الاثنين، يناير 24، 2011

نهاية




هـذا الصباح ، في المستشفَى في المدينة ، لفظ مؤذن مسجد القرية العتيق منذ خمسين سنة ، آخر أنفاسه عندما كان ضوء شمس الحادية عشرة لا ينسكب – بفضل السحب - عبر نافذة حجرته على سريره في بيته في القرية ، لو عاش لنصف ساعة أخرى ؛ حتى دخل عليه مرافقه النهارىّ من أبنائه ، لعلم منه أن الوادي قد قطع الطريق بين القرية والمدينة .

زحف كلُ أهل القرية إلى الحيّ القديم ، فكنت تراهم رجالاً ونساءً وأطفالاً ؛ يصّعدون مثل قطعان الماعز مجلِّلين الهضبة ؛ التي بللتها زخـّة شؤبوب عبرت الليلة البارحة .


لم يكن نبأ فاجعاً ، لكنه كان يبعث على درجة من التأثر ؛ كما لو أن الريفيين قاموا في الصباح الباكر فوجدوا صنوبرة ساحة الحيّ الهرمة نائمة على الطريق .

حتى قبيل الخمسين عاما كان هذا الميت ـ الذي كان مؤذناً شيخاً ـ فتىً عربيداً جوّالاً على كارّو يتنطق بشملة حمراء ؛ يغرس بينها وبين خصره من اليسار قنينة خمر ؛ وفي الجانب الأيمن خنجراً يشهره على بعض أصحاب الدكاكين والقصّابين ؛ آمراً هذا بأن يناوله كم علبة حلوى طحينية ، وذاك بأن يضع له هاتيك السقيطة ، وإلاّ أغمد خنجره في عين هذا أوفي كرش ذاك ، ثم يتوجه من هناك إلى القرية ، ويظل يرشف من قنينة الخمر تلك ، لكنه من منتصف المسافة ، بعد أن تعبث الخمر بحواسه الخمس يبدأ في صبّ لعناته على الحمار ؛ متهما إياه بأنه حمار حقا وخمران ، ويلهب مؤخرته بسوطه السودانيّ ليعود به من جديد إلى نقطة إنطلاقهما .

بعد رحيل كثير من الإيطاليين عن البلاد إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية ، استردّ الفتى دكان جدّه في القرية أسفل القلعة ، الذي كان قد جعل منه تاجر إيطاليّ يدعى كاتالينو و زوجته اليهودية خمارة .

حدّثنا ذات عشية ، تحت ظلال المسجد ، حديثاً عصبياً متقطعاً أنه إذا كان لا يعرف ما الذي ظل يدفعه طوال مراهقته إلى التشرد والانحراف ، فإنه أيضاً لا يعرف ما الذي حلّ به ، وهو يمسح بنظراته ذلك الدكان المستعاد لأوّل مرة بعد سنوات ؛ لا يعرف كيف خطر له أن يحوّل تلك الخمارة المستردة إلى بيت لله ، وهو الذي لم يضع جبينه على الأرض منذ طفولته ؛ حين كان يحاكي والده أثناء صلاته .

مسجدٍ لأهل القرية البدو الذين تقاطروا إلى مباني القلعة التي هُجرت ، ليتخذوا منها كلها دون تفريق بين عنبر أو إسطبل أو كنيسة مآوي لهم ، والذين لم تجعل لهم تلك السنون السوداء من نصيب في الفقه في أمور الدين .


ـ نا أوّل واحد يذ ّن في هالقرية.

كان دائما يقول بفخر ثم يضيف بضحكة هازئة :


ـ والله يا جماعه ، وحق ربّ هالبيت ، في هالمنطقه ماكانوا عارفين فيش اندير وينما صبيت فوق سطاح الجامع وتميت نذن ، أوينما افطنت وبهتت لاوين عرب النقطه كلهم كبار وصغار وحتى الصبايا رافعين اعيونهم معاي ، ونلقاني ما عاد مسكت في روحي ، واخلطت آذان علي بكا ، وما نزلت مالسطاح زين ، نين جاني عمر هض ، هاللي توّ بعياله ، وقاللي يسلم عليك باتي ، وقالّكْ الله يرفع مقامك اللي رفعت صوت الحق في هالقريه ، وقالك راني هالموقف هض ريته في المنام ، وقالك لا اتحركش مالحوش راني جايك بعد العصر ).

