الاثنين، فبراير 14، 2011

عن العش 1




إنه لمن الأمور المثيرة للدهشة أنه ـ حتى في بيوتنا التي يغمرها الضوء ـ يستدعي وعينا بهناءة البيت مقارنةًً بالحيوانات في مآويها . نجد مثالاً على ذلك بالسطور التالية التي كتبها الرسام فلامنك عندما كان يعيش حياة هادئة في الريف : " السعادة التي أشعر بها وأنا جالس أمام النار ، بينما تهدر العاصفة غاضبة في الخارج هي هناءة حيوانية خالصة ، فالفأر في جحره ، والأرنب في وجاره ، والأبقار في الإسطبل ، تشعر دون شك بالرضى ذاته الذي أشعر به " .

وفي عالم الجمادات نضفي دلالة غير اعتيادية على الأعشاش . نريدها أن تكون كاملة ، وأن تكون علاقة غريزة مؤكدة ، ونحن نعجب لهذه الغريزة ، ونعتبر العش إحدى عجائب الحياة الحيوانية . ونجد هذا الادعاء بكون العش كاملاً في أحد أعمال امبرواز باري ، إذ يقول :
" إن الحذق الذي تبني به الطيور أعشاشها يبلغ حد الكفاءة الكاملة . إنها بهذا تتفوق على جميع البنائين والنجارين والمعماريين ، إذ لا يوجد رجل واحد قادر على بناء بيت له ولأطفاله أكثر ملاءمة من العش . يصدق هذا إلى درجة أن المثل يقول : " الإنسان قادر على صنع كل شيء عدا عش الطائر " . ولكن الحقيقة العلمية تخفف من هذا الحماس . مثال ذلك كتاب آرثر لاندربور توماس (العصافير) الذي يقول لنا فيه أن كثيراً من العصافير ما يكاد يبدأ بناؤها للعش حتى تفسده بخرق . " عندما يعشش النسر الذهبي في شجرة ، يجمع في بعض الأحيان كومة كبيرة من الأغصان يضيف إليها في كل سنة المزيد ، إلى أن يأتي يوم يسقط العش متناثراً بسبب ثقله "

تابعنا تاريخ علم الطيور ، ولكن هذا ليس موضوعنا . دعونا نلاحظ عابرين أننا هنا أمام حوار حول القيم وهو يشوه كثيراً من الحقائق بالنسبة للطرفين المتحاورين . من يدرينا بأن سقوط عش النسر لا يمنح الكاتب متعة صغيرة لكون الكاتب بحكايته هذه قد حطم معتقداً شائعاً " .


من ناحية موضوعية لا شيء يثير السخرية مثل الصور التي تنسب صفات إنسانية للعش . لا شك أن العش بالنسبة للطائر هو بيت جيد ودافئ ، ويحمي حياة الطائر حين يخرج من البيضة ، إنه يعوضه عن الزغب ـ إذ يخرج من البيضة عارياً ـ إلى أن ينبت له زغب . ولكن ما الذي يدعونا إلى التعجل وبناء صورة إنسانية ، معدة للاستعمال الإنساني ، من شيء تافه كهذا ؟ . إن الطبيعة المضحكة لهذه الصورة تبدو واضحة إذا ما قورن (العش الصغير) المريح الدافئ الذي يعد به العاشقون بعضهم بعضاً ، بالعش الحقيقي التائه بين الأغصان . الحب بين العصافير هو علاقة خارج العش ، إذ لا يبنى العش إلا فيما بعد حين تنتهي المطاردة الجنونية عبر الحقول . لو أردنا أن نتأمل هذا كله ونخرج منه بدرس لبني الإنسان ، فإن علينا أن نستنبط جدلية بين حب الغابة والحب في حجرة في المدينة . ولكن هذا ليس مدار بحثنا . إن كاتباً مثل أندريه توبرو فقط هو الذي يمكن أن يقارن العِليّة بالعش ويلحق بهذه المقارنة التعليق التالي الوحيد " ألم تحب الأحلامُ أن تحط عالياً " ، وباختصار ، فإن صورة العش في الأدب هي صورة طفولية بشكل عام .
ولهذا فإن العش المعاش هو صورة فقيرة ابتداء . ولكنها تمتلك بعض السمات الأولية التي يمكن اكتشافها بالنسبة للظاهراتي الذي يحب المسائل البسيطة .


كم مرة في حديقتي عانيت خيبة الأمل في العثور على عش بعد فوات الأوان . والوقت خريف وقد بدأت أوراق الشجر تتساقط وفي مكان التقاء غصنين أرى عشاً مهجوراً. وحينئذ أتصورهم كلهم هناك : العصفور الأب والعصفورة الأم والكتاكيت ، وأنا لم أرهم بعد .
العش الفارغ الذي يتم العثور عليه في الغابة وقت الشتاء يسخر ممن عثر عليه .
فالعش مكان اختفاء كائنات مجنحة. كيف حدث وظل غير مكتشف؟ ، كان في الأعلى ، ولكنه بعيد عن أماكن الاختفاء الأرضية الأكثر صلاحية للاختفاء . ولكن ، نظراً لأننا حتى نحدد ظلال الوجود في الصورة ، فعلينا أن نضيف إليها انطباعات فائقة . فهاهي خرافة تدفع تخيل العش الخفي إلى أقصى حدوده ، وهي مأخوذة من كتاب شاربونيه لاسيه الممتاز " قيامة المسيح" :( كان الناس يعتقدون أن طائر الهدهد يستطيع الاختفاء عن أنظار كل كائن حي ، وهذا يفسر الحقيقة التي تشير أنه في أواخر القرون الوسطى ظل الناس يعتقدون بوجود عشبة عطرية متعددة الألوان في عش الهدهد والتي يستطيع من يمتلكها أن يختفي عن الأنظار)

قد تكون هذه العشبة هي "عشبة إيفان جول المعطرة" .
ولكن أحلامنا هذه الأيام لا تجنح إلى هذا المدى ، فالعش المهجور لا يحتوي على عشبة الاختفاء السحرية . والحقيقة أن العش الذي نجذبه من الحاجز كزهرة ميتة ليس أكثر من "شيء" . يحق لي أن أمسكه بيدي وأفتته. عندما يكون مزاجي سوداوياً أصبح مرة أخرى إنسان الحقول والأحراش ، ويصيبني بعض الغرور حين أنقل معرفتي إلى طفل ، فأقول له : "هذا عش طائر القرقف" .
وهكذا يدرج العش القديم في خانة الأشياء . وكلما تنوعت الأشياء أصبح المفهوم (concept) أكثر بساطة . ولكن كلما نمت مجموعتنا من الأعشاش يظل خيالنا كسولاً ، ونفقد صلتنا بالأعشاش الحية .
إلا أن العش الحي هو الذي يستطيع أن يقودنا إلى ظاهراتية العش الحقيقي ، العش الموجود في محيطه الطبيعي ، والذي يصبح ، للحظة ، مركز الكون كله ـ وهذا المصطلح ليس مبالغة ـ ودليلاً على موقف كوني . إنني أرفع الغصن برفق . في العش أجد عصفوراً راقداً . إنه لا يطير ، بل يرتعش قليلاً . فأرتَعش لأنني جعلته يرتعش . أخاف أن تكتشف العصفورة أنني إنسان ، ذاك الذي فقدت العصافير ثقتها به . أقف ساكناً ، أتنفس بهدوء مرة أخرى وأعيد الغصن إلى موضعه . سوف أعود غداً ، أما اليوم فأنا سعيد لأن العصافير قد بنت عشاً في حديقتي . وعندما أعود في اليوم التالي ، سائراً برفق أكثر من اليوم السابق ، أرى ثماني بيضات وردية اللون في العش ، لكم هي صغيرة ! .
هذا عش حي مسكون ! العش بيت الطائر . عرفت هذا منذ زمن طويل ، حكاه لي الناس لفترة طويلة . والواقع أنها قصة عتيقة إلى حد يجعلني أتردد في روايتها لنفسي . ورغم هذا ، فأنا مررت بهذه التجربة مرة أخرى للتو . إنني أستطيع أن أستعيد بوضوح تلك الأيام من حياتي التي عثرت فيها على عش حيّ . إن مثل هذه الذكريات الحقيقة نادرة في الحياة . وإنني لأفهم جيداً سطور توسونيه هذه المأخوذة من كتابه "دنيا العصافير" : (إن ذكرى اكتشاف أول عش عثرت عليه بنفسي ظلت محفورة في ذاكرتي بشكل أعمق من ذكرى أول جائزة حصلت عليها في مدرسة النحو على النص اللاتيني . كان عش طائر غرِد جميل وكان فيه أربع بيضات وردية تتخللها خطوط حمراء مثل تلك التي تتخلل خارطة الكرة الأرضية . استولى علي فرح لا يمكن وصفه إلى حد أنني ظللت واقفاً دون حراك لمدة ساعة ، أرقب . في ذلك اليوم وبطريق الصدفة ، اكتشفت مهنتي) .
أي نص جميل لأولئك الذي يبحثون دوماً عن الاهتمامات الأصيلة ! ولكون توسونيه استجاب منذ البداية ، بهذا القدر من "الانفعال" ، فهو يساعدنا على إدراك كونه قد نجح في دمج فلسفة فورييه الهارمونية بكليتها في حياته وعمله وأضاف أيضاً حياة خارطة ذات أبعاد كونية إلى حياة الطائر .
وفي الحياة العادية ، فالرجل الذي يعيش في منطقة الأحراش ، يكون العثور على عش ، بالنسبة له ، دوماً مصدر انفعال جديد . كتب عالم النبات فرناند ليكوين أنه بينما كان يسير يوماً هو وزوجته ماتيلدا رأى عش طائر غريد على شجرة زعرور سوداء : "ركعت ماتيلدا ومدت إصبعها ، وبالكاد لمست الطحلب الناعم ، ثم أبعدت إصبعها ، ولكنها أبقته مدوداً ..." فجأة أخذت ارتعش .. " " لقد اكتشفت للتو الدلالة الأنثوية ، لعش قائم فوق مفترق غصنين . واتخذ الحرش دلالة إنسانية جعلتني أصيح : لا تلمسيه ، أهم شيءٍ ، لا تلمسيه " .
إن انفعال توسونيه وارتعاش ليكونين يحملان علامة صدق . اخترتهما من قراءتي ، لأنه في مثل هذه الكتب نستمتع بدهشة (اكتشاف العش) .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· غاستون باشلار . جماليات المكان . ترجمة غالب هلسا . الطبعة الثالثة . المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع . 1987م . ص 100 ـ 105.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة