الثلاثاء، أغسطس 14، 2012

دجاج محمّر




تجمّع عدد كبير من أهل القرية في أول السوق ، يراقبون مصطفى سالم و آخرين يعالجون ذلك الصندوق الفولاذي اللمّاع الشبيه بخزانة مكتب المدير ، الذي كان قليل منهم يعرفون أنه شوّاية دجاج ، وبعضهم قد عرف بعد أن أجاب بعض العارفين بلغة من الضيق والمنّة ، على أسئلة فضوليين ، ظلّوا في تقاطرهم . تواترت الأسئلة وتنقلت الإجابات من هذا إلى ذاك :
ـ تي شني ها البصيرة ؟ .
ـ شوّايهْ ، شواية دجاج .
ـ أيش دوّةْ ها الدولاب ؟ .
ـ أيّنْ دولاب يا راجل ؟ ، هذي شوّاية دجاج محمّر .
ـ ها الدعوة ايسمه ؟.
ـ قالوا شوّاية دجاج ...
لكن مصطفى سالم الذي أحنقه انحشار مستطيل الشوّاية في مربّع السيارة ، علاوة على عدم نجدة الفضوليين له ، انتفض منتصبا ومختصرا وقاطع أحدهم ، موجّها كلامه للجميع (تي هيا كل حد يعدّي يشوف شغله سبحان الله العظيم ، من صبح ربي هذي شني هذي شني هذي شني ، ما قلنالكم ميّة مرة شوّاية ، آءْ شوّاية !! اما لا بقـّاري ! هَيْ توكلوا علي ربكم) ، فانفض التجمّع بتثاقل وتعليقات ، ولم يبق إلا بعض الأطفال ، على بعد خطى في حذر من مصطفى .
ومصطفى سالم هذا شابٌّ ينتسب إلى قبيلة القرية، إلا أنه عاش طفولته وأول شبابه في المدينة إلى أن توفى والده الذي كان عاملا في المينا ، فعاد مع أمّه وأخواته ليكونوا قرب ذويهم في القرية .
 لم يصدق أحد من الشباب ـ كما لم يصدق مصطفى نفسُه ـ أن هذا الشاب سيستطيع العيش فيها ، لكن مصطفى بعد مناسبات ومحاولات للعودة إلى المدينة رضي بزيارتها كلَّ خميس ، ثم مع الأيام ألف القرية ، وانسجم مع أناس تجري في عروقهم نفس الدماء الجارية في عروقه ، ولم يبق من ابن المدينة ذاك إلا تلك المفاجآت التي يطالعنا بها كل رمضان ، دون أن يعي أنه بذلك إنما يطفئ حنينه إلى ذكريات المدينة .
من تلك المفاجآت الرمضانية جلبه لصندوق لعبة "الجتــّوني" ، ثم في موسم آخر أقام كشكاً لبيع "السفنز والزلابيا" ،ولكل حكاية من هذه الحكايات حكاية ، وفي رمضان موضوع حكايتنا جلب شوّاية الدجاج هذه .

بعد العصر ، حين دارت الدواليب بصفوف الدجاجات دوراتها  الأولى فوق ألسنة اللهب ، كان خبر وصول الشواية يدور أحاديث أحاديث على كل لسان في كل القرية ، ففي المسجد أثناء درس الوعظ ـ وردّا على سؤال من صبي الحلاق جار دكانه للمجزرة (شمُّ دخان الدجاج المحمّر يفطّرْ ولاّ لا ؟) ، كان الواعظ محمرّ الأوداج ، رغم محاولته أن يبدو ساخرا ، يتناول أمر هذه الآلة الغريبة الجهنمية التي هي مدعاة للترف والبذخ ، وإفساد صيام الفتية بإثارة شهوة بطونهم ومتى ؟ ، في أول يوم من أيام شهر الكفّ عن الشهوات ، ونصح الحلقة بأن يبادروا بتهوية بيوتهم ، وأن يجتنبوا ما استطاعوا اعتراض سحابة دخان الشيّ أما من اضطر فليتخذ كمامة ، وقد فهم الموعوظون بنحو ما أن هذا الدجاج ـ الذي لا علم لهم بمصدره أو كيف تم ذبحه ـ به شبهة حرمة شمه والنظر إليه فضلاً عن شرائه وأكله .

وفي السوق ـ على المصطبات المستطيلة ـ كان الكهول والشيوخ ـ بأنوف تتشمم دخان الشوّاية الشهيّ ، وبأعين تقتطف خطفا مشهد الدجاج المتقاطر دهنا كلعاب بعضهم ـ يضربون كفّا بكف صائحين بعبارات صفراء وبرتقالية وحمراء في شأن الدجاج المحمر :
ـ لا حول ولا قوة إلا بالله ، خسارة يا بوادي.
ـ والله هذا آخر زمان صحيح ، دجاج محمّر ؟ عشنا وشفنا .
ـ توّْ اصطوفة المهبول حاطّ في عقله إنّا نريدوا نشروا منّهْ ها المرطزة ؟.
ـ الله يرحمك يا حاج سالم ، ما من عصَرْ فيك ، صدق اللي قال الجمل ما يخلّفْ إلا البعر.
أما في البيوت فقد وجدت النساء ما يعينهنّ على أداء واجب يوميّ رمضاني ثقيل ، فكدن ـ من شدّة الشغف والابتهاج بهذا الخبر ـ أن يقطّعن أصابعهن على سُفر الخضروات ، كما تمنّى بعضهن لو يُعفَين من إعداد الإفطار أحياناً ، بأن يشتري لهنّ الرجال عددا من الدجاجات المحمّرات الجاهزات ، بل لقد خفت العجائز والقواعد من النساء  في رطوبة الحجرات الجوّانية ، يلملمن أرديتهن ويعالجن محارمهن في انحناء ودبيب ، كمخلوقات موسمية داهمها المطر ، ورحن يطلقن الصيحات والأدعية على مصطفى بجاه غرّة الشهر أن لا يربحه الله وأن يشويه في جهنم شيّاً ، وهن ينقلن ـ كما تنقل القطط جراءَها ـ حظائرَ الدجاج قرب الجدران ، ويحرضن الصغار على  القبض على الديوك المذعورة قبل أن تغرب الشمس ، ويغرينهم بالبيض أو الحلوى أو بأرباع الجنيهات المعطرة بالقرنفل.

عند الغروب ورغم روائح الأطعمة الرمضانية ، فاحتْ رائحة دجاجات  مصطفى سالم المحمّرة بامتياز ، وإن لم ينقص منها واحدة ، ولم يستطع صمت القرية المتأهبُ أهلها للإفطار أن يكتم زقزقةَ دولاب الشواية وهو يحتكّ بجوانبها ، وكان مصطفى سالم قد دنى من الشوّاية ليصطلي بدفئها ، وقطط القرية على أسطح البيوت وحوافّ الطرقات وعلى مظلة الدكان وتحت الشوّاية عند أقدام مصطفى تتمسّح بساقيه ، محدّقة كلُّها بأعينها على ألوانها ، حينا في الدجاجات وحينا في عينيه ، وتملأ أذنيه بمواءٍ شهوانيّ ، أغرق قلبه في حزن وشفقة على العالم الجائع .

المشاركات الشائعة