ومنذ ذلك اليوم صار للمسجد مع المؤذن إمام ، ومع الأيام تطوع آخر بهدم جدار دكانه المجاور ليحوّله إلى توسعة للمسجد ، ثم شيئاً فشيئاً صار للمسجد روّاد ولجنة إشراف واسم رسميّ نقش على رخامة رصّعت جانب واجهته ، وإن ظل الناس يسمونه جامع محمد علي كريّم ، بعضهم معترفاً بفضل الرجل القائم ليلاً نهاراً على خدمة المسجد ، وبعضهم قادحاً في أسلوبه الحاد في معاملة المصلين وكأن المسجد بيته : فإلى أن عرفتْ القرية الحنفيات ظلّ هذا الإنسان بصبر وجلَد جمل ، ينقل كل وقت ، من الفجر إلى الفجر ، برميلىْ ماء (جرمانيين) يتدليان إلى جانبيه من عصا على كتفيه ، مثل كفتي ميزان ، وإلى أن وصلت الكهرباء إليها ظل يكبر ويشيخ خفية ، وهو يصعد ويهبط سلّماً حجرياً ؛صنعه بيديه ؛ إلى سطح المسجد لرفع الآذان ، ولكن لا أحد لم يره ؛ ولو مرة واحدة ؛ يطارد الأطفال المكركرين في المسجد قاذفاً وراءهم أحذية المصلين ، لاعناً آباءهم وأمهاتهم الذين لم يربّوهم ، أو قاطعاً تسبيحه أو تلاوته و مندفعاً إلى ( المواضي) ليعنف أحدهم على الإسراف في المياه ، أو عدم إحكام الحنفيات ، أو جاذباً آخر من عمامته إذا اقترب من ناقل الصوت لرفع الآذان .


بعد العصر بوقت غير قصير ، وكان قد رفع الآذانَ صوت آخرُ ، سألتني جدتي القاعدة في البيت :كيف لم يؤذن للعصر حتى الآن .

أما الليلة في السهرية ، فإني متأكد أنه سيروى ، في أكثر من حلقة دردشة ، أن الحاج محمد علي كريّم رحمه الله ، في أول يوم لناقل الصوت في المسجد ، نصحه ناظر المدرسة بأنه لم يعد هناك من داع لأن يتعب نفسه بالصعود إلى سطح المسجد ، فما عليه سوى نقر رأس الميكروفون و التصنت لوشوشته ، ثم يرفع الآذان ، وعندما فعل الشيخ ذلك وتصنت لم يسمع شيئاً فقال بتذمر : (خـرررررفي ياحليمه) ، لتسمعه القرية عبر مكبرات الصوت .


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الصورة من tajouri_sedi_abdassalam_zleetin

هناك 3 تعليقات:

  1. سعيدة بتصفح كاتب ع مستوى ثقافي راقي
    وخاصة من أبناء بلادي
    رعاك الله

    ردحذف
  2. أسعد الله كل أوقاتك يانسمة . أنا أيضاً سعيد بمرورك وكلماتك . وأعد نفسي بزيارة مدونات نسمة . دمت

    ردحذف
  3. شكرا لأنك سمحت لي بتصفح مدونتك ورغم انني مررت بهاوتوقفت عند بعضها ولم يسمح لي الوقت بالآطلاع الكامل عليها ولكنني سأوحاول في مرات ومرات حتى اطلع عليها كلها. فخور ان من قريتنا شاب شاعر وقاص ومعد برامج واضيف له لقب اخر وهو مؤرخ حيث انه يكتب ويسرد في احداث ووقائع وتاريخ تجاوز الثلاثين سنه من تجاربه الشخصيه اضافة الى محكيات وروايات وقصص واحداث رواها له بعض من شيوخنا وعجائزنا . اتمنى لك التوفيق دائما .

    ردحذف

المشاركات الشائعة