ظلت أمي عاماً كاملاً تسرد بنشاط وفرح وتفصيل سندباديّ قصّة رحلتها إلى بيت الله الحرام ، رحلتها الأولى في حياتها .
فمنذ الخمس وستين سنة التي مضت من عمرها عاشت حبيسة مساحة الأنثى القروية : المطبخ ؛ فإن خطت خطوة فإلى المربوعة لترتيبها من فوضى يخلفها الرجال حول القصعة أو حول الكارطة ، فإن خطت خطوة ثانية فإلى فناء البيت الذي دنسه الدواجن والبهائم ، فإن ابتعدت فإلى بيوت القرية ـ حيث كلّ قبيلتها ـ لتعدّ الولائم في المناسبات .
لأول مرة طوال تاريخ تطور وسائل النقل من الأنعام إلى الكاروات إلى السفن إلى القطارات إلى السيارات إلى الطيارات تسافر هذه المرأة الساذجة الموشمة الوجه والذراعين ؛ في حافلة وباخرة وطيارة على التوالي ، إلى الجبل الأخضر فإلى طبرق فإلى السلوم فإلى أم الدنيا ، ثم إلى أين ؟ إلى مكة المكرمة حيث بيت الله والمدينة المنورة حيث قبر النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وزمزم ، أماكن ومشاهد لم تكن سوى أسماء في مخيلتها لا حتى أحلامها ، فأية تجربة هذه لأمرأة هي هذه ؟ ، المرأة التي حملتنا في بطنها واحداً واحداً تسعة أشهر ، وعامين في حجرها أو على صدرها أو على ظهرها ولا تزال تحملنا في قلبها ، وعاشت عصراً حمّالة لأشيائنا وحاجاتنا وأخطائنا ، نحملها نحن هذه المرة إلى المصوراتي لتسلم ارتباكها وعفويتها لشاب مزركش الثياب يأمرها :
ـ إرفعي رأسك فوق شوي ياحاجّة ، لأ. لأ لوطا شوي ، آيْ وهْ ، ردّي بالك اتحركي ولاّ ترمشي عيونك ، واحد اثنين ثلاث .
ـ خلاص يا بوي؟
ـ خلاص يا حنّي.
ـ أوّين تصْورْتي عَيْد؟
ـ ساعتين بس وتكون جاهزة ، هَيْ تفضلي بالسلامة.
ثم إلى الجوازات :
ـ هَيْ ابصمي ياحاجة.
ـ وين يابوي؟.
ـ هَنْ ياحاجة ، لا لا لا ياحاجة هَنْ هَنْ ، آي وه بالزبط .
ثم إلى الهلال الأحمر:
ـ وعليش جرحتـّم لصبْعي ؟ .
ـ مرات تستحقي إلدم .
ـ نسمعو نسلمو انشالله ، نا ماشية البيت الله ولاّ الحرب ؟ ، سوّهم في دوّهم.
ثم إلى المصرف لتستلم المنحة:
ـ هذا هو البنك و؟.
ـ إي نعم هذا هو.
ـ انشا الله ابطَولةْ عمري ؛ هذا وين عمري ريته .
ـ إي وا عليك بو زفر ياحاجة.
ثم إلى السوق : لشراء حقيبة وصاكـّو يُكتب عليهما بالخط العريض اسمها مضافاً إليه لام أليف لتميزهما هي عن سواهما ، ثم لتملأهما هناك بالسّبَحْ والصلايات والبخور والمعارق الصفر والسواري والعقود والصوّرات والساعات والبنادق للأطفال.
الطارقون الباب يسألون عنها يريدون أن يروها قبل أن تسافر ، والحالـّون بيننا يتحدثون إليها ، والهاتف يرن لينقل إليها أصوات المباركين والأمنيات بالسلامة أو الاعتذار عن عدم حضور الحفلة .
ـ أمتى متسقدين يا حاجة إنشاالله ؟ . سلمي لنا علي رسول الله ياحاجة ، . راكي تنسينا مالدعاء ياحاجة . ردّي بالك من روحك يمّي . راكي تنسي موعد الدوا . اللي ما تقدري عليها إدّيها . ردي بالك من زحمة أيام الرجم . الضرب عالنيّة يا حاجة . صوّارة حقيقية يا حنّي.
وتدور الأحاديث وتدور وتدور لكنها تعود إليها كما ابتدأت منها .
ثم عانقناها وقبلنا يديها ورأسها ومزجنا دموعنا بدموعها ؛ و وجدنا رائحتها الطيبة فائحة في شحنة لحظة الوداع تلك ، ثم حملناها مثل عروس في موكب صاخب بالدرابيك والأكف المصفّقة والزغاريد ومزامير السيارات ، ورجعنا واجِدين ، وركزنا لها راية بيضاء دعمناها في وجه الرياح ؛ وحرسناها من العيون بأعيننا.
فماذا فعل كل هذا الاهتمام بقلبها الكبير يا تـُرى ؟ وفي أي تجربة مفاجئة وضخمة ودفعة واحدة أقحمناها ؟ بعد إهمال ولا مبالاة وأنانية أولاد دامت ستين عاماً ؟ ، تبارك من فرض الحج ؛ وسلام على من أذّن به في الناس أول مرة ؛ والحمد لله الذي وضع أول بيت للناس وجعله مباركاً ، ثم الحمد لله ولو من أجل تلك الفرحة الغامرة التي بُثّت في روح وكلمات أمي ، وفاضت في محيّاها بنور أعاد إليه بمعجزة ربّانية ما سلبه الزمن من رونق وحيوية وشباب ، عام من الثرثرة المغتبطة البهيجة عن رحلة كأنما لم يذهب معها أحد ، أو كأن الملايين الذين رأتهم هناك إنما أقبلوا لكي يلتقوا بها هي ، نعم أمي ذهبت هي أيضاً مثلما ذهب جدي شيخ القبيلة منذ أربعين سنة وخالي المدير وزوجته منذ خمسين .
في المحطات والبوابات والاستعلامات كان يُنادى على اسمها وكاملاً "أم السعد سعيد علي مفتاح" .
ـ في التابوس ـ تقول ـ طول الطريق ونا واعية ؛ ونشوهي للولد السوّاق وقرينه اللي يعاون فيه ، والحقيقة اشهدوا لي شهادة سمحة ، قالوا للزابط أوّلْ ما اتسقّدْ أوراق الحاجة نفّاقتنا البدوية هذْ .
ـ أوغادي ـ تضيف ـ وينما جينا حصّلنا شقة سمحة في بالاص قريّبْ مالشيطان الكبير.فيقول لها أبي : ورجمتيه الشيطان ؟ فتجيب إي والله ، فيعلق : يا مرقد ريحه الشيطان اللي رجمتيه حتى أنت .
ـ او في مكة جميع الحجاج لاخرين حتى ملْ لسلام النصارى يقولو لي مرحبه يا ليبية مرحبه ياليبية ، مَو عَيْد نا كنت لابسة الردا لبْيَض المخربش ، هضا هو اللي كانن الحاجات لوّلات ايحجن بيه ، كَلاّ الجلابيب السّود هذين ما كنا نعرفوهن بلكل ، ماهن شي لنا نحنا يا الليبيات .
عام قمريّ تام ، وكل موقف يذكـّر أمي بموقف في رحلتها ، وكل كلمة تذكّرها بكلام قيل هناك ، وكل موضوع تفتحه بقولها : في مشيتي للحج في حجّتي ، إلا أنني مع اقتراب حول حجتها لاحظت فتوراً في حماسها وهي تسرد ذكريات حجتها ، تحوّل فيما بعد إلى ما يشبه الحزن الشفيف ، ثم لم أعد اسمع منها حرفاً يتعلق بالحج ولا بغيره ، وبدتْ وسط صخب إعدادنا لحفلة حجة عمتي صامتة تقريباً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق