الأحد، مايو 16، 2010

ماريليانو



على هضبة الرجمة ـ تلك التي كوّمها بكفيه العملاق أبو زيد الهلالي* ليشرف من فوقها على سهل برقة؛ ليرى بعينه الناجية من شظايا عظام غولة اعترضت طريقه فقضى عليها وأحرقها ـ حشرت ملايين الأحجار، المشوبة بحمرة الطين وخضرة الطحالب، بأحجام وأشكال مختلفة، أكواماً أكواما، لبناء سور قلعة الرجمة خريف عام 1923م .*


كاد ماريليانو، وهو يستلم آخر أحجار شغل ذلك اليوم من أيادي الليبيين المسّخرين، أن يظل، في زيّه العسكريّ دجاجة بيضاء، لا حزن ولا فرح، آلة َ هذر وبناء، كما أُريد له و منه أن يكون، ومن آلاف ٍ غيره يومَ ضُمّ إلى سريّة الشئون الإدارية، بكتيبة المدفعية الثالثة والعشرين، في الجيش الإيطالي الذي توالى منذ عام 1911م غازياً ليبيا .


- ( عجباً ! هل رأيتك أيتها الحجرة من قبل ؟ ) . كان ماريليانو يحدّث الحجارة وهو يشتغل.ـ ( هنا في بداية البناء ؟، أم هناك في مزرعتنا ؟، المقادير تسوق حتى الحجر، لماذا أنت بالذات ؟ هذا العبث ليس عبثا )، يفرش لها ملءَ ملعقة اسمنتا


( كوني هنا، لو كنت إنساناً لتمرّدتِ، بل لتألمت، كم في طاعة الحجر من عصيان! ).


وبينما هو يستلم الحجرة التالية يسمع بوق نهاية الدّوام المسائي، تركها تقع على الأرض، و ضع إصبعيه في أذنيه، وأخذ يشير إلى معاونه بعينيه وحاجبيه، حتى هز الرجل رأسه بالإيجاب، فأخرج ماريليانو إصبعيه وقال :


ـ ( إذن فقد نفخ الشيطان الرجيم في بوقه، يا له من منشار يمزّق أضلعي ) .ثم عاد والتقط الحجرة، و وجّه كلماته إلى كل العمال:(ولكنكم تحبّونه أيها الملاعين، "فينيتو"، انصرفوا إلى بيوتكم وأولادكم، ألم تسمعوا موسيقى الجحيم؟).


وعاد إلى حديثه مع الحجارة ( وأنت أيتها الملساء !)، ودوّرها بين كفيه، ليجد جانباً مستوياً يقرّها به في البناء ( لا تعجبي، في كون واحد يمكن أن يلتقي كفـّا رجل من بطن امرأة إيطالية، مع حجرة من بطن أرض ليبيّة، من المحتمل أن يصبح قلبي، نعم قلبي هذا، عنصراً في براز ضبع ليبيّ) .انتبه لوجود بزّاق لاصق بالحجرة :


ـ ( أيها اللعين، بأيّ أمر جِئَ بك إلى هنا أنت الآخر ؟ ألم تكن في البحر يا مسكين ؟).


حاول اقتلاعه بظفره، فوقع في بقية خلطة الأسمنت، فغرفه ضمنها :


ـ ( يبدو أنك لا تريد أن تنجو، أم أنك سئمت القوقعة وتطمح في بيت إسمنتي ؟ ) .


قاوم رغبة في استخراج البزّاق وقذف بالملعقة آخر الإسمنت.


ـ ( خذ، لك الأسمنت؛ و لي البذلة العسكريّة) .


رمى الملعقة بقوّة جانباً، وخبط كفيّه ببعضهما، ثم انتصب متأوّهاً و انحنى إلى الوراء ضاغطاً بيديه على ظهره، ثم أرسل نظره إلى أكوام الحجر الساكنة؛ إلاّ من صفيرِ ريحٍ خفيف فيه برودة جافة لاسعة حول الأكوام، يثير زويبعات ضعيفة في الخشاش اليابس:


ـ ( وأنتم، ابقوا هنا حتى الصباح، إيّاكم أن تتحركوا، هل سمعتم ؟، إيّاكم أن تهربوا، إنها أوامري أنا، أنا " الدّوتشي" هنا، أضعكم أينما أريد وأنساكم، وينساكم الزمن في هذا السّور الطويل العريض، " آرّيفاديرتشي ") .


واستدار متجهاً صوب المبيت، بعد أن لملم عدّته في كيس دلاّه من فوق كتفه.


كان المكان قد سكن، حيث آب كلُّ الجنود والعمال، إلا من خفقة أو خفقتين من أجنحة طيور عبرت فوق رأسه إلى أوكارها، أو اضطراب خفّاش يسابق نفسه، أو رتل قطيع من بقر هناك خلفه، يتقدّم ببطءٍ على شاشة الغسق، مثيرا غباراً نحاسياً بين أرجله النحيلة، في دربه في آخر الأصيل، وفي طريقه انحنى على عصا، و أخذ وهو يصفـّر يضرب بها الهشيم الذهبي لشجيرات "القـُوس" الشوكية، وكويمات تراب الخَلْد البنية، وفجأة وقف، لقد انتبه، لقد تذكر أنه لأول مرة ـ منذ وصل إلى هذه الأرض الغريبة ـ قد نسي كل شيء، أحس بأن قلبه قد ثقل وتضخم مثل هضبة، ها هو الحزن ـ الذي كان يغالبه بهذره وعمله المتواصلين ـ يتسرب إلى قلبه على حين غفلة منه، كان لا بدّ منها، وأدرك في لحظة ـ المسافة بمائها و يابستها بينه وبين قريته، التي مدّت في مخيّلته دروبها إلى عينيه، مثل كلّ مرة كان يرجع إليها في الأصيل من حقله البعيد، البعيد.وتناهى إلى سمعه صوتٌ شجيّ وإن كان جهوريّا، من جهة المبيت " تي ررا، ري ررا، عمري وكلُّ ثوانيه لي، ررا؛ وذات مرّة أذكر أنني نسيت ! ررا )، وقد عرفه، إنه صوت "بيانكو" المهذار، الذي حزنه لا يتجاوز حنجرته، لا شكّ راجع من الخلاء مغنياً، كعادته كلما قضى حاجته، ولقد عرف الأغنية أيضاً، إنها تلك الأغنية الشعبية التي كم سمعها في المذياع، دون أن يهتم بها، وها هي تتخذ في روحه معانيها التي ألفها رجل مجهول؛ تفرّقت عظامه منذ زمن طويل.


اقترب من المبنى، كان القمر برتقالة ضخمة فوق الهضبة الأخرى، تلفّت حوله، وتنحنح ليخفي ما يعانيه، ودلف إلى الحجرة، كان رفاق "ماريليانيو" يهذرون متحلّقين طاولة خشبية عرجاء، عليها خريطة كبيرة تدلّت حوافها على الجانبين، يتصايحون وبين الحين والحين تصدر عنهم قهقهة عالية، حيّاهم بحنق كأنما يسبّهم، " بونا سيْرا"، لكنهم لم ينتبهوا لدخوله، وجد ذلك مريحا بالنسبة له، اتّجه إلى سريره في الركن، كان حزيناً ومغموماً حتى فَـَقـْدِ كتلتِه، لم يقو على خلع حذائه الجاف الأشهب؛ بيديه المتورمتين المتشققتين، وكان من عادته ـ دون أن يعي ـ إذا فقد السيطرة على حزنه أن يغفو، فانطرح على سريره .


ـ ( ليبيا جنوب إيطاليا ) قال بيترو، الذي يتوسط المجموعة ويتحدث مستعيناً بالخريطة ( بيننا وبينها بحر)، فقال ماريليانو بينه وبين نفسه تحت الغطاء :


ـ ( هذا مبرر كافٍ لمجيئنا إليها ) .


ـ ( وهذه مالطا ) أضاف بيترو، واضعاً سبّابته على نقطة في الخريطة :


ـ ( انظروا كم هي صغيرة، و وسط الماء ) .


ـ (يقال أن للمالطيين أثرَ خياشيم في جيوبهم الأنفية ) كذلك قال بيانكو الذي عبر إلى غرفة أخرى حاملاً بيده إناءً، علت قهقهة من المجموعة، وابتسم ماريليانو في ذهنه .


ـ ( دعنا من مالطا ) قال برونتي وقد أدنى وجهه من الخريطة وراح يتمتم :


ـ ( أين... ؟ أين... ؟ أين.... ؟ ).


ـ (عمّا تبحث ؟ ) سأله بيترو .


ـ ( أين كونفرسانو على هذه الورقة المهترئة ؟ ) أوضح برونتي، فاصطنع بيترو ضحكة وقال :


ـ ( كونفرسانو؟، كونـ فر سانو غير مهمّة حتى ترسم على خريطة، ولكنها تقريباً ... هنا ) .


ـ ( بل هنا ) ردّ برونتي عالياً وهو يضع يده على أيسر صدره.


ـ ( أما هذه فنابولي، ناااااااااابولي ) صاح بيترو وقبّل نقطة على الخريطة ثم أضاف :


ـ ( الخريطة قصيدة الغرباء، تميمة المغتربين، تعويذة من الحنين، إني كلما داهمني الحنين أتأمل في الخريطة، أعلم أين أنا وأين مدينتي ) .


ـ ( أما أنا فلا أفضل أن أحمل شيئاً يذكرني بما أفقده، حتى الرسائل لم أقرأها، أما الصور فأطعمتها النار) قال برونتي بصوت متهدّج.


ـ ( من الأفضل أن لا يحمل المرءُ حتى رأسه في الغربة ) تمتم ماريليانو بين النوم وبين اليقظة .


ردّ بيترو :


ـ ( كم أنت قاسٍ يا برونتي).


ـ ( بالعكس ) صاح برونتي ( بل أنت. وعسكريٌّ أيضاً أنت يا بيترو ) .


أجاب بيترو :


ـ ( شيءٌ خير من لاشيء يا صديقي برونتي ) .


ـ ( العشاء أفضل من كلِّ شيء ) صاح بيانكو الذي دخل عليهم بصحاف العشاء ( هيّا أيها البهائم، أجنودٌ وشعراء ؟ ) .


ثم نظر إلى حيث سرير مارليانو :


ـ ( ماريليانو !، العلف أيها الرومانتيكيّ ) .


هبّ الجميع واندلقت الخريطة، وقرقعت الكراسي، واتخذ كلٌ مكانه إلى المائدة، وكان ماريليانو قد نام عن الصمت الذي ساد، وتخلله حيناً بعض الهمهمات، أو رنين الملاعق في الآنية، وأنينٌ بدأ يغلظ ـ للريح التي أخذت في الارتفاع ـ في أضلع باب الحجرة .


نام يحلم بنفسه بملامح ابنه الصغير؛ مرتدياً ثوب طفل ليبيّ طويلاً مخطّطاً ــ كان قد رآه الأيام السابقة وراء أسلاك المعتقل، ينظر إليه وقد ارتسمت على فمه ذاتُ ابتسامتِه ــ وعلى جبهته قد لصق بزاق .


في الصباح كانت ظُلّة حمراء منفوثة من أرض القلعة تتمدد فوق الرجمة، كانت النساء في الشرفات والشبابيك، والشيوخ في ظلال المباني أو حول الجرّافة، ينظرون بإعجابٍ يضيء وجوهَهم إلى سائقها الأعور المأخوذ بنطاحها للسّور المزدوج الأصم، ويهللون مع كل هدير لأحجار القلعة المتهاوية، والأطفال يجرون متصايحين وراء جمجمة يجرّها أحدهم بسلك معدنيّ، وكان هناك قليل من الشباب، وفي العشية سالت أودية حمراء نحيلة جفّتْ؛ قبل أن تصل إلى المباني الجديدة أسفل القلعة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أسطورة خلق الرجمة في الرجمة على الأقل.

* 1923 تاريخ تركه أحدُهم على لطخة أسمنتية على جدارالباب الكبير الشرقي للقلعة.

* نشرت القصة مطلع التسعينيات بصحيفة النهر الصادرة عن المهرجان.

هناك تعليقان (2):

  1. I have enjoyed with this story, it is a nice story and I strongly recomend that you shoud extended it to become a nice novel .If you look at story carefully, you will find there is just two actions, first one is outside castle and another is inside so you can create many actions about hero's story

    Have wonderful day

    Nour

    ردحذف
  2. سلام يانور
    يسعدني أنك استمتعت بالقصة

    أثق في رأيك جداً ولكنني لا زلت لم أثق في نَـفـَسي غير الطويل حتى أحولها إلى رواية .

    أذكر أن الأستاذ سالم العبار أعجب بها وقال لي يمكنك إذن كتابة رواية ..

    لدي الآن افتتاحيات رواييتين أو أكثر ، لكنني أشعر أن الرواية بحاجة إلى وقت ليس طويلا وحسب بل وعريض أيضاً..

    أتوجه إلى كتابة نصوص فيها شيء من الحكاية ومن القصيدة

    سألت عنك البارحة كما دائماً هناك من يسلم عليك من الشباب بالرجمة وبنينة والمدينة لكنني أنسى ، آخرهم كان أحد الممثلين بالوطني ..

    وفقك الله والسلام

    ردحذف

المشاركات الشائعة