إرادياً بعيداً عن حفر القواعد وارتدادات الألواح، تسلوا أعيننا مشاهدَ حميمة من قريتنا حجبتها حيطانُ "لبلوك" الأبيض، تستطيل أو تتربع أو تستدير الأبنية لكن لا لتكون سينما، بل سلخانة تفوح منها رائحة الجلود و الفرث، لا سينما بل إسطبل تصهل وتشخر فيه خيول الشرطة، لا سينما بل غرفة كهرباء يرصّع جبينها لوحة الخطر المميت، لا سينما، بل... بل يكفي.


ربما لتلك السلسلة من خبرة خيبات أمانينا الصغيرة، (الصغيرة ؟)، كنا كثيراً ما نلوذ ـ دون أن نعي ـ بجدار الحوش "لَـلْمَاني"، البيت الذي يسكنه عيت المدير، عيت المدير أهل كثلوم، كثلوم التي من أجل خاطر الأطفال عن طريق خاطرها كان (حميد فيوري) دائماً هو من يجلب "لاندروفر" السينما من لِـبْلاد، بمكافأةٍ هي عصرية مثرودة، لتسلط شعاعها الفضي المحمل بمسحوق نجوم السينما ممزوجاً بغبش الغروب وأنفاس المدخنين وآهاتهم والغبار، على جبين الجدار العالي الفسيح للمبنى الذي يكنّ كثلوم التي تمثل لبـَّه.


من مدخل الريف، الذي هو مخرجه، المسفلتِ المتعرج على التبّة والمكشوفِ لكلّ شبابيك وأبواب البيوت العَرْبيّة تلوح "اللاندروفر" الزرقاء، ذاتُ "اللاندروفر" الزرقاء : "لاندروفر التشينما"،ثم تتقدم على مرأى وترقبِ عددٍ غيرِ قليلٍ من الفتية والصِبْيَة هم أشد المعجبين المأخوذين بحميد فيوري وبها وبالشاشة الفضية، ثم تنجرف انجرافاً إلى الدرب الواطئ الترابي الذي هو الطريق الرئيسي إلى عمق القرية، ثم تسلك كما اعتادتْ واعتدنا أحدَ فروعها المنتهية عند عتبة بيت حميد فيوري، محاطةً ومتبوعة بخلية من الأطفال الصائحين(بص! شوف! فيوري يعمل أيه!) هم نفس الأطفال الذين كانوا طوالَ أقربِ الأسابيع يُنشدون له بين الجد والهزل أو بالجد الشبيه بالهزل كلما مرّ بهم في الطريق مطالبينَه ومذكرينه بالتشينما :(يا فيوري تشينمَا ! ربي ما يورّيك عمى !).


وفيما يكون الطقم السينمائي حول قصعةِ عصريّةِ المثرودة في مربوعة فيوري، يكون نبأ وصولهم قد تأكد لدى كل سكان القرية، وليتقاطروا فرادى وجماعات كما لرصد ظاهرة فلكية إلى الساحة قبالة الحوش لَلْماني، فتراهم بين شيوخ بدو ٍ جلوس متربعين أو مقرفصين على التراب، يستعين بعضُهم على أحاديثه بتقليب الحصى بين كفيه أو بتخطيط التراب بعود، وبين متعلمين وقوفٍ في حلقاتِ دردشة تبدو كأنها متكلفة، وبين شباب يتسكعون جيئة وذهاباً، وبين أطفال يمرقون كالجِداء يتصايحون ما بين المجموعات، في مشهد استثنائي في زمن القرية وجغرافيتها، لا يَخفى على مراقبه طابع القلق والتوتر الشبيه بقلق متتبعي ركلات الجزاء الترجيحية، البادي في اضطراب عصافير عيونهم واستشرافها إلى حيث اللاندروفر، غير مطيقين أدنى انحراف لها نحو الطريق العام، لتعود من حيث أتت بسبب عطل في الآلة، أو لخرقٍ في إطار، لتؤجل الزيارة إلى أجل غير مسمى، أو ليتأخر موعد العرض بسبب أن أحدهم يرغب في شراء علبة دخان من الدكاكين في آخر القرية، وهو الأمر الذي حدث غير مرة فأثار الحنق على فيوري فأنقص من شعبيته عند معجبيه.


على أنْ لا بلوغ اللاندروفر الساحةَ ولا إقرارُها في النقطة المناسبة للعرض يغنيان من القلق شيئاً، طالما حميد فيوري لا يزال غيرَ مدّخر جهداً ـ وهو واقف على ظهر اللاندروفر ـ في التأكيد على أنْ لن يُسمح ببدء العرض إلا بعد صلاة المغرب بوقت كاف، مدعوماً بلباقة طقم السينما الذين يروحون نازلين صاعدين من باب إلى باب، أو دائرين حول الآلة متحسّسين أقراصَها وشريطها، وبين هذا وذاك يعلنون مرة إثر أخرى لكل متعجل بأن العرض هاهو يبدأ الآن.


ومع ذلك فإن بعض الجمهور المحتشد للفرجة، ينتظرون ملتذين بعلمهم أن ما سيأذن فعلاً بانطلاق العرض حدث مختلف...؟ هو أن ينفتح الباب الخشبي الضخم العالي للحوش للماني، تخرج كثلوم في طقس من التنكريّة في "جَرْد"، تتجه إلى بيت الجيران المقابل، ليتسنى لها من هناك مشاركةُ حميد فيوري متعة متابعة تفاصيل الفيلم، ينغلق بابُ الجيران وراء الجمع المتلفّتِ طرَفٌ منه، ينفتح شباك حجرةٍ تنطفئ أنوارُها، يرتعش مستطيل السينما الفضي على الجدار المرقش، تنطلق الصيحات والصفير.

المشاركات الشائعة